ديمقراطية النهضة وعرش الغنوشي: من يسقط أولا

ديمقراطية النهضة وعرش الغنوشي: من يسقط أولا


20/09/2020

مختار الدبابي

لم تنجح الخلافات الماضية داخل حركة النهضة في إحراج رئيسها راشد الغنوشي الذي نجح في تذويبها وتحويلها إلى عنصر داعم له داخل تنظيم يحاول أن يتخلص من إسلاميته عبر التمسك بالواجهة الليبرالية تحت عناوين براقة مثل الانفتاح وتبني المدنية والاحتكام للديمقراطية في إدارة شؤونه وصراعاته.

لم تنجح تلك التحركات والصيحات الصادرة عن قيادات بارزة مثل عبدالحميد الجلاصي ورياض الشعيبي في خلخلة عرش الغنوشي المتين، لكنها وفرت التراكم الكافي لبروز كتلة نوعية تضم 100 من قيادات متنوعة (تاريخية وتنظيمية ومحلية، في القيادة التنفيذية وفي مجلس الشورى) تطالب بتنحي الغنوشي وتقطع الطريق أمام فكرة التمديد له عبر تأويل القانون الداخلي، أو عبر تمكين المؤتمر القادم من إيجاد تخريجة تتيح له البقاء لدورات إضافية، على شاكلة ما يحدث في أنظمة من العالم الثالث تعتقد أن الرئيس هو الضامن الوحيد للاستقرار وأن بقاءه، ولو لعقود، هو الحل.

والمثير أن قيادات موقعة على العريضة نفت أن تكون سربت الوثيقة إلى وسائل الإعلام، ما يعني أن الشكوك يمكن أن تتوجه للغنوشي وفريقه بالوقوف وراء تسريب الوثيقة في مسعى لإحراج خصومه أمام الأنصار في الوقت الذي تجد النهضة نفسها في مواجهات متعددة مع الرئيس التونسي قيس سعيد، ومع الحزب الحر الدستوري، فضلا عن ضغوط خارجية متعددة.

الغنوشي يمكن أن يوصف بأنه أقدم رئيس حزب سياسي في الشرق الأوسط، حيث بقي قرابة نصف قرن تخللتها انقطاعات ظرفية بسبب طوارئ (سجن، أو اختفاء، أو وجود بالخارج). وارتبطت شرعية القيادات، التي كانت تخلفه والتي يتم انتخابها عادة، بخروجه إلى العلن، فلا شرعية انتخابية أمام شرعية الأمير المستمدة من ثقافة الطاعة والولاء التي تأسست عليها الجماعة الإسلامية ذات الخلفية الإخوانية، وهي ثقافة ما تزال تهيمن داخل الحزب الإسلامي (النهضة) بالرغم من الضربات والصدمات التي تتلقاها بين الفينة والأخرى.

أوراق الخصوم

السؤال الذي يطرح الآن في النقاشات التي باتت توفر لها مواقع التواصل الاجتماعي حدّا أوفر من الحرية والجرأة: ماذا تحمل مجموعة المئة من ثقل تاريخي وفكري وتنظيمي لإجبار الغنوشي على تقديم تنازلات لخصومه قد لا يكون بينها المطلب الرئيسي أي وقف التمديد لدورات جديدة استنادا على قرار المؤتمر التاسع الذي حدد دورات رئيس الحركة في دورتين متتاليتين، وكان الهدف منه إجبار الغنوشي على إخلاء المكان وفسح المجال لبروز شخصية جديدة تستفيد من مناخ الحرية لبناء مقومات كاريزما خاصة بها.

ربما يتم النفخ في قدرات قائمة المئة لاعتبارات سياسية، وأساسا نكاية في الغنوشي، أو البحث عن “هدية من السماء” تفضي إلى تفكيك الحركة الأخطبوطية التي تمكّنت من المشهد السياسي وظلت تديره باقتدار. لكن من المهم البحث عن خصوصيات هذه “الفرقة الناجية” ومدى قدرتها على إحداث “الزلزال” الذي يتوقعه بعض المراقبين والسياسيين.

تتكون المجموعة من فسيفساء قيادية مهمة تظهر توزع تأثيرها على واجهات مختلفة داخل الجسم التنظيمي، إذ فيها قيادات تنفيذية عاملة إلى جانب الغنوشي وفي مواقع متقدمة مثل نورالدين العرباوي رئيس المكتب السياسي، وفتحي العيادي رئيس مجلس الشورى السابق، وعماد الحمامي الوزير السابق وأحد أبرز التيار البراغماتي، وهناك نواب بالبرلمان، وقيادات تاريخية في مجلس الشورى، وقيادات محلية ذات تأثير ميداني.

لكن المجموعة ستظلّ محدودة التأثير والاستقطاب في ظل شروط موضوعية فشلت “عرائض” سابقة في القفز عليها أو مجرد حلحلتها، من ذلك أن الانتماء داخل النهضة لا تتحكم فيه عناصر موضوعية خاصة ما تعلق بالبرامج والأفكار والكتل الفكرية أو المناطقية، ففي تنظيم سرّي وبخليفة إخوانية ما يزال عامل الولاء والبيعة للقيادة هو المتحكم بالرغم من كل الجدل حول فصل الدعوي عن السياسي أو التحول إلى حزب مدني محافظ يستمد موجهاته الكبرى من الإسلام.

وهو ما أشار إليه الباحث الجامعي سامي إبراهم حين وصف هذه “الانتفاضة” ضد الغنوشي بأنها “أشبه بنقض ما بقي من نظام البيعة الذي تأسست عليه الجماعة الإسلاميّة الأولى والخروج عن شكل من الانتظام التّقليدي القائم على ثنائيّة الإمامة والزّعامة والطّاعة في المنشط والمكره والشّورى المعلمة غير الملزمة”.

أوراق “الزعيم“

يمتلك الغنوشي ورقة أهم قد تدفع الكثير من مجموعة الـ100 قيادي إلى التراجع، وهي قضية التمويل والرواتب في حركة فيها العشرات من المتفرّغين في مقراتها المركزية والجهوية والمحلية، وفي وجود العشرات من القيادات التاريخية التي تحصل على رواتب من الحزب، وأيّ غضب من الغنوشي أو من المتنفّذين من حوله يمكن أن يدفع بأيّ قيادي مهما كان وزنه إلى الشارع.

ولا يتحكم الغنوشي فقط في قرار القيادات التاريخية من بوابة الرواتب، فهو يتحكم في القيادات الجديدة الوافدة على الحزب بعقلية براغماتية والتي تجعله يمسك بمفتاح التعيينات في مؤسسات حكومية أو شبه حكومية ضمن مسار المحاصصة الحزبية في بناء الحزام الحكومي.

ومن الواضح أن هذه المحاذير كانت في حساب القيادات التي وقّعت على العريضة، والتي كانت تتوجه إلى الغنوشي بخطاب هادئ فيه رجاء واستعطاف وحثّ على السماح بالتداول على المواقع القيادية. ولم يكن الحجاج الذي بنيت عليه العريضة المطولة قائما على تنوع المطالب لتطال برامج الحركة وتطوير أداءها في الملفات الاقتصادية والاجتماعية، أو دعوة إلى مراجعات، وحتى في الملف السياسي، فقد اكتفت العريضة بنقطة وحيدة هي التداول على القيادة، أي أنّ الهدف هو تبادل المواقع ضمن نفس النموذج الذي أسّس له الغنوشي.

عريضة المئة تريد من الغنوشي أن يتنازل عن عرشه بهدوء وأن “نبقى حبايب”، لكن الرسالة المضادة التي روّجت باسم الغنوشي، وقد لا تكون له، أعادت هؤلاء إلى أرض الواقع، حيث قال لهم إنه الزعيم التاريخي، وإن سنن رؤساء الدول لا تتماشى مع وضعه.

وينتظر أن يتم التبرّؤ من الرسالة بعد أن أدت هدفها في إيصال رد الغنوشي القاطع وبأسلوب حاد مع ما تخلله من مراوحة بين السخرية والنصيحة والاستعلاء.

ويقول متابعون للجدل داخل النهضة أن الغنوشي يمتلك وضعا أفضل من خصومه، حيث أن غالبية المؤسسات تحت نفوذه، فضلا عن امتلاكه ورقة المؤتمر وتأويل القوانين، فقد دأبت الدول والأحزاب والمنظمات على إيجاد تخريجات تقدر من خلالها على الهروب من القوانين، كما أن التمسك بفكرة أن المؤتمر سيد نفسه ستتيح للغنوشي التمديد في راحة تامة في ضوء هيمنته المالية والمعنوية على التنظيم ذي الخلفية الإخوانية، والذي ظل ينظر إلى الديمقراطية على أنها شورى، والشورى يمكن ألا تكون ملزمة، وكذلك قرار المؤسسات.

والظاهر أن تمرير الفصل الـ31 في المؤتمر العاشر كان في سياق ترضيات وامتصاص غضب بعد أن نجح الغنوشي في ترويض “صقور” الخط المقابل وإعطائهم وعودا كثيرة سرعان ما ذهبت مع الريح، واضطر بعض هؤلاء الصقور إلى الانسحاب الصامت أو إعلان الاستقالة والتنفيس عن أزماتهم في بيانات مقتضبة أو عبر الظهور الإعلامي، وظل الغنوشي الرجل الأول في الحزب.

ومن الآن يتنبأ سمير ديلو، القيادي الذي يشاع أنه من يقود مغامرة رفع التحدي أمام الغنوشي، بأن المؤتمر لن يغيّر شيئا وأن “مؤتمرات المغالبة تنتهي بالفشل ومستقبل صعب ينتظر النهضة”.

وتساءل ديلو في رد مبطّن على رسالة منسوبة للغنوشي “لماذا نفرّق بين ما يسري على الدول وبين ما يسري على الأحزاب، لا شخص صالح لكل زمان ومكان زعيما كان أو رئيسا”.

وينتظر أن يكون الفرز الآن على قاعدة من يكون مع توافقات قبل المؤتمر لترتيب واقع القيادة وأسماء القادة، وهذا ما يريده المعارضون الذين يأملون التوصل إلى حل وفاقي مع الغنوشي ربما بخلق وظيفة شرفية له شبيهة بدور المرشد الذي يستشار في كبار الأمور، وقد يرضى بها الغنوشي لتكون بوابة الحكم من وراء الستار.

وهناك خط ثان يريد أن يحسم الخلافات داخل المؤتمر، الذي هو سيد نفسه، وسيكون في خدمة الغنوشي وفريق المتنفذين من حوله. وفي الحالتين قد يكون الرئيس الحالي للنهضة أكبر المستفيدين.

بدائل محدودة

لا يقف إلى جانب الغنوشي البراغماتيون فقط، فهناك شخصيات يفترض أن تكون آليا في صف الغاضبين اعتمادا على تاريخها مثل العجمي الوريمي الذي قال إن “على النهضويين ألا يحسموا ما هو من مشمولات المؤتمر خارج المؤتمر وقبل انعقاده”. ربما بهدف معرفة موازين القوى الحقيقية سواء ما تعلق بنفوذ الغنوشي أو بشعبية خصومه.

كما سعى محمد القوماني القيادي القادم من اليسار الإسلامي إلى الإمساك بالعصا من الوسط بالقول إن “سدّ الشغور في منصب الرئيس لا يعني حلّ مشكل القيادة”، بمعنى أن الديمقراطية مضامين وشبكة علاقات وأنه لو ذهب الغنوشي فقد لا تقدر القيادة على تغطية تأثيره خاصة في شبكة العلاقات الخارجية.

وخلص القوماني إلى القول إنه “لا توجد شخصية مناسبة داخل حركة النهضة لخلافة الغنوشي”.

لقد أرسل خروج بعض القيادات الوازنة دون أن تحقق أيّ شيء من مطالبها، مثل حمادي الجبالي وعبدالفتاح مورو وعبدالحميد الجلاصي، إشارات قوية إلى الذين يفكرون بمصير مشابه بالوقوف في وجه الغنوشي، وهو ما يجعل الأغلبية من عريضة المئة تتراجع عن خيارها تحت الترغيب والترهيب وخوفا من مسار من سبقوا.

قد يبقى من هؤلاء المعترضين من يثبت على قراره، ومن ثمة هم يفتحون الباب أمام الخروج النهائي قبل المؤتمر أو خلاله أو بعده، والوجهة ستكون تشكيل جسم تنظيمي شبيه بالمؤتمر الشعبي في السودان حين خرج الراحل حسن الترابي عن حزب عمر البشير، وهو حزب إخواني مطعمّ بعسكريين وانتهازيين جلبتهم الرغبة الكاسحة إلى الحكم.

وسيكون دور الحزب الجديد ترديد الشعارات القديمة وتصبح محاولة استعادة صفة الإسلامية ذات وقع السحر في الاستقطاب، والتبرؤ من مسار البراغماتية ما بعد 2011، أي يقترب من ثقافة الفصيل الطلابي في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته (حركة ثورية تقدمية) وفي نفس الوقت كسب ثقة التيار الدعوي الذي فرض عليه الانكفاء والاكتفاء بالدروس في المساجد والاستقطاب.

وقد تفضي سياسة التجميع إلى استعادة الكثير من المنسحبين، لكن توليفة المتناقضات قد تؤدي إلى الانفجار. وبالتوازي، سيظل الجسم الأكبر الماسك للشرعية والنفوذ والمال والعلاقات الدولية بيد الغنوشي.

وأيّا كانت نتيجة هذا الصراع سواء بتراجع الغنوشي عن مساعي التمديد أو قبول الخصوم بالأمر الواقع، فإن النهضة ستكون تحت امتحان عسير نتائجه ستكون مهمة في تقليص تمدد الحركة ونفوذها داخل المؤسسات، وطمأنة الناس على أنها تحولت إلى حركة مدنية تحتكم إلى القانون وتتخلى، ولو مرغمة، على ثنائية الزعيم الملهم، والقطيع المطيع.

عن "العرب" اللندنية

الصفحة الرئيسية