سلفادور الليندي.. استحالة تعايش الاشتراكية والتبعية

سلفادور الليندي.. استحالة تعايش الاشتراكية والتبعية


15/09/2020

في القصر الرئاسي المعروف باسم "لامونيدا" بالعاصمة التشيلية سانتياجو، في 11 أيلول (سبتمبر) من العام 1973، أطلق الرئيس سلفادور الليندي الرصاص على نفسه ليخرّ صريعاً، وستتضارب الشهادات حول سبب الوفاة، هل انتحر أم أنّ رصاصة قناص شارك في انقلاب الجنرال أوجستو بينوشيه قد قتلته؟

ستصبح تجربته في الحكم درساً سياسياً عميقاً في استحالة تعايش الاشتراكية مع الرأسمالية التابعة ببلدان العالم الثالث

قبل الهجوم على القصر الرئاسي ومقتل الليندي، كانت آخر كلماته تدوّي عبر الراديو: "أعلن أنّي لن أتنازل، إنّي مستعد لتقديم حياتي دفاعاً عن السلطة التي ائتمنني العمال عليها، إنّ هروبي سيكون أقذر من خيانة هؤلاء الجنود الذين خانوا وطنهم… عاشت تشيلي، يحيا الشعب، يحيا العمّال! هذه هي كلماتي الأخيرة، وأنا واثق من أنّ تضحيتي هذه لن تكون عبثية، وستكون العقاب المعنوي للجبن والخيانة".

برغم أخطاء تجربة الليندي، سيتحوّل السياسي المخلص والطبيب المناضل إلى شهيد وأيقونة في تاريخ الحركة السياسية في أمريكا الجنوبية بذلك المشهد المأساوي الذي انتهت به حياته، والذي سيكتمل بإخفاء مكان دفنه الذي سيظلّ مجهولاً حتى العام 1990، كما ستصبح تجربته في الحكم درساً سياسياً عميقاً في استحالة تعايش الاشتراكية مع الرأسمالية التابعة في بلدان العالم الثالث، حتى لو جاءت عبر صناديق الاقتراع.

القصر الرئاسي المعروف باسم "لامونيدا" بالعاصمة التشيلية سانتياجو

 دخل الليندي المولود في 26 حزيران (يونيو) 1908 إلى عالم السياسة مبكراً، حيث شارك في تأسيس الحزب الاشتراكي في العام 1933، وانتُخب عضواً في مجلس النواب التشيلي وعمره 29 عاماً، ثمّ وزيراً للصحة وعمره 31 عاماً، ثمّ عضواً في مجلس الشيوخ من العام 1945 حتى العام 1970، وترشّح للانتخابات الرئاسية مرّتين في الأعوام 1952 و1958، ولم يفز، لكنّه فاز في انتخابات العام 1970، بعد تشكيله جبهة "الوحدة الشعبية" التي ضمّت 6 أحزاب وتجمّعات يسارية، أبرزها الحزب الاشتراكي الذي انتمى إليه الليندي والحزب الشيوعي مستفيداً من تضامن العمال مع الجبهة بعد يأسهم من نظام إدوارد فراي السابق.

 أسباب انتخاب الليندي

واجهت الحكومة المسيحية الديمقراطية في تشيلي بقيادة إدوارد فراي تصاعداً كبيراً في حدّة الاحتجاجات العمالية خلال آخر سنتين من ولايته، ففي بداية العام 1968 دعا اتحاد النقابات العمالية إلى الإضراب العام اعتراضاً على خطط فراي المتعلقة بحظر الإضرابات، وقد أدى نجاح ذلك الإضراب إلى إشعال حماس الطبقة العاملة، حيث وقع 1939 إضراباً في العام  1968 شارك فيها ما يقترب من ربع مليون عامل، ثمّ تضاعف عدد الإضرابات حوالي 3 مرّات في العام 1969 وشارك فيها 316 ألف عامل.

أمام الاضطرابات والقلاقل التي شهدتها تشيلي وقف مشلولاً وحاصرته قوى اليمين وحرّضت ضدّه

 جاء هذا التصاعد في حدّة الاحتجاجات العمالية ليواجه تضخماً وصل إلى معدلات غير مسبوقة في آخر سنتين من حكم فراي، فضلاً عن البطالة والقمع الذي مارسه النظام، ومن ناحية أخرى، وللردّ على القمع، احتلّ الفلاحون المعدمون الأراضي، كما بدأ فقراء المدن من العاطلين وأصحاب المهن الهامشية في تنظيم أنفسهم والنضال من أجل حقوقهم في السكن والخدمات الأساسية.

الليندي ونجاح انتخابي منقوص

وفي ظل حركة الإضرابات الواسعة التي شملت أرجاء تشيلي، سينجح الليندي في الانتخابات الرئاسية ليصبح الرئيس الثامن والعشرين لتشيلي في 3 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1970، بنسبة 36.3% من إجمالي الأصوات، وبسبب عدم حصوله على أغلبية الأصوات كان لزاماً أن يوافق عليه البرلمان ذو الأغلبية اليمينية القوية التي يمثلها الحزب الديمقراطي المسيحي، ممّا سيدفع الليندي إلى الاتفاق على ما يُسمّى "قانون الضمانات" مع تلك القوة، وهو اتفاق ينصّ على أنّ حكومة الليندي ستحترم بنية الدولة، ولن تمسّ السياسات العامّة التي طوّرتها الحكومات السابقة والمؤسسات التابعة لها، مثل نظام التعليم، والكنيسة، ووسائل الإعلام، والقوات المسلحة.

أصبح الليندي أوّل رئيس ماركسي يأتي عبر صناديق الاقتراع في أمريكا الجنوبية

أصبح الليندي أوّل رئيس ماركسي يأتي عبر صناديق الاقتراع في أمريكا الجنوبية التي تمثل الفناء الخلفي للولايات المتحدة الأمريكية والتي تعتبر نفسها وصياً على كامل دول القارة، وفقاً لمبدأ "مونرو"، وقد سعى الليندي إلى تقديم نموذج مختلف نوعياً عن تجربة الاتحاد السوفييتي وتجربة الثورة المسلحة الكوبية، فالاشتراكية يمكن أن تدخل القصر الرئاسي عن طريق الديمقراطية، ولكن كان لواقع النظام السياسي التشيلي وتفاعلاته مع واقع طبقي معقد الكلمة العليا في تقرير مصير تجربة تشيلي الاشتراكية الديمقراطية.

أحلام العمال ويوتوبيا الاشتراكية

مع هذا النجاح انتعشت آمال وطموحات العمال في إمكانية تحويل المجتمع التشيلي إلى مجتمع اشتراكي كلياً، وتعويض عقود من الاستغلال والتربح الذي مارسته الرأسمالية التشيلية بحق العمال، وخاصّة مع تأميم سلفادور الليندي شركات النحاس الأمريكية بدون دفع تعويضات، وشراء المناجم والمصانع، كما رفع أجور العمال وثبّت أسعار السلع الأساسية، وأمام كلّ تلك الإنجازات الاشتراكية زاد سقف توقعات العمال والفلاحين وتعطشهم لمزيد من الإجراءات الاشتراكية، فشهدت تشيلي 1758 إضراباً و1278 واقعة احتلال أراضٍ ضدّ أصحاب المصانع والأراضي.

كانت آخر كلماته: أعلن أنّي لن أتنازل إنّي مستعد لتقديم حياتي دفاعاً عن السلطة التي ائتمنني العمال عليها

وفي المقابل، أثارت تلك الإجراءات غضب الأحزاب اليمينية التي اعتبرت ما جرى إخلالاً باتفاق "قانون الضمانات"، فقام كبار رجال المال والأعمال بتصدير استثماراتهم إلى الخارج، وتعمّدوا تخزين السلع دون بيع لحدوث اختناقات اقتصادية؛ ما دفع بالوضع إلى مزيد من الاحتقان.

خيانة بينوشيه

أمام الاضطرابات والقلاقل التي شهدتها تشيلي وقف سلفادور الليندي مشلولاً، فقد سبقته الطبقة العاملة بمطالبها التي لا تنتهي وحاصرته قوى اليمين وحرّضت ضده؛ ممّا أدّى إلى شلل عام في مرافق الدولة، وتصاعدت حدّة الإضرابات مجدداً؛ ممّا استلزم تشديد القبضة الأمنية. وبرغم كلّ ذلك فقد حصد تحالف الليندي الانتخابي في الانتخابات النيابية 44% من نسبة الأصوات في آذار (مارس) 1973، ولكنّ ذلك الإنجاز الذي يعبّر عن شعبية الرئيس المنتخب لم يغفر له أمام الجنرال بينوشيه الذي عيّنه الليندي رئيساً للأركان قبل 18 يوماً من الانقلاب الدموي، فقاد انقلاباً ضدّه في 11 أيلول (سبتمبر) من العام 1973، ليبدأ فصل جديد من فصول الحكم العسكري الدموي في تشيلي، الذي قتل ما يقرب من 3100 معارض.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية