رسمي أبو علي يترجل ضاحكاً

رسمي أبو علي يترجل ضاحكاً


09/01/2020

لعلّه عندما أغمض عينيه، للمرة الأخيرة، ليلة أمس الأربعاء بالعاصمة الأردنية عمّان، كانت المرة الأولى التي يهدأ فيها الأديب والإعلامي الأردني رسمي أبو علي عن المشاكسة والسخرية، منذ ميلاده في قرية المالحة المقدسية في العام 1937، والتحاقه بالمعهد العالي للفنون المسرحية في القاهرة في العام 1964، ثم انخراطه في الوسط الإذاعي وصفوف الثورة الفلسطينية.

أبو شايب: معظم مثقفينا لم يقرأوا أبو علي ولم يعرفوا المذاقات التي برع في ابتكارها ليجعل حياتنا ألذ وأثمن

ما إن أعلنت عائلة أبو علي وفاته، حتى انثالت كلمات رفاقه في الوسط الثقافي لنعيه واستذكار ماضيه الثوري والإنساني، ومنجزه الأدبي، المتمثل في ستة مؤلفات، كانت باكورتها مجموعة قصصية تحت عنوان "قط مقصوص الشاربين اسمه ريس" 1980، وديوان شعر معنوَن بـِ "لا تشبه هذا النهر" 1984، ورواية "الطريق إلى بيت لحم" 1990، وديوان شعر "ذات مقهى" 1998، وسيرة ذاتية بعنوان "أوراق عمان الخمسينات" 1998، ومجموعة قصصية تحت عنوان "ينزع المسامير ويترجّل ضاحكاً" 1999.

"حفريات" التقت مجموعة من أصدقاء ورفاق أبو علي الذين نعوه بهذه الكلمات، مستذكرين مكانته الأدبية والإبداعية، والفراغ الذي تركته روحه الإنسانية في وجدانهم.

ولد الراحل في قرية المالحة المقدسية في العام 1937

أبو شايب: ساخر من أنظمة حياتنا المهترئة

يقول الشاعر زهير أبو شايب: ليس الموت هو المرعب، نحن لا نعرفه، اهتراء الحياة هو الذي يصيبني بالذعر، هؤلاء الذين يموتون يتركون ثقوباً في حياتنا لا يمكن رتقها، هكذا تهترئ حياتنا ونحن نتفرّج عليها بعجز كامل، هذا هو المرعب، رسمي أبو علي لا مثيل له، وما سيتركه من خرق في مادة هذه الحياة البالية لا يمكن إصلاحه بالنسبة لي.

حوامدة: حينما كان القصف على غزة التقيته في عمّان وانفجر باكياً وقال: قلبي لم يعد يحتمل المزيد من الموتى

ويتابع أبو شايب: نحن دائماً نحوّل الراحلين إلى مادة متحفية لنوهم أنفسنا بأننا نكنزهم في ذاكرتنا الثقافية، ونحوّلهم إلى قيمة، لكننا في الحقيقة نتحول إلى ما يشبه جامعي الموتى، هذا أيضاً مرعب، يُفترَض أنّ كاتباً وشخصاً فذاً مثل رسمي أبو علي هو كائن مضاد للموت وصانع حياة حقيقي، أظنّ أنّ معظم مثقفينا لم يقرأوه ولم يعرفوا المذاقات التي برع في ابتكارها ليجعل حياتنا ألذ وأثمن، لا فائدة قط من المراثي التي ندبّجها في توديع صنّاع حياتنا المخذولين، الذين أنفقوا أعمارهم كلها في محاولة إنقاذنا ثم اكتشفوا أنّنا لا نشعر بوجودهم إلا حين يموتون.
رسمي أبو علي من القلائل الذين سخروا جيداً من أنظمة حياتنا المهترئة، وجعلوا من السخرية فعل مقاومة. وغيابه سيجعل حياتنا الثقافية أكثر تجهماً وأقل حكمة.

حوامدة: مات حكيم الثورة

حوامدة: قلب كبير يستوعب كل التناقضات

من جهته، قال الشاعر موسى حوامدة: مات حكيم الثورة، في آخر جلسة جسلتها مع رسمي أبو علي في مقهى "كوكب الشرق" في عمّان قبل ثلاثة أشهر قال لي "لا بد أن نعيد تقييم الثورة؛ لقد فلشنا وعليهم أن يتوقفوا، لنعيد التفكير في طريقة جديدة نقررها نحن الشعب الفلسطيني".
كان رسمي أبو علي، القاص والكاتب الساخر، يحمل قلباً بحجم العالم، قلباً محباً وكبيراً يستوعب كل التناقضات الفلسطينية ويعيد صياغتها بطريقته.

اقرأ أيضاً: رحيل صالح علماني صوت الإسبانية العربي
يتابع حوامدة: قال لي: "كتبت قصة حداثية بينما كانت الثورة في لبنان، وكتبت شعراً حداثياً وكنت أريد أن أقول لهم لن ينفعنا الأدب القديم".
في العامين الأخيرين اختلف أبو علي وصار ناقداً للوضع كله، وكان يقول لي "لنعترف؛ ضللنا الطريق، وعلينا أن نفكر بصياغة ميثاق وطني جديد"، وحينما كان القصف على غزة التقيته في عمّان وانفجر باكياً وقال "قلبي لم يعد يحتمل المزيد من الموتى يا موسى".
لقد أنجبَ الشعب الفلسطيني مبدعين كثراً منهم؛ إبراهيم طوقان وغسان كنفاني وعز الدين المناصرة ورسمي أبو علي، لكن للأسف تم إهمال أسماء مثل أبو علي، في وقت تم فيه تكريس أسماء أخرى.

أبو رقطي: فلسطيني حتى النخاع

وعن علاقته بالراحل قال الكاتب زعل أبو رقطي: رسمي أبو علي الفلسطيني حتى النخاع، الشاعر والأديب الملتزم، والإعلامي المتميز، والمذيع الهادئ، عرفته عن قرب في إذاعة الثورة الفلسطينية في مدينة درعا السورية في أوائل السبعينيات، كنت لا أزال في بداية رحلتي مع العمل الإعلامي، وكان هو يكتب التعليق السياسي ويقرؤه بصوت الواثق والمتمكن والهادئ، كان متواضعاً وخلوقاً وملتزماً ومقرّباً من الجميع.

أبو رقطي: أبو علي قامة وطنية وسيبقى صوته في الذاكرة الوطنية كأحد المؤسسين الأوائل للعمل الإذاعي والإبداعي

بعد إغلاق الإذاعة بدرعا افترقنا، عاش في بيروت في زمن الثورة الجميل، وبقي يمارس دوره النضالي في مجال الإعلام والأدب والشعر، وتنقّل في كل مواقع الثورة وأماكن تواجدها،  وبقي ملتزماً بالخط الوطني رغم كل التقلبات التي واجهت العمل الوطني، واستقرّ به المطاف أخيراً في الأردن؛ حيث عكف على كتابة الشعر والأدب.
ويردف أبو رقطي: رسمي أبو علي قامة وطنية وإعلامية عالية، وبرحيله نفتقد شخصية مميزة ومعطاءة بلا حدود، وسيبقى صوته في الذاكرة الوطنية كأحد المؤسسين الأوائل للعمل الإذاعي والإبداعي، ومن الكوادر الفاعلة التي تستحق التكريم والتقدير، بغيابه نفتقد كادراً وطنياً وقامة إعلامية كبيرة، لروحه الرحمة ولعائلته الصغيرة والكبيرة الصبر والسلوان.

الريماوي: سيظلّ رسمي أبو علي نموذجاً للأديب الموهوب المرهف

شنب: لا تستطيع أن تكرهه

أما القاص جمعة شنب فقال: يرحل الطيّبون أيضاً! ما كان لرسمي المحبّ للحياة وللناس وللمقاهي والأسطح، وقرية المالحة، حارس رصيف العالم منذ مطلع الثمانينيات، ما كان له أن يرحل بهذه البساطة؛ رسمي الذي تختلف معه، لكنّك أبداً لا تستطيع أن تكرهه؛ لأنّه لا يعرف الكراهية، رسمي المبتسم، المتفائل، الصامد الصابر، خذله الموت في هذا المساء الحزين، رسمي اللطيف الساخر الذي قصّ شاربي القطّ، رحل، هكذا، ببساطة.

الريماوي: مثقف تنويري يتخطى الأيديولوجيات
وعن شهادته في الراحل قال القاص محمود الريماوي: سيظلّ رسمي أبو علي نموذجاً للأديب الموهوب المرهف الذي اختطّ طريقاً جديدة في السرد الأدبي الفلسطيني، وذلك في مزجه الذكي بين المأساة والملهاة والالتفات إلى التفاصيل الإنسانية والمكانية الصغيرة وتعظيم شأنها والجرأة على ملامسة التحرر الاجتماعي، والتابوهات السياسية، والإعلاء من قيمة الفرد بدلاً من الاندراج في الجمهور والجموع، ما يجعله مثقفاً تنويرياً يتخطى الأيديولوجيات والنزعة الشعارية.

اقرأ أيضاً: 25 عاماً على رحيل توفيق زياد
ويزيد: هو شخص بالغ اللطف والأنس واللباقة، لا يأبه لبهارج الدنيا وقشورها، ويصادق أبسط الناس ويشاطرهم يومياتهم كأنّه أحدهم، فيما كان الطريق أمامه مفتوحاً لو شاء لبلوغ مراتب اجتماعية أعلى، وبغيابه تخسر الحياة الثقافية مثقفاً بارزاً ذا نزعة نقدية، من غير أن ينغمس في معارضات استعراضية أو تمرّد نمطي، ما جعله نسيج ذاته، يجمع بين روح الانطلاق والتمرّد وبين رصانة المثقف وجدّيته، وذلك في توليفة لطيفة ومُشعّة عز نظيرها. إلى اللقاء أيها الصديق الحبيب، وإلى أن نلتقي فسوف أشتاقك كثيراً، وسوف أفتقدك بكل مرارة.

عبد العزيز: فقدنا فلسطين مرة أخرى
الشاعر يوسف عبدالعزيز نعى رفيقه بقوله: الصديق رسمي أبو علي وداعاً، برحيلك يا حبيبي فقدنا فلسطين مرة أخرى، وتيتّمنا.
ففي قامتك الساحرة تحتشد البلاد كلها، وتلتمع قباب البيوت، وتصهل أمواج بحر يافا وحيفا.
ترى، ما الذي نفعله الآن وقد غادرنا قدّيس الرصيف، وملك الكلام؟
في غيابك؛ الحياة لم يعد يُعوَّل عليها، لا النساء، ولا القصائد، فأنت حين غادرتنا أخذت كل شيء جميل معك.
السلام على روحك أيها الأمير.

فركوح: رافض التأطير
بدوره رثى الناشر والروائي إلياس فركوح الراحل قائلاً: أنتَ "رجل الرصيف"، بمعنى أنت خارج جميع المؤسسات، أنت كاسر للأطر ورافض التأطير، أنت امتلكتَ حريتك حتى النهاية.. استرحْ، فهذا العالم نذل.

شاعر وأديب ملتزم وإعلامي متميز

محمد: لم يصل إلى نيسان!
وعن الراحل قال الشاعر والباحث زكريا محمد: الوصول إلى نيسان كان أمله الأخير. كان رسمي أبو علي يلعب كطفل في "منشوراته" على صفحته "فيسبوك"، باستثناء الشهر الأخير الذي أحس فيه بالموت يقترب. وفي واحد من "منشوراته" نشره قبل ما يقرب من أسبوعين من رحيله أبدى أمله في أن يصل إلى نيسان. قال في ما أذكر: إن وصلت إلى نيسان نجوت سنة أخرى. وكنت في قلبي أدعو له أن يصل إلى نيسان. لم أخبره بذلك، لكنّ قلبي دعا له بالوصول. ولم يصل إلى نيسان. كانت الطريق إلى نيسان مقطوعة. وقف به فرسه في أول كانون الثاني وأسقطه عن ظهره. وفي تقاليدنا يكمن الموت في شباط. شباط هو قاتل الشتاء الحقيقي. لكن كانون الثاني هو الذي قتله. لقد أثبت نيسان أنّه بعيد وأنّ زهرته مخفية، وأنّ الوصول إليه وهم.

شنب: رسمي لا يعرف الكراهية، مبتسم ومتفائل، هو اللطيف الساخر الذي قصّ شاربي القطّ رحل هكذا ببساطة‎

وتابع محمد حديثه: لم تكن علاقتي برسمي وطيدة جداً. كانت لقاءاتنا عابرة سواء في بيروت أو عمان أو رام الله. لكنني صحبته مرة لمدة ثلاثة أسابيع في رحلة إلى روسيا وأوزبكستان. زرنا طقشند وبخارى وسمرقند. ومن هناك جلب اسم ابنته (أوميديا) التي ذهبت قبله شابة إلى الموت. وربما كتبت يوماً ما تبقى في ذاكرتي عن هذه الصحبة. في هذه الرحلة عرفت ما عرفته عنه. وإن كان لي أن أقول كلمة عنه فإنني أقول إنّه صانع سيناريوهات كبير. أمضى حياته وهو يصنع سيناريوهات لحل القضية الفلسطينية. كان عقله دوامة متواصلة من السيناريوهات. ولم يكن يهمه أن تكون هذه السيناريوهات قريبة من الحقيقة. ولست أعرف حتى إن كان يصدق هو ذاته سيناريوهاته أم أنّه كان يسخر بها من السامعين ومن القضية والكون. في الشهر الأخير كان لدى رسمي سيناريو واحد فقط: الوصول إلى نيسان. ولم يصل.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية