درس حريق نوتردام: لا تعتمدوا على أصحاب المليارات

درس حريق نوتردام: لا تعتمدوا على أصحاب المليارات


28/07/2019

ترجمة: محمد الدخاخني


لا شك أنّكم تتذكرون هذه القصّة: كاتدرائية نوتردام في باريس، التي تُعدّ من بين أقدم المباني وأكثرها قُدسية على الأرض، تقع في مرمى النيران. وبينما كانت تنتشر صور الحريق المُستعر في كافة أرجاء العالم، أخذت النعوت تنهمر على الحادث: إنّه لأمر فظيع، كارثي، شيطاني.

في غضون ثلاثة أيام من حريق نوتردام تمخّضت طبقة المليارديرات في فرنسا عن حوالي 600 مليون يورو

وفور إخماد الحريق، سارع بعض أغنى أغنياء فرنسا للمساعدة في عملية إعادة البناء. وهكذا، أعلن فرانسوا هنري بينولت، صاحب نصيب الأسد في شركة "غوتشي"، عن مبلغ 100 مليون يورو. ولكي لا يتفوق عليها أحد، أعلنت عائلة أرنو التي تُدير شركة "لوي فويتون" عن 200 مليون يورو. وبعد ذلك، انضم المزيد من الأثرياء إلى المزايدة، كما لو أنّ الواقعة عبارة عن مزاد على أحد أعمال الفنان الإنجليزي، داميان هيرست. وفي غضون ثلاثة أيام فقط، تمخّضت طبقة المليارديرات في فرنسا عن حوالي 600 مليون يورو، أو بالأحرى هذا ما أعلنت عنه بياناتهم الصحافية.

 فرانسوا هنري بينولت

قِلّة من الناس ساءلت هذا الاستعراض المشهدي للتقوى من جانب الأثرياء، وأنا أحد هؤلاء السّاخطين المحترفين. وكان بعض من يفترشون شوارع باريس، والبالغ عددهم 3.600 شخص، قد عبّروا عن احتجاجهم على مقدار المبلغ الذي أمكن العثور عليه من أجل سقفٍ جديدٍ لكاتدرائية، دون جمع سنت واحد لوضع سقف فوق رؤوسهم، ومع ذلك، ماذا يعرف الفقراء عن كل ما هو سامٍ ورفيع؟ من كافة المقاعد الأخرى، لا نسمع سوى صوت التّصفيق الحارّ.

اقرأ أيضاً: حريق نوتردام: كيف تحول نقاش في العمارة إلى جدل سياسي؟

"يمكن للمليارديرات في بعض الأحيان أن يكونوا نافعين للغاية"، هكذا قال محرر مجلة "موني وييك". ويقول ستيفان بيرن، وهو شخصية تلفزيونية فرنسية شهيرة، "الجميع إلى جانبنا". ومن جانبه، وبعد أن تدفقت عليه النقود، أخذ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عهداً على نفسه بإعادة بناء السقف القوطي الذي يمثل تُحفة فنية في غضون خمسة أعوام. امتلأت الصفحات الأولى للجرائد والمجلات، وكذلك ساعات التلفزيون والراديو، وأخذ العالم يمضي في طريقه. لكن، من شبه المؤكد أنّك لم تسمع بقية القصة، ومع ذلك يجب عليك معرفتها؛ لأنّ تطوراً مفاجئاً بشكل هائل قد حل بها.

يُقدّم الأثرياءُ الأموالَ للمؤسّسات الكبرى في قلب ثقافاتنا لتأمين وضعهم الاجتماعي في اللوحات التذكاريّة وفرص التّصوير

تمر الأسابيع والشهور ولا ترى نوتردام شيئاً من وراء هؤلاء المليارديرات. ويبدو أنّ وعود منتصف نيسان (أبريل) قد نُسيت بحلول منتصف حزيران (يونيو). "إنّ المتبرّعين لم يدفعوا. ولا سنتاً واحداً"، يقول مسؤول كبير في الكاتدرائيّة للصحافيين. وما جرى إرساله عبارة عن مبالغ متواضعة جداً، من أفراد أقل ثراء بكثير. يقول أحد القائمين على الأعمال الخيرية: "كانت محض إيماءات جميلة"، ليس أكثر.

وقد أدّى ذلك إلى انتشار زوبعة من الأخبار على عدة وكالات أنباء، تقدّم بعدها اثنان من المتبرعين الأثرياء، وهما من عائلتي أرنو وبينولت، بـ10 ملايين يورو عن كل منهما. ثمّ حلّ الصمت. والأسئلة التي طرحتُها هذا الأسبوع على مختلف المتبرعين والجمعيات الخيرية لم تُقابل إلى حدّ بعيد بأيّ إجابات. (ربّما تكون مكاتبهم مشغولة أو مفرغة بسبب العطلة الصّيفيّة).

ما جرى إرساله عبارة عن مبالغ متواضعة جداً

لكن في الوقت الحالي، دعونا نُطلِق على ما حصل "حكاية المليارديرات المختفين"، وهي حكاية تُخبرنا الكثير عن مثالب العمل الخيريّ الحديث. سواء جاءت التبرعات من عائلة ساكلر، صاحبة فضيحة العقاقير الأفيونية، أو من شركة "بريتيش بتروليوم" كما في المتحف البريطاني، فغالباً ما يتمّ ذلك وفق شروط الأثرياء وجداولهم الزمنيّة، حيث يُخبّئ الكرم الملحميّ خلفه صفقةً أصعب بكثير.

اقرأ أيضاً: كاتدرائية نوتردام تحيي أول قداس بعد الحريق

في وقت الحريق، الذي وقع على مقربة من نهر السّين، تزاحمت تعبيرات القلق على وجوه مرتدي الكشمير من أمثال هؤلاء. خُذ العائلة التي تقف وراء شركة "لوريال"، والتي أعلنت في ذلك الوقت كيف "تأثّرت بهذه المأساة التي وحّدت الناس من مختلف الثقافات والمعتقدات" وأنّها "تنوي المشاركة في الجهد الجماعي والمواهب اللازمة لمواجهة هذا التحدي الهائل، الذي يمسّ قلب بلدنا". ولكن بحلول منتصف حزيران (يونيو)، لم تقم هذه العائلة سوى بتسليم صفر كبير من الأموال. والأمر نفسه ينطبق على شركة النفط العملاقة "توتال".

بعض الأشخاص الذين تعهّدوا بتقديم تبرّعات إلى نوتردام كانوا من بين الذين موّلوا صعود ماكرون إلى الرّئاسة

يقول يسوع: "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ"...، غير أنّ المليارديرات الذين وعدوا بهذه المبالغ الضخمة حصلوا على كلّ الرصيد الشعبي دون أن يقدّموا أكثر من جزءٍ ضئيل من المال الموعود به.

لقد راكموا الدعاية، ووضعوا شروطاً لم نسمع عنها خلال الرّبيع الماضي. بصفتها قائمة على عدة أعمال خيرية، قالت سيليا فيروت: "إنّه تبرّع طوعي، ولذلك تنتظر الشركات رؤية الحكومة لمعرفة ما تريد تمويله بالتحديد". يبدو الأمر كما لو أنّ المشروع الكبير لإعادة بناء تُحفة من القرن الثاني عشر ليس أكثر من بوفيه إفطار يمكن للمرء أن ينتقي منه ويختار.

تعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بث تلفزيوني بإعادة بناء الكاتدرائية في اليوم التالي للحريق

وفي الوقت نفسه، يجب دفع رواتب 150 عاملاً في الموقع. فـ300 طن أو نحو ذلك من الرّصاص في سقف الكنيسة تشكل تهديداً سامّاً يجب تنظيفه قبل عملية إعادة البناء. وتخضع النّساء الحوامل والأطفال الذين يعيشون في أماكن قريبة لفحوصات دم لاحتمال حدوث حالات تسمّم. لكن تمويل مثل هذه الأعمال غير المثيرة والأساسية لا يعني المليارديرات من أصحاب شركات السّلع الكمالية. وكما قال مسؤول في نوتردام الشهر الماضي، إنّهم لا يريدون أن تذهب أموالهم "فقط لدفع رواتب الموظّفين". أعوذ بالله! ليس على المرء اختيار ذلك في وقتٍ يمكنه فيه أن يهبَ الأجيال المقبلة بازيليكا "غوتشي" أو متجر هدايا "مويت هينيسي"..

اقرأ أيضاً: هل حفّز حريق "نوتردام" من "كراهية الإسلام" عند اليمين الأوروبي المتطرف؟

بالنّسبة إلى فاحشي الثراء، العطاء هو نفسه الأخذ. أخذ السُّلطة، أي من بقيّة المجتمع. سيحصل المليارديرات على إمكانية الوصول الحصري إلى "رؤية" لإعادة بناء معلَم وطنيّ، ويمكنهم الاعتراض على هذه الخُطط؛ لأنّها في حال لم تعجبهم، يمكنهم حجب أموالهم. والمال دائماً أقوى الأصوات، وهو في حوزتهم. لا يهمّ أنّ معظم هذه الأموال يأتي فعلياً من الناس؛ حيث يمنح القانون الفرنسيّ إعفاءات ضريبية هائلة تبلغ 66% على أي تبرع، السُّلطة هنا شأنٌ خاص بالكامل. إنّ الحدّ الأقصى السنوي لهذه المساهمات يشكّل بلا شك سبباً حكيماً لكبار المتبرعين للترنح في كرمهم.

اقرأ أيضاً: العالم يتضامن مع فرنسا.. كيف احترقت "نوتردام"؟ .. فيديو وصور

سواء في فرنسا أو بريطانيا أو الولايات المتّحدة، يُقدّم الأثرياءُ الأموالَ للمؤسّسات الكبرى في قلب ثقافاتنا لتأمين وضعهم الاجتماعي في اللوحات التذكاريّة وفرص التّصوير. وبالطّريقة نفسها، يموّلون أحزابنا السياسية، ثمّ يستمتعون بالعمولات عندما يشكلون الحكومة. وكما تشير جوليا كاجي، وهي خبيرة اقتصاديّة من معهد سيانس بو في باريس، فإنّ بعض الأشخاص الّذين تعهّدوا بتقديم تبرّعات إلى نوتردام كانوا من بين الذين موّلوا صعود ماكرون إلى الرّئاسة. في كتابها الأخير الذي حصد عدداً من الجوائز، والذي سيُنشر بالإنجليزيّة العام المقبل تحت عنوان "The Price of Democracy ثمن الدّيمقراطية"، تشير كاجي إلى أنّ 600 من أثرياء فرنسا قدّموا ما بين 3 ملايين و 4.5 مليون يورو لحملة ماكرون الانتخابية. وبعبارة أخرى، فإنّ 2% من بين كافة المتبرعين شكّلوا ما بين 40-60% من إجمالي تمويل حملة ماكرون، "إلى الأمام". وفي غضون بضعة أشهر، قام الرّئيس الجديد بتخفيض الضّرائب على الأثرياء، ومنح أغنى متبرّعيه "عائداً يصل تقريباً إلى 60.000% على استثمارهم". وكما هو الحال في قضيّة نوتردام - إيداع صغير، والكثير من التّأثير، والهائل من التّعويض.

يُقدّم الأثرياءُ الأموالَ للمؤسّسات الكبرى في قلب ثقافاتنا لتأمين وضعهم الاجتماعي في اللوحات التذكاريّة

ربّما نكون، أنا وغيري، قد أخطأنا إدراك الأمر برمّته. فيمكن لهؤلاء المليارديرات، بجرّة قلم، دفع المال بالكامل دون أيّ شروط. لِنرى. لكن المفارقة فيما يخصّ كلّ هذه الأموال الهائلة تكمن في الآتي: كم غريب ذلك عندما يتعلّق الأمر بصورة فرنسا عن نفسها. في منتصف هذا العقد، كان بإمكان الرئيس الفرنسي آنذاك، فرانسوا هولاند، التباهي بأنّه لا يحب الأثرياء. لكن في ذلك الوقت، كان ما يزال بإمكان البلاد مواساة نفسها بذكرى "الثلاثون المجيدة": العقود الثلاثة المجيدة بعد الحرب العالمية من الإدارة الاقتصاديّة الكينزيّة والمساواة النسبية. لا أكثر. هذا، وتشير دراسة حديثة شارك في تأليفها توماس بيكيتي، ضمن آخرين، إلى أنّه منذ عهد فرانسوا ميتران في الثمانينيات والتسعينيات، كان هناك 30 عاماً مجيداً آخر، لأولئك الذين هم في القمة، والذين ارتفع دخلهم الحقيقي ثلاثة أضعاف معدل معظم السكان.إنّ العواقب السّياسيّة والثّقافيّة لهذا تواجهنا الآن.

قلّة ثرية تتداولها الصحافة لم تُصدر أي شيكات وتعتمد على الآلاف من الفرنسيين العاديين للحصول على المال بدلاً من ذلك

يمكن أن ينتقل ماكرون من العمل في الخدمات المصرفيّة الاستثماريّة إلى قصر الإليزيه حيث يدّعي أنّه على الضّدّ من ترامب، لكنّه، شأنه شأن بُعبُعه، لا يستطيع تخفيض الضرائب بقوّة كافية لمساعدة أصدقائه الأثرياء، وكلّ ذلك في الوقت الذي يخفض فيه مزايا الرعاية الاجتماعية والتمويل المدرسي لخفض ميزانيته. والعطاء الخيريّ، أيضاً، قد تأثر بالطريقة الأمريكية. فكما أخبرني توماس روليت من جامعة كامبريدج، فإنّ المتبرّعين الكبار في باريس الآن يقلدون شرّيبي الشمبانيا والمتجولين من أصحاب النّفوذ في وول ستريت.

لقد جاءت مأساة نوتردام بنهاية سعيدة مُسطَّحة: لقد غمس أثرياء فرنسا أياديهم في جيوبهم لإنقاذ جزء من التراث العالمي. لكن ما بدا مأساوياً في السابق يبدو الآن بشعاً: قلّة ثرية تتداولها الصحافة لم تُصدر أي شيكات وتعتمد على الآلاف من الفرنسيين العاديين للحصول على المال بدلاً من ذلك، حتّى في وقتٍ يتمّ فيه قلب الاقتصاد بأكمله ليعود بالفائدة على أولئك الذين لديهم النصيب الأعظم بالفعل.


المصدر: أديتيا تشاكرابورتي، الغارديان



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية