رغم الفوضى والفساد: لماذا لا يسقط النظام الإيراني؟

رغم الفوضى والفساد: لماذا لا يسقط النظام الإيراني؟


22/06/2021

ترجمة: محمد الدخاخني

منذ أن كان محمّد آية الله طبار طفلاً سمع تنبّؤات واثقة بأنّ الحُكم المتشدّد في وطنه، إيران، محكوم عليه بالفشل.

يقول: "منذ الثّورة، سادت هذه الحكمة التّقليديّة بأنّ النّظام لن ينجو"، حتّى بعد أشهر قليلة من استيلاء الثّوار على السّلطة في إيران، عام 1979، "قال النّاس إنّ الحُكم سينهار في غضون عام".

لم يكن ذلك بالاعتقاد السّخيف، فقد واجه نظام الحُكم الإيرانيّ الجديد العزلة في الخارج، والاضطّرابات الّتي تحوّلت إلى حرب أهليّة في الدّاخل، وحرباً مدمّرة مع العراق المجاور.

لكنّه تحمّل، وفي بعض الأحيان خلق، سلسلةً من الأزمات من النّوع الذي أصاب حكومات أكثر ثراءً وأعمق جذوراً.

تبدو إيران اليوم وصفة مثالية لعدم الاستقرار؛ جمهورٌ خائب الأمل، وغاضب في بعض الأحيان، واقتصادٌ في حالة من الفوضى، واستشراء للفساد وسوء في الإدارة، وتورّطٌ في الخارج، وكرهٌ دوليّ، يوم الجمعة، أجريت انتخابات رئاسيّة قاطعها معظم البلاد، وكانت بمثابة صفعة أخرى لشرعيّة النّظام الذي عانى جُرحاً تلو آخر على مدى ثلاثة عقود.

يقول طبار، الذي يدرس الآن النّظام السّياسي الإيرانيّ في جامعة تكساس، "إيه آند إم": "ومع ذلك فقد نجا (نظام الحُكم)".

الدّكتاتور الأوحد، غير المؤسّسي، لا يحتكر السّيطرة على المجتمع. يستمرّ لـ 8 أو 10 سنوات، أو 12 سنة، يواجه أزمة ويسقط، يشيخ ويسقط

لقد تحدّت هذه الاستمراريّة افتراضات الخبراء والخصوم الأجانب ومواطني إيران، وعلى ما يبدو، فإنّ القوانين الأساسيّة للتّاريخ، ومع تعثّر الحكومات، التي تبدو أكثر استقراراً، أو سقوطها بمعدّل متزايد في كافة أنحاء العالم، يتعمّق اللّغز.

قد يُسلّط عدد متزايد من الكتابات الضّوءَ على سرعة تكيّف إيران مع كلّ الصّعاب، ووجد بحث جديد أنّ إيران تنتمي إلى نادٍ صغير من الدّول التي أثبتت أنظمتها أنّها من أكثر الأنظمة ديمومة في العالم: تلك الأنظمة التي تشكّلت من ثورة اجتماعيّة عنيفة.

من بين هذه الأنظمة كوبا وكوريا الشّماليّة، خصمان آخران لأمريكا أحبطا عقوداً من الجهود للإطاحة بهما، إضافة إلى الصّين وفيتنام والجزائر والعديد من الدول الأخرى، يبلغ متوسّط ​​العمر الافتراضي لهذه الدّول ضعف متوسط ​​عمر الأنظمة الأخرى تقريباً، كما أنّ احتمالات صمودها لأكثر من 30 عاماً تضاعف أربع مرّات تقريباً.

اقرأ أيضاً: وسط تضارب حول نسب المشاركة الحقيقية.. إعلان فوز رئيسي بالانتخابات الإيرانية

لا يتعلّق الأمر بحكم هذه البلدان بشكل جيّد على نحو خاصّ، أو بأنّها تُقاد بحكمة، في الواقع؛ البؤس شائعٌ في كثير منها، لكنّها تشترك في مجموعة ضيّقة من السّمات الّتي يعتقد الخبراء أنّها قد قوّتها ضدّ القوى الّتي تعرّض الحكومات السّلطويّة للخطر.

على نحو قد يبدو لافتاً جدّاً للنّظر، لم تنزعج الأنظمة الثورية إلى حدّ كبير من حقبة تضع الديمقراطيات والديكتاتوريات على حدّ سواء في حالة اضطراب متزايد، وقد يساعد فهم هذه الأنظمة النّاشزة في الكشف عن سبب مواجهة كلّ نظام آخر تقريباً لعدم الاستقرار.

لماذا تستمرّ الثّورات؟

التقط ستيفن ليفيتسكي، أستاذ العلوم السّياسيّة بجامعة هارفارد، هذا الاتّجاه مع لوكان واي، من جامعة تورنتو، أثناء عملهما على دراسة السّلطويّة، وقد أدركا أنّه عندما انهارت الحكومات الشّيوعيّة في جميع أنحاء العالم، عام 1989، كانت الحكومات الخمس التي نجت جميعها حكومات دول ثوريّة، ومعظم الحكومات التي سقطت ليست كذلك.

يقول ليفيتسكي: "تُعدّ النّجاة من نهاية الشّيوعيّة أمراً كبيراً للغاية"، وبقيت الدّول الخمس كلّها، بعد عقود، صامدة حتّى مع صعود أنظمة الحكم وسقوطها في كلّ مكان من حولها.

وكذلك كانت الحال مع خمس دول ثوريّة أخرى لم تكن شيوعيّة، لكنّها أثبتت أنّها طويلة العمر، معظمها استمرّ لأكثر من ربع قرن.

اقرأ أيضاً: جرائم إيران بحق المعارضين... تسلسل الأحداث خلال 4 عقود

درس ليفيتسكي وواي، وقد تملّكهما الفضول، البيانات الخاصّة بكلّ حكومة في جميع أنحاء العالم، منذ عام 1900، ووجدا مراراً وتكراراً أنّ الأنظمة الثّوريّة استمرّت لفترة أطول ونجت من أزمات لم تنج منها الأنظمة الأخرى (هذا لا يعني بقاء هذه الأنظمة إلى الأبد، لقد ظلّ الاتّحاد السّوفيتيّ، وهو النموذج الأشهر في العالم، صامداً بشكل مثير للاستغراب لـ 69 عاماً، ثمّ انهار داخليّاً).

هل يمكن أن تفسّر بعض السّمات الأخرى طول عمر هذه الأنظمة؟ لا: حتّى مع السّيطرة على عوامل مثل الثّروة أو الموارد الطّبيعيّة أو تكوين الحكومة، استمرّ هذا الاتّجاه.

اقرأ أيضاً: السفير الإيراني حسن إيرلو يثير سخط اليمنيين من جديد... لماذا؟

لقد لاحظا شيئاً آخر: شَهِدت هذه البلدان انخفاضاً في الاحتجاجات الجماهيريّة أو محاولات الانقلاب أو الانشقاقات بين النّخبة الحاكمة بنسبة 72 في المئة مقارنةً بالدّول الأخرى، وهذه هي الأسباب الرّئيسة لوفاة الدّيكتاتوريّة، كان الأمر أشبه باكتشاف الجين الّذي يُقلّل من خطر الإصابة بأزمة قلبيّة بمقدار ثلاثة أرباع.

حدّد الباحثان حفنة من السّمات الّتي تفسّر هذا الحَيْد.

الثّورة نفسها، بالتّعريف، تتوّج بتدمير جذور وفروع النّظام القديم، المنظمات القاعديّة، مثل رجال الدّين أو طبقة التّجار، الّتي يمكن أن تتحدّى سيطرة الحكومة على المجتمع، تُطهّر أو تهمّش في الغالب، وكذلك المؤسّسات التي تعمل من أعلى إلى أسفل، مثل الجيش والبيروقراطيّة الإداريّة.

قد تكون الثّورة مؤهّلة أو غير مؤهّلة لإدارة كلّ وظيفة في الدّولة والمجتمع، لكنّ العملية تتركها بلا منافسين حقيقيّين من الدّاخل أو من الأسفل.

وتمتدّ هذه السّيطرة عادةً إلى كلّ مستوى من مستويات الجيش والأجهزة الأمنيّة، الّتي يملؤها المؤمنون الحقيقيّون، كلّ هذا يزيل مخاطر حدوث انقلاب أو انهيار الآخر، ويجعل القادة أكثر جرأة في استخدام هذه القوّات لقمع المعارضين.

بالرّغم من أنّ الانتخابات الإيرانية لم تجلب إلّا القليل من الاحتجاج، فإنّ شبح الاضطّرابات الجماهيريّة والأزمة السياسيّة يخيّم على كلّ عمليّة تصويت

الأنظمة الثّوريّة متماسكة بشكل ملحوظ، قد تكون هناك خلافات وصراعات على السّلطة، لكنّها بين الثّوار الّذين يقبلون بالنّظام كما هو، ويعملون على صيانته، من أصغرهم إلى أكبرهم.

عادةً ما يُرسَّخ هذا الالتزام المشترك بالقضيّة في الأيّام الأولى للبلاد، منذ أن حاربت الممالك الأوروبيّة فرنسا الثوريّة، غالباً ما أعقب معظم الثّورات حرب ضدّ البلدان المجاورة، وفي مواجهة تهديد خارجيّ، حتّى المجتمع المنقسم غالباً ما يتّحد للدّفاع عن القضيّة، وسوف يُعيد تشكيل نفسه من رماد الاضطّرابات الثّوريّة، حول تضامن وانضباط، في زمن الحرب، يمكن أن يشكّلا المجتمع الجديد لأجيال.

إصرار إيران

جلبت انتفاضة عام 1979 كلّ هذه السّمات بقوّة، لقد حطّم زعيمها، روح الله الخمينيّ، النّظام القديم بأكمله، وأقام مؤسّسات ثوريّة كانت ذات قدرة متواضعة، لكنها متحمّسة أيديولوجيّاً.

وواجهت حرباً شِبه فوريّة مع جارتها، دولة العراق، المدعومة من دول تخشى انتشار الثّورة، توحّد قادة الثّورة والجيش والأجهزة الأمنيّة، واستغلّوا اللحظة لتطهير المجتمع من المنافسين والمعارضين.

كان من المتوقّع أن تستسلم الثّورة للاقتتال الدّاخليّ عندما توفّي الخمينيّ عام 1989؛ انتشرت الخلافات في العلن، وأصبحت الأجهزة العسكريّة، وقد انفصلت عن زعيمها، أكثر استقلالاً، وطالب المواطنون بديمقراطيّة أكمل، لكنّ الحركة احتفظت بجذور عميقة عبر المؤسّسات والمنظّمات الاجتماعيّة، ممّا جعلها متّحدة.

يقول طبار: "ليس بالرّغم من هذه الأزمات، ولكن في الواقع بسببها تحديداً، نجا النّظام".

اقرأ أيضاً: الاحتلال الثقافي الإيراني يتفاقم: تعليم الأطفال في سوريا اللغة الفارسية

منذ ذلك الحين، كما يقول، أخطأ المراقبون كلّما عدّوا لحظات الاضطراب في إيران تنافساً مريراً على السّلطة في التّسعينيّات، واحتجاجات الحركة الخضراء عام 2009، دليلاً على انهيار النّظام.

يقول: "في الواقع، هذا النّوع من انقسام النّخبة يقوّي فقط مرونة النّظام ككلّ".

انتهت كلّ حلقة بحشدٍ أقوى لقادة ومؤسّسات البلاد وراء نظام الوضع الرّاهن، وإظهار عامّ لوحدتهم، وتهميش للمنافسين.

وبالرّغم من أنّ إيران غير عادية بطريقة ما، فهي تتضمّن لمسة متواضعة من الدّيمقراطيّة، والتي تفتح المجال لكلّ من المعارضة العامّة والفصائليّة السّياسيّة، قد لا يكون هذا من طبيعة تساوميّة كما يبدو.

يقول ليفيتسكي: "هناك منافسة جادّة حقيقيّة، وخلافات جدّيّة حقيقيّة"، ويضيف: "لكن كلّ ذلك داخل الفصائل الثّوريّة".

اقرأ أيضاً: بين مرشدين اثنين.. كيف يتشابه الإخوان وإيران؟

معظم السّياسيّين، حتّى أولئك الذين يدافعون عن إصلاح عميق أو يخسرون في المنافسات الّتي يُتلاعَب بها، يظلّون منغمسين في النّظام.

ومع ذلك، بالرّغم من أنّ الانتخابات التي جرت هذا الأسبوع لم تجلب إلّا القليل من الاحتجاج، فإنّ شبح الاضطّرابات الجماهيريّة والأزمة السياسيّة يخيّم على كلّ عمليّة تصويت، خاصّةً تلك التي يُنظر إليها على أنّها مزوّرة.

لكنّ إيران قد تكون الاستثناء الّذي يُثبت القاعدة، عندما تنحرف عن القاعدة الثّوريّة، فإنّها ترى مزيداً من عدم الاستقرار ومزيداً من التّحدّيّات في الدّاخل، لكنّها، تحت السّطح، حالة نموذجيّة، وقد يكون هذا هو السّبب في أنّها، بعد 42 عاماً، وما يقرب من العديد من الأزمات الوطنيّة، ظلّت متينة بشكل مثير للاستغراب.

عالم غير مستقرّ

هذا الإصرار هو إنذار لمن يأمل بسقوطٍ كوبيّ أو إيرانيّ، وقد يلقي الضّوء أيضاً على سبب مواجهة كلّ نوع آخر من الحكومات تقريباً لعدم استقرار متزايد،

إنّ السّمات الّتي تُحدّد الأنظمة الثّوريّة، المأسسة القويّة، الوحدة المجتمعيّة، التّماسك السّياسيّ، آخذة في التّدهور في جميع أنحاء العالم.

قد يكون هذا هو السّبب في ظهور شكل من أشكال الحكم على الضدّ تماماً من تلك السّمات: حكم الرّجل القويّ.

يلخّص ليفيتسكي الأمر قائلاً: "الدّكتاتور الأوحد، غير المؤسّسي، لا يحتكر السّيطرة على المجتمع. يستمرّ لـ 8 أو 10 سنوات، أو 12 سنة، يواجه أزمة ويسقط، يشيخ ويسقط".

عالم اليوم مضياف للرّجال الأقوياء، أو على الأقلّ لصعودهم، المعايير الدّيمقراطيّة تتعثّر، والمشاعر الشّعبويّة ترتفع، والمؤسّسات تضعف، يُثبَّت بعض هؤلاء بالقوّة، ويُنتخَب المزيد منهم داخل الدّيمقراطيّات المهتزّة التي يفسدونها على الفور.

اقرأ أيضاً: إيران في اليمن: كيف وصل البلد "السعيد" لكل هذا الدمار؟

يفتقر كلّ هؤلاء إلى وجود بنية تحتيّة على مستوى المجتمع، وهو ما تمتلكه الحركة الثّوريّة، إنّهم عرضة لتقلّبات المشاعر وتقلّبات مؤسّسات مثل الجيش أو القضاء أو الحزب.

قد يكون هذا هو السّبب في أنّ كثيرين يحاولون إعادة إنتاج الثّورات من الأعلى، حتّى أنّ البعض يسمّيها كذلك، لكنّ معظمهم يفشلون، ممّا يؤدّي إلى الإطاحة بهم، حتّى النّجاحات عادةً ما تنهار عند رحيل القائد.

يتضمّن هذا دروساً للدّيمقراطيّات أيضاً، حيث تكافح في ظلّ اتّجاه عالميّ قد يساعد، بشكل غريب، الدّول الثّوريّة.

يقول ليفيتسكي: "هذا النّوع من الاستقطاب، الذي يُهدّد بتدمير العديد من الدّيمقراطيّات، ربما ينتهي به الأمر إلى تعزيز الأنظمة الثّوريّة"، النّوع الصّحيح، الذي يصوّر المعارضين كتهديد، يمكن أن يُبقي الطّبقات الحاكمة موحّدة في المعارضة.

يقول ليفيتسكي إنّه عندما بدأ هو وزميله في تتبّع مثل هذه الحكومات قبل عقد من الزّمن، حدّدوا 10 منها، ومنذ ذلك الحين، جاءت وذهب ديمقراطيات كان يتابعها في مشروع منفصل، وأخذ العالم يحظى برجال أقوياء، على نحو أكثر سرعة.

لكن قائمة الدّول الثّوريّة لم تتغيّر إطلاقاً، يقول: "ما تزال (هذه الدّول) هناك".

مصدر الترجمة عن الإنجليزية:

ماكس فيشر، النيويورك تايمز، 20 حزيران (يونيو) 2021



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية