سلامة كيلة.. فارس يساريّ أصيل يترجّل

سلامة كيلة.. فارس يساريّ أصيل يترجّل


04/10/2018

يقول أمل دنقل: "والطيور التي لا تطير، طوت الريش، واستسلمت.

هل ترى علمتْ أنّ عمر الجناح قصير... قصـير"؟

في الحكايات القديمة، كان الفارس دوماً في مقدمة الصفوف، لم تعرف الأساطير فارساً يحتمي خلف جنوده، فهو يقودهم باستمرار فاتحاً الطريق نحو مجد أو عرش، أو أميرة حالمة، ومن ثم كان مستحقاً للنصر في معاركه الطويلة، أو الموت بشرف في ميادين الشرف.

هكذا كان فارس اليسار الذي ترجل أخيراً، ربما لم يكن سلامة كيلة يمتلك بنية الفرسان الجسدية، لكنه امتلك شرف القتال واقتحام الصفوف الأولى في شجاعة وجرأة وإصرار فرسان العصور البعيدة، وهو مثلهم كانت معاركه لا تنتهي، قبل أن يترّجل أخيراً ويضع السيف إلى الأبد.

اقرأ أيضاً: عرّاب التفاؤل التاريخي سلامة كيلة يرحل بعد صراع مع المرض والاستبداد

من فلسطين جاء كما جاء من قبل الفدائيون المقاتلون والأنبياء، في بيرزيت ولد وشب مشبعاً بحكايا المقاومة وأحلام العروبة والانتصار، ذات مساء قال لي: "في حزيران (يونيو) عام 1967 كنت قد تجاوزت العاشرة بقليل، أخذت أتنقل في عصبية بين المذياع الذي يحمل أنباء النصر وبين الشرفة، مترقباً وصول جيش التحرير العربي الفاتح، فإذا بي أشاهد مقدم جنود الاحتلال الصهيوني، ساعتها أدركت أنني لم أعد طفلاً" .

مع كل انكسار كان كيلة يملك خططاً لتحقيق نصر بعيد، كان دوماً يبني خطاً ثانياً للدفاع عن حلمه، حلم التحرر الذي تكوّن في مخيلته واستبد بها، ذهب للمقاومة مع من قاوموا، ليطل على العالم من شرفة بندقية، علها تأتي بالخلاص، بين سجون الاحتلال وأنين جسده الضعيف اختار عقله الانحياز إلى التيار الأحمر، من فلسطين إلى بغداد عكف على الدرس والقراءة، لكنّ عوالم التنظير لم تأخذه، فنشط في تنظيمات اليسار العربي الماركسي، ليعرف غياهب السجن من جديد، لكنه في هذه الآونة وضع يده على نقاط الضعف التي أنهكت اليسار العربي.

مع كل انكسار كان سلامة كيلة يملك خططاً لتحقيق نصر بعيد وكان دوماً يبني خطاً ثانياً للدفاع عن حلمه

انتشرت كتابات ومقالات كيلة بين المثقفين واليساريين العرب، وفي سوريا التي انتقل إليها، وعلى الرغم من ضراوة نظام البعث، شق طريقاً إلى معركة انتهت بسنوات طويلة من السجن والتعذيب الذي نال من الجسد المثقل بحلم كان يمنحه مزيداً من الرغبة في المقاومة.

في سنوات ما بعد الربيع العربي، حط الرحال في القاهرة، متنقلاً بينها وبين عمّان التي كانت تصادف دوماً هوى في نفسه، عرفته مقاهي القاهرة وقاعات الدرس والمحاضرات، وجلسات المثقفين والحالمين مثله، ليضع أيديهم على إشكاليات اليسار وأزمته الحقيقية، لم يتراجع أبداً عن قناعاته، فالاشتراكية في رأيه كانت الخيار الوحيد الذي من الممكن أن يفضي إلى تشكل مجتمع عربي مدني حديث، وهذا المجتمع وحده هو الأمل في إعادة صياغة الواقع على أساس المساواة والتكافؤ.

اقرأ أيضاً: المتحولون من اليسار إلى الإسلام السياسي

كان يرفض القفز على الواقع، وتمسك بالثوابت القومية رغم ماركسيته، فإذا كانت الماركسية أممية بالضرورة، وترى أنّ تحقيق الاشتراكية ينطلق من تغيير العالم، فإنها لا ينبغي أن تقفز على الواقع وتؤسس في الهواء تنظيمات لا تستطيع أن تنغرس فيه، وبالتالي يجب أن تحمل الطبقة مشروعها القومي وتتمسك به، مشروع التطور والتحرر والوحدة، كخطوة ضرورية في صيرورة الانتقال إلى الاشتراكية؛ فالحزب الماركسي في رأيه هو أممي بما هو قومي، وهو قادر على انتقال العمال والفلاحين الفقراء إلى طبقة مسيطرة في الأمة وبناء الاشتراكية، لتجسيد الأحلام المشروعة، وإنجاز الاستقلال والوحدة وتطوير الاقتصاد، عن طريق الانتقال الى الاشتراكية؛ حيث إنّ تصاعد الصراع الطبقي يمكن أن يطرح الاشتراكية على صعيد عالمي كبديل للنظام الرأسمالي.

اقرأ أيضاً: الإسلامويون شيطنوا الماركسية ووصفوا منظّرها بأنه يناصر الرعاع

حاول كيلة من خلاله أعماله النظرية التي تدفقت من عقل، ربما كان يشعر صاحبه أنّ العمر قصير، ليحاول رأب الصدع اليساري التي انكشف جماهيرياً وتنظيمياً بعد الربيع العربي، مؤكداً هذا التفكك والتشتت هو الذي جعل الاشتراكية حلماً طوباوياً عسير التحقق، خصوصاً بعد انهيار النظم الاشتراكية، وأنه لابد من العودة إلى ماركس، بعدماً أصبحت كل الماركسيات من الماضي، وقد أغرقت في المثالية، وتحولت إلى عقيدة، لهذا فشلت وستبقى فاشلة؛ لأنها نفت الماركسية لمصلحة تصورات مثالية متلبسة الشكل الماركسي، وعلينا أن نحقق نفي النفي بإعادة بناء الماركسية على أساس جوهرها، بفهم الواقع لكي نعيد بناء آليات تفكيرنا على أساس ذلك، بعدما فقدت النظرية روحها وتحولت إلى قوانين ومبادىء مشوهة.

واجه كيلة في كتاباته أفكار جماعة الإخوان وما خرج عن عباءتها من تنظيمات إسلامية ساهمت في تشويه المشهد العربي

واجه كيلة في كتاباته وطروحاته أفكار جماعة الإخوان، وما خرج عن عباءتها من تنظيمات إسلامية، ساهمت في تشويه المشهد العربي، مؤكداً أنّ جماعة الإخوان المسلمين دافعت عن البنى التقليدية كلها، ليس على صعيد الوعي الديني فقط، وإنما على صعيد الإقطاع والنظم الملكية، باعتبارها جماعة يمينية ورثت في بنيتها كل خطايا اليمين الرجعي، وأنّ صعودها عقب الثورات العربية، أظهر التناقض بين ما تطرحه من خطاب ثوري وما تقوم به من ممارسات تسعى من خلالها إلى التمكين، كما أظهر أنها تميل إلى فرض سلطة دينية تستطيع من خلالها الهيمنة على المستوى الإداري والثقافي والقانوني، دون أن تحمل حلولاً حقيقية لمشكلات الشعوب، كما انتقد المحاولات الساعية إلى الإصلاح الديني، رغبة في استنساخ ما حدث في أوروبا، مؤكداً أنّ الثورة البروتستانتية لم تكن الممهد للثورة الصناعية، فالتطور الذي حدث تجاوز في كثير من البلدان عملية الإصلاح وقفز فوقها، فانتصار الرأسمالية هو الذي جعل الدين شأناً خاصاً، وبالتالي فإنّ التطور لم يسر تسلسلياً، بحيث يجري في البدء الإصلاح الديني، ومن ثم ينشأ عصر التنوير، ومن ثم انتصار الحداثة، وبالتالي فإنّ ربط الأزمة التي يعيشها الفكر العربي بمسألة عدم تحقق الإصلاح الديني ليس صحيحاً، فهيمنة فكر الحداثة كان ممكناً في التجربة الأوروبية بدونه، وعلى مفكري الحداثة الذين يتذرعون بعدم حصول إصلاح ديني، لكى يجدوا مبرراً لما هم عليه من تراجع أن يشقوا وحدهم طريق الحداثة، والتي سوف تكشف المضامين التي يتخذها الفكر الديني لبسط سيطرته، وتجميد الواقع، عندها سوف يسقط من تلقاء نفسه.

غادر سلامة كيلة بجسده الواهن، بعد أن نجح في صنع المعادلة الصعبة بين الفكر والحركة. كنت أراه هنا وهناك لا يكف عن حواراته ومناظراته، وقد تجمّع حوله الشباب في إنجاز يضاف إلى مسيرته الصعبة والفريدة.

كن كما حلمتَ دوماً أيها الرفيق الصديق؛ حراً كما ينبغي، فقد وفيت وكفيت.. وتعاليت.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية