شبكة فيدان: كيف ساهمت المخابرات التركية في دعم الجماعات المتطرفة في الشرق الأوسط؟

شبكة فيدان: كيف ساهمت المخابرات التركية في دعم الجماعات المتطرفة في الشرق الأوسط؟


04/04/2021

محمد العربي

في منتصف 2020، ذكر الرئيس رجب طيب أردوغان أن الفضل يعود إلى المخابرات التركية في إيقاف زحف الجيش الوطنـي الليبـي بقيادة المشير حفتر على طرابلس. في الخطاب نفسه، أكد أردوغان على الدور الكبير الذي تقوم به المخابرات التركية في تحقيق أهداف تركيا الإقليمية. وأكد أن دولته قد تعلمت من الخطأ الفادح الذي ارتكبته الدولة العثمانية في حروبها في مطلع القرن العشرين في البلقان وليبيا، حيث افتقدت القدرة على جمع المعلومات الاستخباراتية حول الاختراق الأجنـبي للشعوب التـي كانت تحكمها.  

مع توسع الدور التركي في المنطقة، كان من الضروري أن يتوسع دور المخابرات في تنفيذ استراتيجية أردوغان المغايرة تمامًا لسياسة “تصفير المشكلات”، لذا تمت إعادة هيكلة جهاز الاستخبارات التركية تحت قيادة خاقان فيدان. وفي نطاق الشرق الأوسط، حاولت المخابرات التركية بناء شبكة من الوكلاء لتكون الأداة الأساسية لتحقيق أهداف النفوذ التركي في المنطقة، بيد أن هذه المحاولة أصبحت تواجه أزمات خاصة مع تزايد العبء الاستراتيجي على تركيا.

خاقان فيدان وإعادة تأسيس استراتيجية الاستخبارات التركية

يعتبر خاقان فيدان رئيس جهاز الاستخبارات الوطنـي التركي يد أردوغان الباطشة في الداخل والخارج، والعنصر الأكثر وثوقًا في النظام السياسـي التركي. خدم فيدان كضابط صف، چاويش، في الجيش التركي لحوالي خمسة عشر عامًا، وأتم دراساته في جامعة بلكينت العريقة بأنقرة وكتب رسالة الماجستير الخاصة كدراسة مقارنة لأجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية والتركية. وحصل على درجة الدكتوراه من الجامعة نفسها في 2006، عن تأثير نظم المعلومات على الدبلوماسية والسياسة الخارجية.

ويبدو أن استعانة أردوغان به عند تولي إدارة جهاز الاستخبارات في ٢٠١٠ قد منحته الفرصة لتطبيق بعض أفكاره في إحداث تغيير مؤسسـي. بدأ هذا في وكالة التعاون والتنسيق التركية ثم في جهاز الاستخبارات. إلا أن النجاح الأبرز لفيدان كان في تكليفه بتطويع “المؤسسة العسكرية”. 

كان نجاح فيدان وجهاز الاستخبارات في إحباط المحاولة الانقلابية على أردوغان في 2016 بمثابة منح فيدان كامل الثقة، و القضاء على العناصر المعارضة داخل المؤسسة العسكرية وجهاز الدولة خاصة من هؤلاء المنتمين إلى شبكة فتح الله غولن.

بدأ أردوغان في استخدام فيدان في قمع المعارضة الداخلية خاصة تلك المنتمية لشبكة فتح الله غولن وامتد القمع ليشمل عناصر من القضاء والقوات المسلحة وبالتالي أصبح فيدان أكثر العناصر المعتمد عليها في توطيد العدالة والتنمية وحكم أروغان.  وكشف تقرير صدر في مايو 2020 عن أحد مواقع الاستخبارات السويدية يكشف فيه قيام المخابرات التركية بعمليات تجسس ضد المعارضين في الخارج في أوروبا والولايات المتحدة بأمر مباشر من فيدان.

في الخارج، تمثلت استراتيجية الاستخبارات التركية في بناء شبكة من الوكلاء Proxies تضاهي تلك التـي بنتها إيران عبر عقود، وذلك في سياق حالة الفوضى الإقليمية التـي خلقتها الانتفاضات الشعبية العربية خاصة في سوريا وليبيا. وقد وجدت هذه الاستراتيجية صدى وقبولاً لدى هذه الجماعات خاصة في سوريا، والتـي كانت تحاول الاستنجاد بالخارج لمواجهة قوات حزب الله اللبناني والمليشيات الشيعية العراقية والأفغانية التـي تعمل تحت لواء الحرس الثوري الإيراني.

كذلك سعى فيدان للاستثمار في هذه الجماعات لمواجهة التأثير المتنامي للقوات الكردية وثيقة الصلة بحزب العمال الكردستاني والموجودة على امتداد الحدود السورية التركية خاصة في القامشلي.

لا يوجد دليل على أن دوافع فيدان في هذا الاتجاه كانت عقدية، كما هو في الحالة الإيرانية التـي أسست للوكلاء من خلال الرابطة الدينية الشيعية والاستثمار في سياسات التهميش الداخلي قبل غزو العراق والثورات العربية. إلا أن التوجهات الإسلاموية المحافظة لنظام أردوغان، والتـي يعتبر فيدان أحد أكبر حراسها حاليًّا في الداخل التركي، جعلت التقارب مع العناصر السنية الإسلاموية والتـي تتراوح بين الإخوان المسلمين والجهاديين المحليين والجهاديين العالميين المنتمين لداعش والقاعدة أمرًا طبيعيًّا.

اعتمدت الاستخبارات التركية في تنفيذ الاستراتيجية على توفير الأسلحة والتدريب، وكذلك توفير خطوط إمداد ونقل للعناصر عبر الحدود السورية تحديدًا. ولم يقتصر الأمر على المليشيات المدعومة من تركيا أو تلك التـي تقاتل مع الجيش التركي مباشرة لاحقًا بل امتد أيضًا إلى تنظيم الدولة التـي كانت تركيا المعبر الرئيس للعناصر المجندة والمنضمة إليه من أوروبا والغرب.

بدأ الكشف عن تورط الاستخبارات التركية في تمويل ودعم الجماعات المسلحة المتطرفة في سوريا في مرحلة مبكرة مع اتهامات غربية غير رسمية، صحافية بالأساس، لأنقرة بالارتباط بالجماعات المتطرفة في سوريا. إلا أن الخبر اليقين جاء في 2015 عندما نشرت جريدة “جمهوريت” التركية تقريرًا تضمن فيديوهات وصورًا أكدت أنها لشحنات أسلحة أرسلت إلى المعارضة السورية الإسلامية المسلحة في مطلع 2014، ما يدعم اتهامات تنفيها دائما حكومة أنقرة بشدة.

ونشرت الصحيفة في نسختها الورقية وعلى موقعها الإلكتروني صور قذائف هاون مخبأة تحت أدوية في شاحنات مؤجرة رسميا لصالح منظمة إنسانية، اعترضتها قوة درك تركية قرب الحدود السورية في يناير 2014. وأثارت هذه القضية فضيحة سياسية عندما أكدت وثائق سياسية نشرت على الإنترنت أن الشاحنات تعود إلى الاستخبارات التركية وتنقل أسلحة وذخائر إلى معارضين إسلاميين سوريين يواجهون نظام الرئيس السوري بشار الأسد. وأشار التقرير أن اكتشاف الشحنات على الحدود السورية كاد يفضـي إلى اقتتال بين عناصر حرس الحدود والاستخبارات وهو ما أوحى أن الأخيرة تعمل بمعزل عن بقية أجهزة الدولة الأمنية

من المؤكد أن الاختراق التركي للمعارضة السورية قد بدأ في مرحلة مبكرة من التمرد سواء مع استضافة قيادات المعارضة، أو الإشراف على تأسيس مليشيات خاصة. أول هذه المليشيات المؤسسة تركيًّا هي فرقة السلطان مراد في 2012، وتذكر مصادر سورية أن تأسيسها جاء بناء على طلب من قيادات تركمانية للمخابرات التركية بالتدخل لحماية الأقلية التركمانية من هجمات الجيش السوري. تلقت الفرقة مساعدات مباشرة من الجيش التركي قبل دخوله سوريا بسنوات. وارتكز هذا الفيلق في مدينة حلب قبل أن يستردها الجيش السوري في 2016، وانسحب إلى المناطق التـي تسيطر عليها تركيا في منبج وعفرين.

أما فرقة الحمزة، فقد تأسست داخل تركيا في أبريل 2016، وكانت من أوائل الفرق السورية التـي دخلت مع الجيش التركي عند احتلال جرابلس في 2017. تأسست الفرقة على يد أبو بكر سيف بولاد الذي كان ضابطًا في الجيش العربي السوري وانشق ليوالي المعارضة وأنقرة. وانضمت إلى الفرقة أيضًا فرق تركية أصغر مثل لواء سمرقند. وإلى جانب انضمام الفرقة إلى عمليات الجيش التركي المتكررة في شمال سوريا بين 2016 و2020 (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام)، كان لها أيضًا دور في نقل المقاتلين السوريين للعمل كمرتزقة في ساحة الصراع الليبـي.  

 شهد العام 2016 أيضًا تأسيس جماعة أحرار الشرقية وقوامها مجموعة من المقاتلين في منطقة دير الزور شرقي سوريا، وسبق لبعض الاعضاء الانضمام إلى جبهة أحرار الشام. وإلى جانب هذه الحركات، ساهمت المخابرات والجيش التركي في تأسيس ودعم فرق مثل جماعة نور الدين زنكي المشكلة من عناصر سلفية جهادية، وكانت جزءًا من جبهة النصرة قبل أن تنفصل عنها بعد صراع دموي، والجبهة الشامية وصقور الجبل وغيرها.   

تنتمي كل هذه الجماعات إلى تيار السلفية الجهادية، وتتسم أغلب عناصرها بالدموية، وعدم الانضباط. على سبيل المثال، شاركت فرقة السلطان مراد في أكبر عملية سرقة جماعية طالت ممتلكات المدنيين في عفرين في 2018. إلا أن الأخطر من هذا هو انخراط هذه الجماعات في قتال بعضها البعض، في كثير من الأحيان لأسباب مصلحية وتجارية.

ففي أبريل 2018، اندلعت اشتباكات عنيفة بين أحرار الشرقية وفرقة السلطان مراد في الأتوستراد الغربي وحي المحمودية بمدينة عفرين، بعد خلافات فيما بينهم على “تقاسم المسروقات” ومستودع للأغذية. وكثير من هذه الجماعات لم ينخرط في أي قتال فعلي ضد الجيش السوري. ومع بدء التصعيد التركي في ليبيا، أخذت هذه الحركات في الاصطفاف للعمل كمرتزقة.

دور المخابرات التركية في ليبيا

بدأ دور الاستخبارات التركية في تجنيد العناصر الإسلامية في الحرب الأهلية في ليبيا والتـي أدت إلى إسقاط نظام القذافي في 2011،. وبرز اسم صادق أصطون باعتباره أبرز ضباط المخابرات التركية المسؤولين عن هذه العملية. كان أصطون على الأرض عند انتهاء المرحلة الأولى من الصراع. وانتقل بعد ذلك إلى تركيا ليصبح أحد أبرز الأسماء المسؤولة عن إحباط المحاولة الانقلابية في 2016. واتهم أصطون في هذا الصدد بتلفيق الاتهامات إلى العديد من الضباط والعناصر القضائية، وهو ما أدى إلى إبعاده لحين إلى أستراليا ليعمل كملحق عسكري في السفارة التركية رغم صدور أوامر قضائية باستدعائه للشهادة.

يعمل أصطون تحت القيادة المباشرة لفيدان منذ 2010، وقد استغل خبرته العسكرية الطويلة في العمليات الخاصة والإمداد في تأسيس فرع للعمليات الخاصة لإضعاف القوات الخاصة داخل الجيش التركي. كذلك، ساهم أصطون في تأسيس فرع الاستخبارات الوطنية والتنسيق، وهو مسؤول عن جهاز المعلومات الاستخباراتية من داخل الأجهزة الحكومية التركية. من ناحية أخرى، ساهم أصطون في تأسيس العلاقات مع شركة صادات التركية بقيادة عدنان تانريفيردي، الضابط السابق والصديق المقرب لأردوغان، وأحد المشاركين في نقل المرتزقة إلى ليبيا لاحقًا.

عاد أصطون مرة أخرى مع احتدام الصراع بين الجيش الوطنـي بقيادة المشير حفتر وحكومة الوفاق حول طرابلس. أشرف أصطون على نقل المعدات الثقيلة إلى مليشيات حكومة الوفاق، خاصة تلك المنتمية إلى مدينة مصراتة والتـي استقبلت البوارج جوكصو وجوكوفا المدارة من المخابرات التركية. وبالتنسيق مع شركة صادات تم نقل آلاف المرتزقة السوريين، وأغلبهم من الجماعات المسلحة سالفة الذكر من خلال خطوط جوية أدارتها المخابرات التركية من مطار غازي عنتاب إلى استانبول ومنها إلى مصراتة وطرابلس.

وفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان، بلغ عدد السوريين الذين تم نقلهم للقتال إلى ليبيا حوالي ١٦ ألف مقاتل تلقوا استحقاقاتهم المالية من حكومة الوفاق. ولم تقتصر العملية على السوريين فقط. فقد أشرفت المخابرات التركية، وفقًا لتقرير صادر في يونيو ٢٠٢٠ على نقل حوالي ٤٠٠٠ مقاتل من السلفيين الجهاديين من تونس إلى ليبيا. من بين هؤلاء كان هناك حوالي ٢٥٠٠ من الدواعش من مختلف دول المغرب العربي. 

لم تكن هذه العملية في ليبيا دون ضحايا. ففي يونيو 2020، كشف عدد من الصحافيين الأتراك وقوع ضحايا في صفوف المخابرات التركية في ليبيا،يبلغ عددهم  سبعة عناصر وهو ما أدى إلى صدور حكم بسجنهم بسبب الكشف عن هويات القتلى. هذا فضلاً عن الفتلى في صفوف المرتزقة السوريين وغيرهم، الذين أصبح وجودهم غير مرغوب فيه وفقًا لاتفاق وقف إطلاق النار النهائي في أكتوبر ٢٠٢٠.

تقييم استراتيجية الاستخبارات التركية في الشرق الأوسط

من المؤكد أن النشاط الذي قامت به الاستخبارات التركية كان لها عظيم الأثر في فرض بعض الحقائق على الأرض، وتحقيق بعض النجاحات التكتيكية المؤقتة، مثل الحد من نفوذ قوات سوريا الديمقراطية، ومنع سقوط طرابلس في يد الجيش الليبي، إلا أن الأهداف الاستراتيجية من وراء تلك الشبكة التـي حاول جهاز خاقان فيدان تحقيقها توشك أن تفشل لأسباب عديدة.

أول هذه الأسباب أن تركيا تكاد تكرر نفس السيناريو على الرغم من اختلاف الوضع السياسـي والاجتماعي بين سوريا وليبيا، وتعتمد حصرًا على أدات واحدة وهي تمويل وتسليح الجماعات السنية المتطرفة. وهو ما يجعل خطواتها وتحركاتها أكثر توقعًا.

ثاني هذه الأسباب هو عدم كفاءة تلك الأداة. فعلى العكس من “وكلاء إيران” وعلى رأسهم، بدرجة من التحفظ حزب الله الذي أصبح حليفًا أساسيًا في محور المقاومة، تفتقد المليشيات المدعومة تركيًّا التماسك الأيديولوجي، فتطرفها الدينـي مخلوط بانتهازية وإجرامية شديدة، كما أنها غير منضبطة وغير خاضعة مباشرة لتسلسل قيادي هرمي. هذا فضلاً عن ميل هذه المليشيات للاقتتال الداخلي.

قد يكون الوضع في ليبيا أكثر وضوحًا. فالمليشيات الليبية الحليفة لحكومة الوفاق السابقة أكثر استقلالية من الميليشيات السورية، وتحالفها مع تركيا هو تحالف ظرفي يدور حول معاداة الجيش الوطنـي، وعدا قيادات هذه المليشيات المتصلة بتركيا، لا تملك أنقرة سيطرة فعلية عليها، وسرعان ما اندلعت مشاحنات واشتباكات بينها وبين المرتزقة السوريين.

ثالثًا، يبدو أن الاستخبارات التركية تواجه صعوبات في الاستطلاع وبناء معرفة دقيقة بالوضع الاجتماعي خاصة في ساحة بعيدة مثل ليبيا. الدليل على ذلك الهجوم الذي وقع على قاعدة الوطية في يوليو 2020، بعد الاستيلاء عليها من قبل الجيش الوطنـي، حيث استهدفت الضربة نظام دفاعي تركي وأسقطت قتلى وجرحى في صفوف القوات التركية.

ومع ذلك، يبدو جهاز الاستخبارات التركية تحت قيادة فيدان قادرًا على المناورة ولا يتردد في التخلي عن صنائعه كلما استدعت الضرورة. فمع بداية نقل المرتزقة السوريين إلى ليبيا، طار فيدان لموسكو للقاء وزير الأمن في نظام الأسد علي مملوك، ولم يخف الجانبان السوري والتركي استمرار الاتصالات الأمنية بين الطرفين، والتـي تدور حول إدارة “بقعة التطرف” المتبقية في إدلب وفقًا لاتفاق سوشـي.

ومع محاولة تركيا التقارب مع دول المنطقة، خاصة مصر التـي تتماس معها في التنافس على غاز شرق المتوسط وفي الصراع الليبـي، سيكون على جهاز الاستخبارات التركي أن يجد طريقة آمنة للتخلص من العبء الذي راكمه بالاستثمار حصرًا في دعم الإسلاميين والجهاديين.          

عن "مركز الإنذار المبكر"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية