صدمة حروب الفُرجة وحروب الحداثة الجديدة

صدمة حروب الفُرجة وحروب الحداثة الجديدة


16/08/2021

تخيلوا حجم الخراب الذي يحدث في العالم، لا سيّما في المنطقة العربية والشرق الأوسط تحديداً، ليست الحرب العسكرية وحدها المسؤولة عن صناعة هذا المحتوى العالمي من الخراب، ثمة حروب من أنواع مختلفة تفعل بالعالم وبالدول والمجتمعات والبشر أسوأ ممّا قد تفعله المدافع وفوهات البنادق والصواريخ والراجمات، الفيروسات مثلاً قتلت في عامين ما تقتله 100 حرب، والحرائق أيضاً التي تلتهم شجراً وبشراً كثيرين، في الجزائر واليونان وتركيا، حرائق قد لا يكون الحر وارتفاع درجات الحرارة المتهم الوحيد فيها.

العالم اليوم محكوم بالفوضى حتماً، الفوضى التي يمكن استثمارها بشكل خطير لصالح الدول المنتجة لها، إنها تضرب في العمق، وتصيب الدول والمجتمعات في مأزق قد يستمر طويلاً حين يصيب المكونات الثقافية والحضارية والوعي لدى المجتمعات، تماماً مثلما فعل فيروس كورونا، فيما يتركه خلفه من فوضى في التعليم في دول تعاني أساساً من أزمة حقيقية ما قبل كورونا، فكيف الآن؟

أجيال عربية كثيرة تنشأ وتكبر على وقع هذه الفوضى والأزمات، ويتشكل وعيها تحت مطرقة الفقر والحاجة والبطالة والأفكار المشوشة والقيم التي أصيبت بالجنون

أجيال عربية كثيرة تنشأ وتكبر على وقع هذه الفوضى والأزمات، ويتشكل وعيها تحت مطرقة الفقر والحاجة والبطالة والأفكار المشوشة والقيم التي أصيبت بالجنون، هذه الأجيال كيف لها أن تستعيد توازنها مع الحياة والعالم ومع طموحاتها بالأمن والاستقرار والعيش الكريم والتعليم والإبداع وتحقيق الذات؟ أي طموح تبقى لدى الشباب العراقي، على سبيل المثال، وهو يرى كيف تبخرت دولته القوية المتماسكة وتحولت إلى مجرد جغرافيا مشحونة بالطائفية والقلاقل والفتن والجرائم والفقر وتحطم القيمة المعنوية لدولة عريقة ذات حضارة لا تموت؟ وكيف لجيل لبناني ما يزال منذ الحرب الأهلية يدفع تكاليف حياة غير مستقرة وفوضى السياسة والسياسيين، وربما لم يكن يدور في خلده أنه سيصاب يوماً ما بالخذلان والكآبة والقلق والخوف، وقد كان لا يشك بأنه سيفقد قدرته على تأمين زجاجة عطر، فكيف والحال به اليوم وهو يفقد قدرته على تأمين علبة دواء؟

اقرأ أيضاً: الوصاية المزعومة لرجل الدين على العقل والوجدان

ماذا عن أبناء الحرب في سوريا واليمن وليبيا؟ كيف لهم أن يستطيعوا نسيان كل ما حدث لهم، وأن ينخرطوا في صناعة دولتهم من جديد؟ هذا إذا وصلوا إلى هذه المرحلة المغرقة في التفاؤل بانتهاء زمن الحرب والفوضى، إنهم أجيال متلاحقة خدرت الحرب والإرهاب -كما يقول كامو- إحساسهم بمستوى الجريمة التي حدثت وتحدث لهم ولدولتهم وبلدهم وتاريخهم وذاكرتهم وذكرياتهم. إنهم بفعل صدمة الحرب والفوضى والموت الذي يتسلل إليهم من كل الزوايا ومن فوقهم ومن تحتهم ومن ثقوب السياسة السوداء، يتحولون إمّا إلى لا منتمين، وإمّا إلى لا مبالين، وإمّا إلى مجرد عبء وإنسان مكسور من كل جوانبه.

العالم القوي ودول الاستعمار الجديد ودول النفوذ لم تستكمل أهدافها بعدُ من الفوضى في طول البلاد وعرضها، في المنطقة العربية والشرق الأوسط وشمال أفريقيا وقلبها، إنها مستمرة في صناعة ذلك من خلال نماذج جديدة للحروب، حددتها الباحثة "ماري كالدور" بـ3 نماذج؛ هي: حرب الشبكات التي تديرها من خلال الجماعات المسلحة والعصابات والخلايا الإرهابية، وحرب الفرجة التي تديرها من مسافة طويلة عن طريق الوكلاء، وحرب الحداثة الجديدة أو حرب الوهم، وكلها نماذج مستخدمة، وكلها أيضا - كما تقول الباحثة ـ غير قادرة أو غير معنية بحل النزاعات، لكنها تسبب معاناة عشوائية للمجتمعات، وإنّ ما تفعله هذه الحروب هو تقوية المتطرفين من جميع الجهات وإضعاف المجتمعات المدنية، إنها حروب لا ترغب بأن تصل إلى أي انتصار قد يلوح في الأفق، بل إنها ترغب في متابعة استغلال ما ينشأ عنها من خوف وفوضى.

اقرأ أيضاً: الموسيقى ..سلاح الحياة في وجه الموت

وعلى سبيل المثال، يذهب باحث آخر هو "أولريتش بيك" إلى حروب المخاطر، أو حروب إعادة توزيع المخاطر، ربما انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان وصعود طالبان من جديد تمثيل حقيقي لإعادة توزيع المخاطر تلك، إنها حروب جديدة شكلاً ومضموناً، والأجيال التي نشأت في سياقاتها المفجعة ستبقى مصابة بالصدمة الثقافية المزمنة، والتي بدورها تساهم في صناعة مزيد من المتطرفين وممارسي العنف والجماعات المسلحة، كي تبقى مادة خصبة لتلك الحروب في أيّ منطقة من العالم.

المستقبل الذي ينتظر هذه المنطقة، في سياق مخلفات الفوضى والحروب والأزمات الكبرى، لا يمكن الوثوق به، ولا التفاؤل لأجله، إننا أمام فراغ مخيف

المستقبل الذي ينتظر هذه المنطقة، في سياق مخلفات الفوضى والحروب والأزمات الكبرى، لا يمكن الوثوق به، ولا التفاؤل لأجله، إننا أمام فراغ مخيف، وهو ليس فراغاً، لكنّ تصوراتنا عنه تبدو قاصرة ومشوشة كما لو أننا ننظر في فراغ، فإذا كانت دولنا وحكوماتنا بلا رؤية واضحة وبلا مشروع متماسك لبناء مستقبل ما، فكيف بهذه الأجيال من الشباب والمدنيين المغلوبين، الذين يذهبون فرق عملة بين أصحاب المصالح، وأصحاب حروب الفرجة والمخاطر، وأصحاب المنافع من نخب السياسة والحكومات وجماعات الضغط؟

نحن مجتمعات لا تعرف الكثير حول كل ما يحدث، سوى أنها تقرأ الأخبار وتتابع التحليلات، ويبدو كما يقول صحافي اشتهر بتقارير الحروب، هو "بيتر أرنيت"، أنّ "كل خبر لا يشتمل على قنابل أو كوارث طبيعية أو مأساة مالية يصبح من الصعب التهرب من سماعه"، إنها حروب مؤسسة أيضاً لكي تسمع المجتمعات ذلك، وتتأثر، إنّ الحرب لم تعد شيئاً يُقرأ في البرقيات العسكرية، يقول أحدهم، إنها تدخل مباشرة إلى غرف المعيشة، حتى تحولت هذه المعيشة إلى كابوس.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية