سليم الأول: المثل الأعلى السلطوي لأردوغان

سليم الأول: المثل الأعلى السلطوي لأردوغان


12/10/2020

ترجمة: محمد الدخاخني

في نهاية شهر آب (أغسطس)، وبكلّ ثقة، احتفل الرّئيس التركي، رجب طيّب أردوغان، بالسّنة الهجرية الإسلامية الجديدة، وبُعيد تحويله كنيسة آيا صوفيا الضّخمة إلى مسجد، حوّل كنيسة بيزنطية سابقة أخرى، هي كنيسة "شورا" التي تعود إلى القرن الرّابع الميلاديّ، وتعدّ واحدةً من أقدم المباني البيزنطية في إسطنبول.

اقرأ أيضاً: كيف بددت "المقامرة العثمانية" الحلم التركي بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟

وفي اليوم التّالي؛ أعلن اكتشاف أكبر مستودع للغاز الطّبيعي في البحر الأسود، وجاء ذلك في أعقاب اكتشاف آخر حديث لحقول غاز طبيعي في شرق البحر المتوسط، ويجري التّنازع على كلا المنطقتين الآن بشدّة في منافسة دولية بين القوى الممتدّة على طول هذين البحرين.

 وفي وقت لاحق من ذلك الأسبوع؛ كان أردوغان قد رحّب بوفد من حركة حماس في أنقرة.

توضح كلّ هذه التّحركات رؤية أردوغان للقوة الإسلاموية في العالم، ويسير دفاعه عن الإسلام في الدّاخل، جنباً إلى جنب، مع تأمين الموارد الطبيعية وفرض نفوذ تركيا في الخارج، كما أنّه يسير جنباً إلى جنب مع القمع الدّاخلي، وقد شهدت السنة الهجرية الإسلامية الجديدة إحكام قبضة أردوغان على حرّية وسائل التواصل الاجتماعي، والنظر في إخراج تركيا ممّا تُعرف الآن باتّفاقية إسطنبول، لعام 2011، وهي معاهدة لمجلس أوروبا تُلزم الدّول بحماية المرأة من العنف الأُسري.

ومن هنا، يجب على الشّعوب الديمقراطية، في تركيا والشّرق الأوسط وحول العالم، أن تقلق.

على طريقة دونالد ترامب المتعمّدة في نشر رموز أندرو جاكسون، والدفاع عن تماثيله، قام أردوغان بالاتّجار علناً وخصوصاً في السّياسة الرّمزية لسليم في تركيا

لقد كُتب الكثير عن محاولات أردوغان "إحياء" الإمبراطورية العثمانية أو تنصيب نفسه سلطاناً، وثمّة حقيقة في ذلك، لكن لفهم أجندة أردوغان السياسية وأُفُقه، يجب أن نكون محدّدين بشأن ماهية السّلطان العثماني الذي يسعى أردوغان جاهداً لتمثّله، إنّه السّلطان التّاسع للإمبراطورية، سليم الأوّل.

توفّى سليم قبل 500 عام في 1520، وخلال حياته نمَت الإمبراطورية العثمانية من قوّة إقليمية قوية إلى إمبراطورية عالمية عملاقة، وبالنّسبة إلى أردوغان، فإنّ هذا السّلطان يخدم احتياجاته المعاصرة.

اقرأ أيضاً: العثمانيون الجدد والبارانويا التاريخية

إنّ سليم بالنّسبة إلى أردوغان، من نواحٍ عديدة، هو المعادل الموضوعي لأندرو جاكسون بالنّسبة إلى ترامب، وسليم وجاكسون شخصيّتان من الماضي تُستخدمان بشكل رمزيّ في الوقت الحاضر.

 

يقدّم سليم نموذجاً لتركيا كي تصبح قوّةً سياسية واقتصادية عالمية، مع تأثير يمتدّ من واشنطن إلى بكين، وسحق للخصوم الأجانب والمحلّيّين على حدّ سواء، وهو نموذج يساعد أردوغان، أيضاً، في قضيّته من أجل جعل الإسلام مستودعاً ثقافياً وسياسياً للقوة، ومكوّناً حيوياً لأمجاد الماضي العثماني، الذي يسعى إلى محاكاته في تركيا المعاصرة ضدّ العلمانية النّخبوية المهيمنة التي سادت منذ تأسيسها.

اقرأ أيضاً: هل يفكر أردوغان في إحياء الدولة العثمانية؟

يجب أن نكون حذرين من تبنّي أردوغان رؤية سليم الإقصائية للسّلطة السياسية التركية، وهي رؤية تقدّم مثالاً تاريخياً لسياسة الرّجل القويّ التي أدّت إلى حروب إقليمية ومحاولة إبادة الأقلّيات الدينية واحتكار الموارد الاقتصادية العالمية، إضافة إلى محاولاته احتكار احتياطيات الغاز الطبيعي حول تركيا، يأخذ هذا اليوم شكل مشروعات عسكرية خارجية لأردوغان في ليبيا وسوريا واليمن.

جعلت هزيمة سليم للمماليك من الإمبراطورية العثمانية دولةً ذات أغلبية مسلمة، بعد أكثر من مئتَي عام من كونها دولة كان معظم سكّانها من الرّوم الأرثوذكس

وفي الدّاخل، طارد أردوغان الطائفة الشيعية والأكراد والمثقفين والمسيحيّين والصحفيّين والنّساء واليساريّين. أيضاً، يزرع أردوغان تديّنه السنّي الخاصّ به لوضع الإسلام في قلب الأجندة المحلّية لتركيا، وعملية تحويل الكنائس إلى مساجد هي الرّمز الأخير الأكثر فعالية في الدّلالة على ذلك، وهذا يمثّل منطقاً سياسيّاً للمنافسة الصفرية التي تضع تركيا في مواجهة كلّ من السّعودية وإيران فيما يخصّ السّيطرة في المنطقة والقيادة الإسلامية العالمية.

يُكنّ أردوغان إعجاباً لسليم؛ لأنّه جعل القوّة السياسية العالمية التركية ممكنة؛ فمنذ عام 1517 وحتّى نهاية الحرب العالمية الأولى، حافظت الإمبراطورية العثمانية على الشّكل الجغرافي الذي فاز به سليم من أجلها؛ حيث سيطرت على الشّرق الأوسط وشرق البحر الأبيض المتوسّط.

وفي عام 1517، هزم العثمانيون منافسهم الرّئيس في المنطقة، إمبراطورية المماليك التي اتّخذت من القاهرة مقرّاً لها، واستولوا على كافة أراضيها في الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقد ضاعف هذا حجم الإمبراطورية بأكثر من الضّعف، وأدّى توسّع الإمبراطورية العثمانية إلى الشّرق الأوسط إلى تحويلها إلى القوة العسكرية والسّياسية الأولى في المنطقة، وإحدى أكبر دول العالم. وسيطر العثمانيّون على النّصف الشّرقي من البحر الأبيض المتوسّط ​​بالكامل، وبالتّالي سيطروا على أهم طرق التّجارة في العالم برّاً، بين أوروبا وآسيا، وعن طريق البحر، عبر الخليج الفارسيّ والبحر الأحمر.

اقرأ أيضاً: القدس وتفسير أردوغان المُختل للتاريخ العثماني

وورثت الجمهورية التّركية الكثير من تلك السّلطة بعد زوال الإمبراطورية وصعود الجمهورية، عام 1923.

وبينما نأى كلّ حاكم تركيّ حديث بنفسه عن إرث الإمبراطورية العثمانية والإسلام، في محاولة لإبراز وجه أكثر "غربية" و"علمانية" و"حداثية" للجمهورية؛ فإنّ أردوغان يُعدّ أوّل من اعتنق بقوّة الماضي العثمانيّ والتّراث الإسلاميّ للإمبراطورية. هنا، أيضاً، يُثبت سليم أنّه مفتاح صورة أردوغان عن حكمه.

اقرأ أيضاً: ما الذي بقي من الثقافة العثمانية في العالم العربي؟

لقد جعلت هزيمة سليم للمماليك من الإمبراطورية العثمانية دولةً ذات أغلبية مسلمة، للمرّة الأولى في تاريخها، بعد أكثر من مئتَي عام من كونها دولة كان معظم سكّانها من الرّوم الأرثوذكس، وبهذا الانتصار، أصبح سليم أوّل سلطان عثمانيّ يحكم مكّة والمدينة، أقدس مُدن الإسلام، بالتّالي؛ حصل على لقب الخليفة ورسّخ المصداقية الإسلامية العالمية للإمبراطورية.

 وإذا كان سليم هو أول عثمانيّ يتولى منصبي السّلطان والخليفة، فإنّ أردوغان هو أوّل زعيم جمهوريّ يدّعي أنّه يحمل كلا اللقبين.

وعلى طريقة دونالد ترامب المتعمّدة في نشر رموز أندرو جاكسون، حيث عرض صورته بشكل بارز في المكتب البيضاويّ ودافع عن تماثيله، قام أردوغان بالاتّجار علناً وخصوصاً في السّياسة الرّمزية لسليم في تركيا.

اقرأ أيضاً: التغريبة الأرمينية.. القتل نفياً بالأمر العثماني

وكانت أكثر أعماله لفتاً للنّظر؛ تسمية الجسر الثّالث المشيّد مؤخّراً فوق مضيق البوسفور الشّهير باسم سليم، كما أنفق أردوغان موارد هائلة على ضريح سليم، وغيره من النّصب التّذكارية الخاصّة بفترة حكمه.

وبعد فوزه في الاستفتاء الدّستوري لعام 2017، الذي وسّع سلطاته بشكل كبير، وهي عملية شابتها بعض المخالفات، ظهر أردوغان علناً، للمرة الأولى، أمام ضريح سليم.

اقرأ أيضاً: هل كانت الدولة العثمانية فردوس الخلافة المفقود؟

وفي مشهد أشبه ما يكون بالحجّ، أعاد أردوغان إلى الحاكم، الّذي مات منذ زمن طويل، قفطانه وعمامته اللذين كانا قد سُرقا قبل أعوام؛ هذا العمل، البعيد كلّ البعد عن الحذاقة، والأوّل بعد فوزه في الاستفتاء، والذي منحه قوّةً تكاد تكون لا محدودة، يوضح من هو نموذج أردوغان.

يصف أردوغان وزملاؤه في حزبه الإسلامويّ أنفسهم بانتظام بأنّهم "أحفاد" العثمانيّين، وفي هذه الجينالوجيا نفسها، يتخطّى أردوغان، عن قصد، جيل الآباء الجمهوريّين لتركيا منذ عام 1923، ليقفز إلى الوراء، إلى الوقت الذي حكم فيه العثمانيّون العالم وفق نمطهم الخاصّ في السّياسة السنية التركية، إلى زمن سليم عندما أدّت الحروب والقمع الدّاخلي للثّروة والسّلطة الإقليمية. تُعدّ عملية إعادة إنشاء برنامج سياسيّ مشابه لبرنامج سليم احتمالاً خطيراً لتركيا والشّرق الأوسط، بل والعالم، ويتطلّب جعل تركيا دولة عثمانية مرّةً أخرى نوعاً من العنف والرّقابة والقسوة، أظهر أردوغان أنّه مستعدّ بالفعل لاستخدامه.

اقرأ أيضاً: خيانة الأرمن.. الذريعة العثمانية الخائبة

ويتمثّل الدّرس الشّامل هنا؛ في أنّ دعوات العودة إلى العظمة المتصوّرة، سواء في تركيا أو في الولايات المتّحدة، تتبنّى بشكل انتقائي الشخصيّات التاريخية المثيرة للجدل، وتشوّه تاريخها، وترفع من شأن الكراهية والانقسام.

مصدر الترجمة عن الإنجليزية:

آلان ميخائيل، "التايم"، 3 أيلول (سبتمبر) 2020



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية