سنان أنطون: أكتب حتى لا ننسى العراق

سنان أنطون: أكتب حتى لا ننسى العراق


كاتب ومترجم جزائري
08/05/2018

في 18 تشرين الأول (أكتوبر)، في مقر معهد العالم العربي، حصل على جائزة الأدب العربي (التي أُنشئت قبل أربعة أعوام من قِبل مؤسّسة جان لوك لاجاردير، ومعهد العالم العربي "IMA"). الخمسيني، المستقر في مدينة نيويورك، حرص على أن يذكّرنا، بتواضع، أنّ "وحدها شجرة الرمان" سرد، تاريخي وسياسي، للعنف المتطرف الذي يعيشه العراق منذ عام 1980 (الصراع مع إيران، ثم حربَي الخليج، واليوم، غضب الشرق الأوسط ...إلخ)، "الرواية، تطرح سؤالا قديماً: كيف تواجه الموت، خاصة في أوقات الفوضى عندما تنهار القيم وتصبح مدينتك متاهة قاتلة؟"

وحدها شجرة الرمان.. حوار بين الحياة والموت

الكاتب العراقي سنان أنطون (Sinan Antoon)، المقيم في الولايات المتحدة، كان في باريس يوم 18 تشرين الأول (أكتوبر)، ليحصل على جائزة الأدب العربي لعام 2017، التي فاز بها عن روايته "وحدها شجرة الرمان"، نصٌّ وثائقي مؤثّر عن العراق اليوم.

الجلوس في شرفة أحد مقاهي الحي اللاتيني في باريس، يضعه في قمّة الإثارة؛ ففي كلّ مرة يقيم فيها في باريس، يحبّ الروائي العراقي، سنان أنطون، العودةَ إلى هذا المكان الأسطوري في العاصمة؛ حيث كتب أجمل فصول كتابه (Seul le grenadier ((eds. Sinbad / Actes Sud. كتابٌ مشوّق يحبس أنفاس القارئ، من خلال حوار مؤثر وشاعري بين الحياة والموت.

"الكتابة عن بلدي وشعبي، المشوّهين بسبب العنف المجتمعي الذي أطلقه الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، كان أمراً حتمياً"، وحدها شجرة الرمان هي الرواية الثانية من أربع روايات كتبها سينان أنطون، التي صدرت أصلاً باللغة العربية عام 2010، وتُرجمت إلى الإنجليزية عام 2013، ونشرت في فرنسا في شباط (فبراير) 2018.

روايته "وحدها شجرة الرمان" التي فاز بها بجائزة الأدب العربي لعام 2017

الهروب من الدكتاتورية والحصار

غادر سنان أنطون بغداد، عام 1991، في الثالثة والعشرين من عمره، لا شكّ في محاولة منه العثور على إجابةٍ لهذا السؤال الوجودي، لكن، قبل كلّ شيء، هرباً من ديكتاتورية (ورقابة!) صدّام حسين، ومحن الحصار المفروض على العراق.

الشاب من عائلة مسيحية من الطبقة المتوسطة في بغداد، هاجر إلى الولايات المتحدة، بحكم الأشياء – أمُّه أمريكية، "لهذا السبب أجد من الصعب اعتبار نفسي في حالة منفيّ، مع احترامي لكل الذين هم في المنفى حقاً، مع الحرب، غادر أكثر من أربعة ملايين عراقي البلاد؛ لأنّه لم يكن لديهم خيار آخر، لطالما أردت أن أعيش في الخارج"، هكذا يقول سنان أنطون، الذي يدرّس الأدب العربي في جامعة نيويورك.

"أكتب حتى لا ننسى العراق ولمساعدة هذا الشعب في استعادة حريته وكرامته"

الرغبة في الهروب والحرية، والانشغال المستمرة بالكفاح ضدّ الظلم والمعاناة، مشاعر تنعكس بوفرة في "وحدها شجرة الرمان" التي يقول إنّه بدأ كتابتها قبل مغادرة العراق، إنّها موضوعات يتناولها المؤلف بأسلوب غني بالمجاز؛ حيث يمثل كلّ سطر، وكلّ صفحة، عصارة لذيذة من الشعر والجمال، وبمناسبة إصدار الترجمة الفرنسية للكتاب، وصفت مجلة "تيليراما" الرواية بـ "الكتابة السيادية، المثيرة، الحساسة"، وليس في ذلك ما يثير الغرابة، بالنسبة إلى هذا المعجَب بالشاعر محمود درويش (1941-2008)، صوت المقاومة الفلسطينية، الذي يطبع أعماله الشعرية المنفى والحنين إلى الوطن المفقود.

أنطون: أكتب حتى لا ننسى العراق ولمساعدة هذا الشعب في استعادة حريته وكرامته

سنان أنطون يتبع هذا المسار، "مفتوناً بقدرة درويش على إعادة ابتكار نفسه باستمرار"، ناهيك عن أنّ ترجمته الإنجليزية للشاعر الفلسطيني، عام 2012، أكسبته جائزة جمعية المترجمين الأمريكيين.

غريب في بلاد لم تغادر قلبه

لم يعد للكاتب والمترجم الذي ولد في بغداد أيّ روابط عائلية في العراق، لكنّ بلاده لم تغادر قلبه. بدقّة متناهية، يمسك سنان أنطون النسخة الوحيدة من رواية "وحدها شجرة الرمان" أمامه، ويضمّها إلى صدره، ويتنفّس بعمق قبل أن يقول: "إنّ معركة جواد [الراوي في الكتاب]، الذي يريد القتال ضدّ الموت من خلال الفنّ، هي أيضاً معركتي. أكتب حتى لا ننسى العراق، ونساعد هذا الشعب في استعادة حريته وكرامته. منذ مغادرته العراق، عند اندلاع حرب الخليج، تمكّن أنطون من العودة إليها مرّتين. لأوّل مرة في يوليو 2003، بعد أسابيع قليلة من الإطاحة بنظام صدّام حسين، لتصوير فيلم "حول بغداد" ((About Baghdad، وفيلم وثائقي عن احتلال بلاده؛ حيث يقول "كنت ضدّ كلّ من صدّام وضدّ الحرب معاً، وغريزياً عارضتُ أهداف الولايات المتحدة الإمبريالية".

وفي 2014، كانت الرحلة الثانية إلى وطنه "في هذه المناسبة، نزلت في الفندق، وكان ذلك دليلاً على أنّني الآن غريب في بلدي".

روايته "يا مريم" التي يدين فيها اضطهاد المسيحيين في الشرق

"الأدب لا يشرح أمراض المجتمع، وهو لا يوجد إلّا من تلقاء نفسه"

هذا الشاعر والروائي غريب في العراق، وغريب في الولايات المتحدة، فأين المكان الذي يشعر فيه أنّه في بيته؟  يجيب سنان أنطون تلقائياً "أنا في كتابي"، وهو ينفجر ضحكاً، ويضيف: "الكتابة تساعد على المقاومة وتجاوز المحنة، إذا كانت السياسة والعنف هي أعماله، فإنّه يأمل أن يساعد على إيجاد مفاتيح للحفاظ على العقل وإنسانيته، وكذلك الحال في روايته "يا مريم" (Ave Maria)؛ "الترجمة الفرنسية ستنشر، عام 2018، لدى سندباد / آكتس سود)، التي يدين فيها اضطهاد المسيحيين في الشرق.

جواد غسّال الموتى

"وحدها شجرة الرمان" التي تُرجمت بشكل جميل من العربية، تروي قصة الحياة والموت/ والحرب والأمل الهشّ في الحب والسلام في بغداد، التي عانت من العنف الشديد منذ الحرب الطويلة بين العراق وإيران (1980- 1988)، بطلها جواد هو المسؤول عن الغسل الحميمي للضحايا قبل دفنهم، أسرتُه كانت تمارس مهنة غسل الموتى منذ أجيال عديدة، ناقلة الأسرار والطقوس أبّاً عن جد.

جواد لم يُخلق لهذه المهنة، رغم الاضطرابات الاجتماعية والسياسية التي نشأ فيها، إلّا أنّه ما يزال فناناً قلباً وقالباً، هذا البغدادي، العاشق للفنّ، يحلم أن يصبح نحّاتاً، والفنان جياكوميتي نموذجُه المثالي.

الشاب جواد، الذي تخرّج في أكاديمية الفنون الجميلة في مسقط رأسه، يرفض الاستمرار في مهنة الأسرة، لكنّ ظروف الحياة وتقلباتها، خاصّة بعد وفاة والده، تُجبره على تقمّص مهنة سلفه والدفاع عنها؛ فهو لا يستطيع أن يهرب من مصيره، وهكذا يتحمّل بصمت الصدمات المتصلة بتواجده اليومي بجانب المتوفّين.

شجرة تتغذّى من ماء غسل الموتى

لذا، في بعض الأحيان، وحتى يخفّف عن معاناة نفسه، وبين جلستين من غسل الجثث المصابة بهزّات الحياة، يجلس جواد في باحة المشرحة، في ظلّ شجرة الرمان التي أصبحت الصورةَ المركزية في هذه الرواية، هذه الشجرة التي تتغذى من مياه غسل الموتى، تُعطي في كلّ ربيع ثماراً ذات حُمرة مشعّة، رمز العراق تحت القنابل؛ حيث تتشابك الحياة بالموت بشكل وثيق.

يكرّس الأدب الغربي الصورة النمطية للبطل الأمريكي في مواجهة وحشية العالم، في حين يوزّع على العراقيين بشكل منهجي أدوار الأشرار

شجرة الرمان التي أصبحت وعاء لاعترافات الشاب هي الكائن الوحيد الذي يعرف مدى إحباطاته، ومعاناة دولة بأكملها، ينبض قلبها "على إيقاع الموت"، مثل نبضات قلب الراوي الذي "يسقط في كلّ لحظة، في حفرة بلا قاع".

رحلة عبر ثلاثة عقود

"وحدها شجرة الرمان" التي نُشرت في عام 2010 باللغة العربية، وتُرجمت من قبل المؤلف نفسه باللغة الإنجليزية، رواية تاريخية وسياسية، من خلال قصص الأموات الذين يُؤتى بهم إلى المشرحة، والذين يجب عليه استعادة كرامتهم الإنسانية، يصف الراوي في هذه الرواية الفوضى والدمار اللذين طالا جميع جوانب الحياة في العراق، الواقعة بين أيدي قوات الحلفاء؛ فعلى خلفية هذه العقود الثلاثة من التاريخ، تتكشف الرحلة الذاتية للأشخاص الذين نلتقي بهم عبر صفحات هذا الكتاب.

قدر جواد المحتوم

حياة جواد، التي يرمز إليها المجاز المركزي لشجرة الرمان، تتكون أيضاً من ثورات شخصية ضدّ القدر المحتوم الذي حَكم عليه بِخدمة الموتى، كما فعل أسلافه، لكنّ الفرق هنا أنّه، بحكم الحرب، ما انفكت أعداد الأموات الذين قدِّر له أن يعدّهم للحياة الأبدية، تزداد وتزداد، ولا مفرّ له منها.

الموت موزّع بريد

"إذا كان الموت موزّع بريد"، يقول بطل الرواية، فأنا بالتأكيد أحد أولئك الذين يتلقون أكبر عدد من الرسائل كل يوم من خلاله، إنّه ذلك الذي يزيل عنهم، برفقٍ، أغلفتهم الممزّقة والملطخة بالدماء، إنّه الشخص الذي يغسلهم، ويُجفّفهم، ويُعطّرهم بكلمات لا يُؤمن إلّا بنصفها فقط، ثم يلفّهم بعناية بقطعة قماش أبيض حتى يتمكنوا من الوصول إلى وجهتهم النهائية في سلام: القبر، لكنّ الرسائل تتراكم يا أبي! أتلقّى، في اليوم الواحد، أو اليومين، عشرة أضعاف ما كنت تستقبله أنت في أسبوعٍ كامل..."

إدانة الكاتب لصورة البطل الأمريكي النمطية

أنطون شاعر وكاتب مقالات وروائي، لقد تحدث في مقابلاته، كما في كتاباته النظرية حول فنّه، عن حيرته الكبيرة أمام الأدب الغربي المعاصر والسينما حول الحرب في العراق، التي تركّز على الضائقة النفسية للجيش الأمريكي والأوروبي "الغزاة"، وتنسى معاناة عذابات الشعب العراقي، ضحية ثلاث حروب متتالية في ثلاثين عاماً.

كتب سنان قصة عالمية، يستطيع كلّ واحد أن يتعرّف على نفسه فيها، الجلاد وضحيته، العراقيون، وكذلك الأمريكيون

هؤلاء المؤلفون، يقول الكاتب في أسف، يُكرّسون "الصورة النمطية للبطل الأمريكي في مواجهة وحشية العالم، في حين يوزّعون على العراقيين بشكل منهجي، أدوار الأشرار. "

تصحيح الكليشيهات

فلتصحيح هذه الكليشيهات، انطلق سنان أنطون في الكتابة، وتعهّد بأن يروي من خلال الخيال والشعر، المصير المأساوي لشعبه، لقد تناول المؤلف، في ثلاث روايات على التوالي، الحياة تحت دكتاتورية صدام (إعجام)، ثم فوضى بغداد التي هزتها مرة أخرى، عام 2003، القنابل الأمريكية (وحدها شجرة الرمان)، وأخيراً، الحرب الطائفية بين السنّة والشيعة، والمسيحيين والمسلمين "يا مريم" في عراق ما بعد أمريكا.

أسطورة اللاهدوء المشترك

رواية سنان أنطون، يستمتع بها القارئ أيّما استمتاع، لأفكار الكاتب القيّمة حول انحطاط وانهيار المجتمع العراقي المعاصر، لكن أيضاً لقوة وشاعرية السرد، المليء بالصور والاستعارات.

لقد كتب الروائي العراقي الحلم والواقع، الماضي والحاضر، الخاص والعام.

لقد كتب سنان قصّة عالمية، يستطيع كلّ واحد أن يتعرّف إلى نفسه فيها، الجلاد وضحيته، العراقيون، وكذلك الأمريكيون؛ لأنّنا، بين أسطر هذه القصة عن العراق، نسمع أسطورة لهدوئنا المشترك والمعاصر، حسبنا أن نصغي ونتأمل!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية