سيد قطب والصحابة: الانتقاء وفن تلميع التاريخ (6)

سيد قطب والصحابة: الانتقاء وفن تلميع التاريخ (6)


27/01/2020

وصف سيد قطب جيل الصحابة، رضي الله عنهم، بصفات مثالية عديدة من بينها "جيل قرآني فريد"، و"جيل مميز في تاريخ البشرية جميعه". ويعود تميز ذلك الجيل، من وجهة نظره، إلى "تفرّده في تلقّي فكره من نبع وحيد هو القرآن الكريم" قبل أن "تختلط الينابيع مع فلسفة الإغريق، وأساطير الفرس، وإسرائيليات اليهود، ولاهوت النصارى، فلم يتكرر ذلك الجيل أبداً". ورأى في ذلك الجيل "ظاهرة تاريخية ينبغي أن يقف أمامها أصحاب الدعوة الإسلامية في كل أرض وفي كل زمان". لماذا؟ يجيب قطب "لأنها ذات أثر حاسم في منهج الدعوة واتجاهها".

اقرأ أيضاً: سيد قطب: تأملات في مشروع ملغوم (1)
لا يشك أيّ مسلم وأيّ مؤرخ نزيه في أنّ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لم يكتف بتبليغ الوحي مشافهة، وإنما أسّس جماعة قوية خاضت تجربة فريدة، وأنّ هذه الجماعة لعبت دوراً حاسماً في تجسيد معاني القرآن الكريم على أرض الواقع، وخلقت نواة الأمة الإسلامية التي ستمتد وتغير مجرى التاريخ.

كان قطب مثالياً جداً في وقوفه عند جيل الصحابة، رضي الله عنهم، حتى كاد أن يحولهم إلى مجموعة ملائكة

لا خلاف حول ضرورة أن تدرس أيّ حركة إسلامية الحقبة الأولى من تاريخ الإسلام، لكونها الحقبة التأسيسية التي لم يرتبط وجودها فقط بسردية نزول الوحي لمدة ثلاث وعشرين عاماً، وإنّما أيضاً باعتبار أنّ ذلك الجيل قد كان له دور في بناء المرجعية الإسلامية التي لا يمكن فهم تفاصيلها إلا بالرجوع إلى البيئة التي احتضنت تلك المرجعية وغذّتها بتجربتها ومعاناتها وصمودها وخلافاتها. كما حفظتها ونقلتها إلى الأجيال اللاحقة.
مع التسليم بذلك، ارتكب سيد قطب ثلاثة أخطاء كبرى في تناوله لمرحلة الصحابة رضي الله عنهم:
أولاً: كان مثالياً جداً في وقوفه عند جيل الصحابة، رضي الله عنهم، حتى كاد أن يحولهم إلى مجموعة ملائكة. فالانطباع الذي يبقى في ذهن من قرأ "معالم في الطريق" وتأثر به وأعجب بكاتبه أنّ الصحابة بشر فوق النقد، وأنّهم منزهون عن الخطأ، وكأنهم عاشوا خارج التاريخ وماتوا بدون أن يتأثروا بغرائز البشر، ولم تستهوهم أحياناً الحسابات الصغيرة ولم يتورط الكثير منهم في صراعات خطيرة، ولم يقعوا فيما وقع فيه غيرهم من الخضوع لشهوة السلطة والرغبة في الغنيمة. قَالَ الرَّسُولُ فِي صحابي لَمَّا مَاتَ فِي الْغَزْوِ مَعَهُ، وَكَانَ مُوَكَّلًا أي مكلفاً بِثَقَلِ النَّبِيِّ خَادِماً لَهُ، (هُوَ فِي النَّارِ)، فَنَظَرُوا فَوَجَدُوا مَعَهُ شَمْلَةً )كِساء من صوف أو شعر يُتَغَطَّى به(  سَرَقَهَا مِنَ الْغَنِيمَةِ!

اقرأ أيضاً: سيد قطب: الوجه المطمئن مقابل الوجه الآخر (2)
هذه النظرة التمجيدية للتاريخ الإسلامي الأول التي اعتمدها قطب تشكل خطورة على وعي العاملين في حقل الدعوة الإسلامية؛ لأنها لن تهيئهم للتعامل مع حقائق التاريخ، ومن شأنها أن تجعلهم عرضة للفتنة العلمية، وتضعهم في موقع الأضعف عندما يتم إخراجهم من دائرة الدعوة إلى دائرة البحث العلمي، عندها ستصدمهم الوقائع، وسيشكون في معارفهم، وقد يفتنون في دينهم عندما يشعرون بالعجز أمام أهل الاختصاص.
لم يساعد قطب أنصاره على تحديد هوية "الصحابة". من هم؟ وهل جميعهم كانوا صفاً موحداً وصنفاً واحداً أم هم أجيال وتيارات ودرجات وانتماءات اجتماعية مختلفة وطموحات متعددة. إذ رغم الجهود الجبارة التي بذلها الرسول، صلى الله عليه وسلم، معهم في سبيل تربيتهم وتطهير ثقافتهم وصقل مواهبهم ومساعدتهم على التخلص من موروثهم الجاهلي، إلا أنّ الواقع التاريخي يكشف بوضوح أنّ درجة التفاعل معه كانت متباينة، وأنّها اختلفت في العمق من شخص إلى آخر. وهو ما ستكشفه الأيام والأعوام التي توالت فيما بعد وفاة الرسول الكريم، لتكشف الخلافات العميقة بينهم، والتي أدت إلى أحداث ضخمة ومؤلمة شهدتها الجزيرة العربية، ولا تزال أصداؤها تتردد حتى اليوم.

اقرأ أيضاً: سيد قطب: القفز نحو المواقع الخطرة (3)
ما لم يذكره قطب وأراد أن ينساه المتأثرون به أنّ جيل الصحابة خاض حرباً أهلية كادت أن تدمر البناء كله، وأن تأكل نيرانها الأخضر واليابس، وقد سميت بـ "الفتنة الكبرى". لم يتعرض للأسباب العميقة لتلك الحرب التي قضت على الآلاف من القراء وتم اغتيال كبار الصحابة؟ وماذا ترتب عنها؟ وكيف يجب أن يتعامل معها أصحاب الدعوة اليوم؟ هل يتجاهلونها، أو يكذبون وقوعها؟. أسئلة كثيرة قفز عليها كتاب "المعالم" واعتبرها المؤلف وكأنها غير موجودة، أو افترض أنّ العقل الإسلامي السليم لن يطرحها؛ لأنه لو طرحها الداعية لأثبت قطب له بكونه مصاباً بلوثة "الجاهلية"!

اقرأ أيضاً: سيد قطب: الجاهلية نظرية في الخروج من التاريخ (4)
ثانياً:
عمّق سيد قطب في أطروحته فكرة راسخة عند عموم المسلمين، تتمثل في أنّ مجدهم ونموذجهم الأعلى قد تحقق في ماضيهم، وأنّ المطلوب منهم هو الالتفات دائماً إلى الوراء لمحاولة تكرار ما حصل خلال لحظة التأسيس. فمستقبلهم يكمن في ماضيهم، ولهذا يجدون أنفسهم باستمرار مشدودين إلى الأجداد، وغير قادرين على التحرر منهم والتفكير جدياً في تجاوزهم.

اقرأ أيضاً: سيد قطب و"الظلال".. اختل المنهج فسقط البناء (5)

يطالبون باستمرار بالعودة إلى الإسلام؛ لأنهم يعتقدون في أعماقهم بأنّ الحلم الجميل موجود وراءهم، ولم يفترضوا أنّ الإسلام أمامهم وليس خلفهم، وأنّه مشروع مستقبلي وليس مشروعاً ماضوياً. وشتان بين الحالتين. فالتجديد الحضاري لن يتحقق إذا لم يتم فك الارتباط الآلي بين المجد القديم وبين الحاضر لبناء المستقبل. وفك الارتباط لا يعني رفض الاستعانة بالتاريخ وتحليله في عملية إعادة البناء والتأسيس. ولكن حتى نتجاوز النظرة الدائرية للتاريخ، وبشكل أدق حتى يتم التخلص من الرؤية الانحدارية للتاريخ الإسلامي التي بنيت على حديث نبوي ورد فيه "خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ). لقد فهم الكثيرون من ذلك أنّ التاريخ الإسلامي يبدأ من الأعلى في شكل سلّم يبدأ من فوق أي من مرحلة الصحابة التي تعتبر القمة في كل شيء، ثم كلما اتجه المسلمون نحو الأمام؛ أي سايروا حركة الزمن إلا وزادت أوضاعهم سوءاً مقارنة بنقطة البداية. وهي نظرة قاتلة للوعي الحضاري ومدمرة للشعوب والأمم. فمن شروط سياقة السيارة أن يلتفت السائق من حين لآخر للمرآة العاكسة التي تكشف له ما وراءه، لكنه لو بقي ينظر إليها باستمرار ولم ينظر أمامه لتسبب في حادث خطير يمكن أن يؤدي به إلى الموت.   

هذه النظرة التمجيدية للتاريخ الإسلامي الأول التي اعتمدها قطب تشكل خطورة على وعي العاملين في حقل الدعوة الإسلامية

ثالثاً: خلص قطب من تأملاته في المرحلة التأسيسية إلى نتيجة أدت عملياً إلى الوقوع في مآزق كثيرة. اعتقد بأنّ تجربة الصحابة تتضمن المنهج الصحيح للدعوة الإسلامية، وأنّ جميع الدعاة في أي زمان ومكان مطالبون بالالتزام بذلك المنهج وعدم الخروج عليه أو تجاوزه. قال "سنلقى في هذا عنتاً ومشقة، وستفرض علينا تضحيات باهظة، ولكننا لسنا مخيرين إذا نحن شئنا أن نسلك طريق الجيل الأول الذي أقر الله به منهجه الإلهي، ونصره على منهج الجاهلية. وإنه لمن الخير أن ندرك دائماً طبيعة منهجنا، وطبيعة موقفنا، وطبيعة الطريق الذي لا بد أن نسلكه للخروج من الجاهلية كما خرج ذلك الجيل المميز الفريد... ".
هذه الفرضية مثلها مثل الفرضيات السابقة زادت من تعقيد المنهج، وأدت عملياً وحتى نظرياً إلى وضع معالم خاطئة في الطريق.
لا يوجد منهج واحد ووحيد لإصلاح الواقع وتغييره. المنهج مرتبط بالظرف والزمان والمكان والسياق وطبيعة التحديات المطروحة على الشعوب والجماعات. لهذا اختلفت المسارات والتجارب والمحاولات التي خاضتها حتى الحركة الواحدة، وهو ما حصل للإخوان المسلمين الذين دعوا إلى وحدة التنظيم والمنهج، وأسسوا لذلك تنظيماً دولياً، لكن كان الواقع أقوى من الفكرة؛ حيث تعددت الاجتهادات إلى حد التناقض فيما بينها، وهو ما أدى إلى انفراد كل حركة بتحديد مصيرها وفق ما تقتضيه مصلحتها، وأصبح الانتماء إلى هذا التنظيم صورياً أو يكاد بالنسبة للعديد من هذه الحركات، تستفيد من الغطاء لكنها لا تلتزم بكثير مما يقال. (يتبع...)


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية