صلاح جاهين.. عبقرية البساطة والفلسفة

صلاح جاهين.. عبقرية البساطة والفلسفة

صلاح جاهين.. عبقرية البساطة والفلسفة


09/04/2024

شهدت نهاية خمسينيات القرن الماضي ميلاد موهبة أدبية استطاعت أن تؤرخ لحقبة مهمّة في تاريخ مصر الحديث والمعاصر، وأعادت إحياء شعر الرباعيات في قوالبه التي ارتبطت تاريخياً بالشاعر الفارسي الخيام، ففي عام 1959 بدأ صلاح جاهين بكتابة رباعياته ونشرها بشكل أسبوعي في مجلة "صباح الخير" المصرية حتى عام 1962.

وبأسلوب فريد مزج بين البساطة والفلسفة والعمق، تنوعت رباعيات جاهين، الذي ولد في 25 كانون الأول (ديسمبر) 1930، وتحلّ اليوم ذكرى وفاته، لتشمل الجوانب الإنسانية والاجتماعية والسياسية. الرباعيات التي تذيلتها دائماً كلمة "عجبي"، حمل بعض منها رسائل جسورة لبعض رجال السلطة في عهد الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، حتى أنّ واحدة من رباعياته قالت صراحة: "يا طير يا عالي في السما طظ فيك، ما تفتكرشي ربنا مصطفيك، برضك بتاكل دود وللطين تعود، تمصّ فيه يا حلو ويمص فيك. عجبي."

 نشأة جاهين

كان جاهين الابن الأكبر لوالده المستشار بهجت حلمي، الذي بدأ وكيل نيابة، وانتهى رئيس محكمة استئناف المنصورة، والذي سمّاه محمد صلاح الدين بهجت أحمد حلمي، ودرس بكلية الفنون الجميلة جامعة القاهرة، وكان لها الدور في نبوغه بالرسم الكاريكاتيري فيما بعد، لكنّه لم يكملها، واتجه إلى دراسة الحقوق التي عملت على توسيع آفاقه نحو العمل السياسي والقانوني.

وتزوج جاهين مرتين، فقد قابل زوجته الأولى سوسن محمد زكي، الرسامة بمؤسسة الهلال عام 1955، وأنجبت منه ولداً وبنتاً، هما أمينة وبهاء جاهين، قبل أن يتزوج الفنانة "منى جان قطان"، وهي فلسطينية الأصل، عام 1967، وأنجبت منه ابنته سامية جاهين.

 قلم وريشة

الفن ألوان ولكلّ لون ريشته في مخيلة صلاح جاهين، الذي قال في حوار تلفزيوني في برنامج "أوتوغراف": إنّ كلّ لون من ألوان الفنون يتنازع بداخله فيخرج على الورق الأقوى من بينها.

ويروي جاهين، خلال حواره مع الإعلامي طارق حبيب، أنّ حلمه الأول كان التمثيل على خشبة المسرح، إلا أنّ أمّه رسمت في مخيلتها سياقاً درامياً تخيلت فيه جاهين ممثلاً، قبل أن ترفض قطعياً هذا الأمر، فظهرت موهبتا الرسم والشعر، عندما ثبطت أمّه موهبة التمثيل مؤقتاً.

 

بأسلوب فريد مزج بين البساطة والفلسفة والعمق، تنوعت رباعيات جاهين، الذي ولد في 25 كانون الأول 1930، وتحلّ اليوم ذكرى وفاته، لتشمل الجوانب الإنسانية والاجتماعية والسياسية

 

وفي عام 1959 بدأ جاهين كتابة رباعياته، واستمر في كتابتها حتى عام 1962، قبل أنّ ينتقل إلى جريدة الأهرام المصرية، ويتوقف عن كتابة الرباعيات حتى عام 1966، قبل النكسة بعام واحد. وفي 1966 عاد صلاح جاهين إلى مجلة "صباح الخير" كرئيس تحرير لمدة عام واحد، كفّ بعدها نهائياً عن كتابة الرباعيات، إلّا (5) رباعيات نشرها في مربعه بالأهرام تعليقاً على مظاهرات الطلبة عام 1968.

عندما وقعت نكسة 67 كان صلاح جاهين رئيساً لتحرير مجلة "صباح الخير"، فقرر فجأة أن يعود إلى جريدة الأهرام، بعد أن امتلأ قلبه بمرارة الهزيمة، وعلِق في دوامة من الحزن الشديد. وشكّلت النكسة تحوّلاً جذرياً في شخصية جاهين، الذي لطالما كان الشاعر الأول لثورة تموز (يوليو)، بسبب حماسه وتأييده لمبادئها وتغنّيه بالرئيس جمال عبد الناصر في كلمات أغانيه وأشعاره. وبعد وقوع نكسة حزيران 1967، اكتأب وانطفأ حماسه الذي كتب به أغاني مثل: "يا أهلا بالمعارك"، و"والله زمان يا سلاحي"، وغيرها من الأغاني الحماسية، لشحذ همم الجنود والشعب، وكما ظهر في فيلم "حليم" في المشهد الذي قام بأدائه ابنه "بهاء" وقال فيه: "يا حليم إحنا جينا نغني للناس غنينا عليهم".

عن النكسة قال جاهين:

علي رجلي دم ... نظرت له ما احتملت

علي إيدي دم... سألت ليه ؟ لم وصلت

علي كتفي دم... وحتى علي رأسي دم

أنا كلي دم. .. قتلت ؟ ... والا اتقتلت

عجبي !!

وفي نيسان (أبريل) 1970 كتب جاهين قصيدته الشهيرة "الدرس انتهى... لمّوا الكراريس"، لرثاء أطفال مذبحة بحر البقر بعد هجوم همجي لطائرات الكيان الصهيوني في صباح 8 نيسان (أبريل) من العام نفسه على مدرسة بحر البقر المشتركة في قرية تحمل الاسم نفسه في محافظة الشرقية، ممّا أسفر عن استشهاد (30) طفلاً وإصابة (50) آخرين وتدمير مبنى المدرسة تماماً.

 وكما أدمت المذبحة قلوب الملايين من المصريين والعرب، ما تزال قصيدة جاهين، التي تغنت بها الفنانة شادية، تُبكي قلوبهم:

زرع ... حصد .... قتل

إيه رايك في البقع الحمرا

يا ضمير العالم يا عزيزي

دي لطفلة مصرية سمرا

كانت من أشطر تلاميذي

دمها راسم زهرة

راسم راية ثورة

راسم وجه مؤامرة

راسم خلق جبارة

راسم نار

راسم عار

ع الصهيونية والاستعمار

والدنيا اللي عليهم صابرة

وساكتة على فعل الأباليس

الدرس انتهى

لمّوا الكراريس

عبقرية جاهين لم تنحصر في الشعر فقط، بل امتدت إلى الرسم، فقد أسّس بريشته مدرسة الكاريكاتير السياسي الاجتماعي المصري والعربي الحديث. وعلى الرغم من أنّ هناك المئات من رسومات الكاريكاتير لجاهين لم تنشر بعد، ظلّ كاريكاتيره يتمتع بدرجة نادرة من الاهتمام والتوثيق الأكاديمي.

وقد رسم صلاح جاهين العديد من الصور الكاريكاتيرية المعبّرة التي اشتهرت شخصياتها، مثل الفهامة، قيس وليلى، درش، قهوة النشاط، وكلها من الرسومات التي تحاكي الواقع حتى الآن. كلّ ما حققه جاهين من نجاحات في فنّ الكاريكاتير كان ينقصه التطرق لأبواب أخرى، فقد كان يتمنى أن تخرج رسوماته السياسية إلى النور، قائلاً حينها: "طبعاً مكانش ينفع إن أنا أنشر أيّ كاريكاتير سياسي في جريدة، وده كان هيهدد مستقبلي كله".

 

عندما وقعت نكسة 67، كان جاهين رئيساً لتحرير "صباح الخير"، فقرر فجأة أن يعود إلى "الأهرام"، بعدما امتلأ قلبه بمرارة الهزيمة

 

ورغم أنّها لم تكن رسوماً لاذعة، إلّا أنّه اكتشف عدم صلاحيتها للنشر، ففكر في أن يجمعها في كتاب، على حدّ قوله في حواره مع الإعلامي طارق حبيب، ولكن في الوقت نفسه كانت الهيئة العامة للكتاب تطبع مجموعات كاريكاتير، فطلبوا منه أن يختار أفضل رسوماته لوضعها في هذا الكتاب، فرشح لهم جاهين الكثير من رسوماته ممّا استغرق الكثير من الوقت ليجعله يتفرغ لطباعة كتاب خاص به، وترك حوالي (1000) كاريكاتير لم يستطع استكمالها، على أن يختار منها عطيات الأبنودي، وابنه بهاء جاهين، وتكون لهم حرية الاختيار النهائي لما سيوضع في هذه الكتب.

 جاهين والاكتئاب

في لقاء جاهين مع الإعلامي طارق حبيب في برنامج "أوتوغراف"، قال: "كنت في الأول برسم تعبيرات وديكور وناس واللي خلاني اتجه للكاريكاتير إنّي كنت بحب الصحافة قوي، وعايش في وسط الصحافة مع أحمد بهاء الدين ومصطفى محمود، فقلت أعمل الحاجة اللي أعرفها لأنّه أصلاً كنت دارس فن"، مضيفاً: "حاولت أزين الصفحات اللي بظبطها مع الكتاب، وكان في ناقد وجهني وقالي أنت حسك فكاهي ورسوماتك حلوة ارسم كاريكاتير، حتى جاء بهاء الدين رئيس تحرير روز اليوسف، وقالي تعال ارسم الصفحات، ومن وقتها".

جاهين "الضاحك الباكي" أصيب بالاكتئاب أكثر من مرّة، على حدّ قوله في لقائه مع "أوتوغراف"، على الرغم من استمراره في رسم الكاريكاتير والابتسامات العريضة التي ميزت شخصيات كاريكاتيره.

وأشار جاهين إلى أنّ الاكتئاب "هو مرض المهنة لرسّامي الكاريكاتير عموماً، كثير جداً من المهرجين أو رسّامي الكاريكاتير عندهم اكتئاب، وأنا لفيت كتير في أمريكا ولندن وقابلت رسّامي الكاريكاتير بتوع الصحف الأجنبية هناك، لاحظت على معظمهم إنّهم مصابون بالاكتئاب برضه، وأنا أصبت بالاكتئاب كتير جداً".

واعترف جاهين، خلال اللقاء، أنّ زوجته قررت أن تعرضه على أكبر الأطباء النفسيين بالخارج، حتى تنتهي حالات الاكتئاب التي كانت تصيبه، قائلاً: "في مرّة زوجتي قالت ليّ أنا لازم أوديك لأكبر دكتور نفساني في العالم، فودتني على لندن، وقالت للدكتور دي حاجة غير معقولة إنت عارف جوزي في مصر بيشتغل رسام كاريكاتير، راح قالها: وإيه يعني ده كل رسّامي الكاريكاتير عندهم اكتئاب ومن زبايني كان فيكي، ومكنتش أعرفه وقتها، وسألت عليه قالوا عليه ده رسام كاريكاتير مشهور وانتحر، وقتها كان عندي شعر، وقتها وقف".

جاهين والسينما

لعبت السينما كرابط مشترك بين الفنون المتعددة التي مارسها جاهين، حيث وجد فيها منفذاً للهروب من اكتئابه والحزن الذي ملأ قلبه بسبب نكسة 67، ففي حين ابتعد جاهين عن الكتابة الوطنية، كتب فيلم "خلي بالك من زوزو" قبل حرب 1973 بعام واحد، بينما يعاني المصريون مرارة الهزيمة ويلقون باللائمة على عبد الناصر ويتساءلون "هل فعلاً هنحارب".

 

عبقرية جاهين لم تنحصر في الشعر، بل امتدت إلى الرسم، فقد أسس بريشته مدرسة الكاريكاتير السياسي الاجتماعي المصري والعربي

 

وبعد حرب أكتوبر 1973، كتب جاهين فيلم "أميرة حبي أنا"، الذي أثار غضب نجيب سرور، خاصة عندما سمع أغنية "بمبي"، فذهب إلى بيت جاهين ليعاتبه بحنق وحسرة: "بمبي يا صلاح!؟ بمبي ولسه البلد خربانة، ولسه دم خواتنا مابردش"، لكن ربما جاء وصف حالة تلك المرحلة كما جاء في قصيدته "أنغام سبتمبرية":

"وقف الشريط في وضع ثابت

دلوقت نقدر نفحص الصورة

انظر تلاقي الراية منشورة

مِتْمَزّعة لكن ما زالت فوق

بتصارع الريح اللي مسعورة"

مواضيع ذات صلة:

في ذكرى وفاته السابعة.. بلاغة العامية تخلد الأبنودي

"طائر الجنوب" العراقي يعانق الغياب




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية