سيد قطب: تأملات في مشروع ملغوم (1)

سيد قطب: تأملات في مشروع ملغوم (1)


25/12/2019

مات سيد قطب وبقيت أفكاره حيّة في قلوب وعقول المؤمنين بها، وهي مرشّحة للبقاء والانتشار؛ لأن البيئة الثقافية والسياسية والدينية التي أفرزتها لا تزال قائمة ومؤثرة رغم تغير الظروف والسياقات.

اقرأ أيضاً: سيد قطب وفلسطين ... محاولة للفهم
ورغم أنّ حركة الإخوان المسلمين قد أنتجت عشرات الكتّاب وأصحاب القلم، إلا أنّ قطب يعتبر الأكثر تأثيراً والأقدر على تجاوز الزمان والمكان؛ نظراً لأسلوبه الساحر في الكتابة، وذهابه بعيداً في نسج منظومة مفاهيمية متشعبة لا تزال تؤدي بأصحابها إلى انسداد فكري وحركي وسياسي لا مخرج لهم منه.


أدرك بعض قادة الإخوان حين كانوا في السجون، بعد مواجهتهم الأولى مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، أنّ هذا المثقف والمؤدب والجريء قد ورّطهم وورّط نفسه عندما أخضع النصوص القرآنية لقراءة لا تاريخية أعادت تركيب الآيات بطريقة من شأنها أن تفضي حتماً إلى منهج انقلابي وعنيف. وقد تجلّى ذلك الإدراك في عديد المواقف والكتابات لعل أهمها، من حيث الدلالة السياسية، كتاب حسن الهضيبي، المرشد العام الأسبق للإخوان، تحت عنوان "دعاة لا قضاة".

مات قطب وبقيت أفكاره حيّة وهي مرشّحة للبقاء والانتشار لأن البيئة الثقافية والسياسية والدينية التي أفرزتها لا تزال قائمة

كان كتاب الهضيبي محاولة منه تهدف إلى قطع الطريق أمام الذين استهوتهم أفكار سيد قطب، وإنقاذ الحركة من الورطة التاريخية التي أوقعهم فيها صاحب كتاب "معالم في الطريق". وإذ خفف الهضيبي قليلاً من حدة الأزمة الفكرية عندما أوضح بعض نقاط التباين مع سيد قطب، لكن المرشد العام عجز عن تغيير الأوضاع بشكل جوهري؛ حيث استمرت الورطة التاريخية التي علق بها المئات من شباب الإخوان، واستمرت معها التداعيات التي ترتّبت عن انخراط الآلاف من المتأثرين بفكر الرجل في أكثر من بلد وعلى أكثر من صعيد.

اقرأ أيضاً: سيد قطب وقصته مع يوسف شحاتة
رغم محاولات التصدي للمشروع القطبي، إلا أنّ الكثير من الإخوان المسلمين لا يزالون يدافعون حتى اليوم وبقوة عن سيد قطب، ويعتبرونه ضحية سوء فهم من قبل من لم يحسنوا فهم كتاباته، أو أولوا بعض اجتهاداته وتعمدوا الدفع بها نحو اتجاهات خاطئة وخطيرة. لكن هذه المحاولات لم تنجح في تنزيه الشخص وتبرئته من الأخطاء الجسيمة والواضحة التي وقع فيها صاحبها أثناء تأملاته في ما آلت إليه تجربة الإخوان كجماعة وتنظيم حركي وسياسي، إلى جانب محاولته إخضاع تلك التجربة لنصوص القرآن الكريم ومقارنتها بالسيرة النبوية ومآلاتها. خلافاً لما ذهب إليه أصحاب هذه المحاولات فإنّ نتيجتها كانت عكسية تماماً؛ إذ بدل أن تؤدي محاولات التبرير والدفاع عن سيد قطب إلى إصلاح الخطأ وتخفيف حجم الخسائر، أعطت نتائج معاكسة لما كان يرمي إليه أصحابها، وساعدت على إبقاء عشرات الآلاف من الشباب المؤمن تحت تأثير المدرسة القطبية بكل الأوهام التي روّجتها والمطبات الكامنة في منعرجاتها، وأضفت المزيد من الشرعية على مختلف المخاطر التي لا تزال تقود الآلاف من المندفعين نحوها.

كتاب الهضيبي "دعاة لا قضاة" محاولة تهدف إلى قطع الطريق أمام الذين استهوتهم أفكار سيد قطب

ما لم يفهمه الكثير من الإسلاميين – سواء أكانوا إخواناً أم لا – أنّ الطيبة التي كانت تميز سيد قطب ويشهد على ذلك كل من عرفوه عن قرب، وكذلك المحاكمة السياسية التي خضع لها الراحل صحبة عدد من الشبان الذين تأثروا بأفكاره، والتي لم تحترم الحد الأدنى من حقوقه الأساسية ولم يلتزم القضاة الذين كلفوا بالقضية بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ولا إصرار القيادة السياسية على تنفيذ حكم الإعدام فيه رغم مناشدات المنظمات الدولية وتدخل الكثير من الحكام والهيئات الإسلامية وغيرها. كل ذلك على أهميته وواجب إدانته والتنديد به، لا يبرر التعامل مع فكر الراحل بردود فعل عاطفية تفتقر للموضوعية والشعور بالمسؤولية ولا تتقيد بالمنهجية العلمية. قطب لم يؤلف قصة خيالية أو وضع سيناريو لشريط سينمائي افتراضي، وإنما أنجز تفسيراً للقرآن الكريم، ورسم منهجاً للمسلمين عموماً والإسلاميين خصوصاً، وأضفى أنصاره على اجتهاداته نوعاً من الوثوقية بلغت حد "القداسة" لدى بعضهم. كما أنّ أفكاره لم تبق حبيسة الكتب والغرف المغلقة، وإنما تحولت إلى عقول تفكر وبشر يخطط وجماعات تنفّذ خاضت ولا تزال مواجهات مسلّحة سقط بسببها آلاف الضحايا، كما أسفرت تلك الأعمال ولا تزال عن نتائج كارثية على الأصعدة المحلية وكذلك الإقليمية والدولية.

اقرأ أيضاً: سيد قطب والكتاب القادياني المُرضع
مات الرجل، وهو الآن بين يدي ربّه، لكن بقيت أفكاره تسعى بين الناس، خاصة الشباب منهم. وكلّما ظن البعض بأنّ هذه الأفكار ماتت واندثرت وتحولت إلى جزء من الماضي البعيد، أو على الأقل وضعت على الهامش، تأتي الأخبار لتذكر الجميع بأنّ تلك الأفكار لا تزال حية ومؤثرة بشكل حاد في أماكن عديدة من العالم، وأنّ ضحاياها في ازدياد مطرد رغم أنّ صاحبها لم يمسك في حياته أي نوع من أنواع الأسلحة، ولم يقدم حتى على ذبح خروف.


ما ستتناوله المقالات التالية من أفكار وآراء تتجاوز إدانة الرجل الذي غادرنا منذ خمسة وأربعين عاماً. لقد ترك الدنيا بما فيها، ولم تسعفه الظروف لكي يراجع ما كتبه ويقيمه بشكل هادئ، ولو بقي حياً، وتابع ما نتج عن أفكاره من دمار، مادي ومعنوي، لتبرّأ منها وربما قام بمراجعتها وتصحيحها ونقضها الواحدة تلو الأخرى. الموضوع اليوم في ضوء الأزمة الكبرى التي تواجه الفكر الإسلامي عموماً، والفكري الحركي خصوصاً، لم يعد دفاعاً عن قطب أو إعادة محاكمته، وإنما أصبح نقد الأطروحة القطبية جزءاً لا يتجزأ من المسؤولية التاريخية التي يجب أن يتصدى لها الجميع، كل من موقعه واختصاصه، حتى يقع التصدي لمفاهيم أثبتت مختلف التجارب التي التصقت بها بطلانها على الصعيدين؛ النظري والتاريخي، وبينت الوقائع خطورتها على الأفراد والمجتمعات. بل اتضحت الأمور اليوم أكثر من أي وقت مضى كيف تحولت هذه الأفكار إلى جزء من اللعبة الدولية، ووظفت بأشكال متعددة من قبل جماعات وأنظمة ومراكز تخطيط إستراتيجي كأدوات لتغذية الحروب الدينية وتهديد السلام العالمي، والعمل تحت عناوين مختلفة على إعادة إنتاج نظام دولي غير عادل يقوم على الظلم والصراع وتحويل الدين إلى سلاح يستعمل ضد الدين نفسه.

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية