طالبان بين السياسة والأيديولوجيا

طالبان بين السياسة والأيديولوجيا


17/05/2022

محمد المحمود

عندما عادت حركة طالبان إلى السلطة منتصف العام الماضي، بعد انسحاب قوات الولايات المتحدة من أفغانستان، راهن كثيرون على أن طالبان عام 2021 ستكون مختلفة كثيرا عن طالبان عام 2000.

راهنوا أن 20 عاما من التواري عن الأنظار، ومراقبة المتغيرات من موقف المتفرج والمُتربّص، إضافة إلى الضرورات العملية التي يستلزمها "منطق المصلحة" بعد توليها مسؤولية إدارة شؤون البلاد، كل ذلك يحكم عليها بإجراء متغيرات جذرية على "منطق الأيديولوجيا" التي يجري ترسيمها مؤسساتيا، بصرف النظر عن القناعات الشخصية الراسخة لهذا الفصيل أو ذاك. 

نعم، كان الرهان على أن "منطق السياسة"، وهو المنطق البراغماتي بالضرورة، سيغلب "منطق الأيديولوجيا" المُتَضَمِّنة لكثير من الدوغمائيات.

وكان اختلاف المتحاورين آنذاك يتمحور حول المدة التي سيستغرقها تغلّب "المنطق السياسي" على "المنطق الأيديولوجي"، وليس على مبدأ التغلّب أو التحوّل من الأساس.

في خضم الجدل الدائر آنذاك حول هذه المعضلة الأفغانية الطالبانية، نشرتُ على هذا الموقع أربع مقالات (في أغسطس وأوائل سبتمبر 2021) تجنح، في مجملها، إلى التشاؤم بمستقبل أفغانستان مع طالبان، على خلفية قناعة لديَّ لا تزال تتأكد باستمرار، وهي أن الغلبة في مسار الحكم الطالباني ستكون للأيديولوجيا على حساب السياسة.

بينما كان المفكر القدير د. توفيق السيف على العكس من ذلك، إذ يتناول هذا الموضوع من زاوية مُتَفائلة تُراهن على أن صلادة الأيديولوجيا الطالبانية ستتحطّم على وقع مطارق الاضطرارات العملية لإدارة بلد واسع، مُتفاصِل مناطقيا ومتنوع عرقيا ومذهبيا وثقافيا، ومتأزم سياسيا، كما هو حال أفغانستان.      

من الصعب تجاوز عقائد راسخة مدعومة بمنظومة قيم متوارثة، ومؤكدة بتوافق اجتماعي كبير، لا يشذّ عنه إلا منبوذ أو فصيل هزيل.

يصعب هذا من حيث المبدأ، فكيف إذا كانت هذه القناعات الراسخة هي التي تأسس عليها الحراك الطالباني أصلا، وهي التي أسست دولته الأولى (من 1996 إلى 2001)، وهي التي ضمنت له الصمود لمدة 20 عاما من التواري بسلطته فيما وراء السلطة العلنية، وهي التي أعادته إلى السلطة بمسيرة انتصار عسكري كاسح على جيش نظامي مسلح بأحدث الأسلحة، ومدعوم من القوة الأولى في العالم؟ 

إن التنازل عن مثل هذه الأيديولوجيا ليس خيارا من جملة خيارات، بقدر ما هو تنازل عن شيء من صميم الوجود ذاته. لقد قلتُ في مقال سابق عن هذه القضية ذاتها ما نصّه: "الأسس التي قامت عليها الحركة، هي الأسس ذاتها التي كفلت لها الانتشار والهيمنة، ومن ثم التضامن الداخلي والصمود في مواجهة التحديات".

ما يعني أن أي تنازل، ولو بحكم الاضطرار ، عن مبدأ أساسي، سيبدو لقادة طالبان أنفسهم وأمام أنفسهم، فضلا عن مناصريهم، تنازلا عن الهدف الأسمى الذي تأسّست الحركة لتحقيقه، وجمعت الأنصار وبذلت الدماء والتضحيات الجِسَام تحت رايته. أي أنه سيصبح خيانة للمبدأ، وللشهداء السابقين، ولكبار المناضلين، وللمناصرين الحاليين؛ فضلا عن كونه خيانة للذات.

وبالطبع، يتضح الإخلاص للمبدأ الأيديولوجي أشد ما يتضح، عندما يكون المبدأ دِينيا، وفي الوقت ذاته، يكون نقطة ارتكاز في منظومة قِيمٍ اجتماعية راسخة، نقطة ارتكاز تتعالق معها، وتتفرع عنها، كثير من القيم الأخرى، وتشتبك مع معظم، إن لم يكن كل، أنظمة العلاقات المجتمعية. ويظهر هذا أشد وأوضح ما يظهر في قضية المرأة، التي هي قضية مفصلية في مسار التحولات لكل المجتمعات الإنسانية، والمجتمعات الإنسانية التقليدية على نحو خاص. 

قبل أسبوع، وفي قرار غير مستغرب، طالبان تُلزم النساء بتغطية وجوههن في الأماكن العامة، وتفرض العقوبات على المخالفات، وعلى أولياء أمورهن بدرجة أولى.

وقبل شهرين تقريبا، تُغلق طالبان المدارس الثانوية لتعليم البنات بعد أن فتحتها لساعات معدودة وفق تعهداتها العام الماضي بعد استيلائها على العاصمة، كابل، ويبتهج الطالبانيون بهذا القمع والمنع والتجهيل، لأن في هذا وفاءً للمبادئ التي تأسست عليها الحركة أولا، وناصرها الأتباع عليها ثانيا، كما أن فيها نَمْذَجَةً قابلة للتصدير إلى كل الأصوليين المتطرفين في العالم الإسلامي.

إن ما حدث لم يكن مستغربا في ذاته، وإن كان مستغربا في مستوى الحِدِّية في التأكيد على تفاصيله وفي تطبيقه. هذه المسألة المتعلقة بالمرأة (النقاب والمنع من التعليم) فيها "حكم فقهي" عندهم. وما فيه حكم فقهي مُتقرِّر، فلا يتجوز التهاون في تطبيقه؛ مهما كانت الظروف.

يقول حفيظ الله حقاني، عن موقف طالبان من المرأة: "أن تخرج إلى المدرسة أو إلى الجامعة تدرس الأمور الدنيوية فهذا لا يجوز عندهم"(طالبان من حلم الملا إلى إمارة المؤمنين، حفيظ الله حقاني، ص135). وإذ يتقرر لديهم أنه "حكم شرعي"، فلا مجال للتفكير فيه أصلا، ولا مراجعته، لأنه حينئذ حكم الله في نظرهم، ولا أحد، أيا كان، له كلمة بعد كلمة الله!  

 إن حركة طالبان ليست بِدعا من القول ولا بِدعا من الفعل في سياق التأسلم التقليدي. حركة طالبان هي "حالة الرفض السلفي" لكل تجليات العالم الحداثي. إنها التعبير عن هذا الرفض اليائس المحبط الذي يحاول أن يجد فرصة في هذا المكان أو ذاك؛ للقفز من مستوى التنظير التشريعي إلى مستوى التطبيق العملي. وطالبان إذ تقدم الواقع المُنَمْذَج في الجغرافيا الأفغانية، فإنما تُقَدِّم الحلمَ الواعد الباذخ في إغرائه لعموم المتأسلمين خارج نطاق هذه الجغرافيا. 

إن تغطية وجه امرأة، ومنعها من الخروج إلا للضرورة، ومنعها من التعليم النظامي، ليس إلا رأس حربة لنموذج أيديولوجي يجري ترويجه باستمرار.

طالبان تخلق نموذجا حيا يُرَاد له أن يتمدد، وتقوم بتجربة تخلق أنصارها الواقعيين راهنا من جملة أنصارها الحالمين سابقا، وتدعم، بقوة التجربة في مسألة حاسمة وفق قناعات الوعي الجمعي المتأسلم، منظومةً أوسع وأشمل، إذ تُعْطِي كلَّ المقولات السلفية التراثية التي أكل الدهر عليها وشرب، والتي كادت مصداقيتها تتحدّد في ظرفها التاريخي، تعطيها مصداقية حاضرة.

وحينئذ، لا يصبح منع المرأة من التعليم، ولا غطاء وجه المرأة، ولا منعها من الخروج من البيت..إلخ، قانونا إلزاميا للأفغانيات فحسب، بل يصبح حتى "جهاد الطلب" (أي القتال الهجومي ابتداء) إلزاميا أيضا، ويلزم، على مقتضى حكم الوجوب هنا، ما يتبعه من سبي واسترقاق.

إن أي سياسة لا تخلو من أيديولوجيا، قَلَّ ذلك أو كَثُر، مهما كانت الواقعية البراغماتية حاكمة في نهاية المطاف. وبلا شك، يرتفع مستوى الحضور الأيديولوجي بمستوى غياب مقومات الشرعية الواقعية.

وبما أن حكومة طالبان عاجزة تماما عن تحقيق أي منجز واقعي أو تنموي يدعم شرعيتها، فحاجتها إلى منطلقاتها الأيديولوجية حاجة ماسة، بل حاجة وجودية، سواء على مستوى الدعم للحراك السياسي ابتداء، أو على مستوى تبريره لاحقا.

 أخيرا، وللتذكير بتشاؤمي حيال التجربة الطالبانية، أختم هذا المقال بمقطع ختمتُ به مقالا سابقا لي عن طالبان، أقول فيه: "التفاؤل بالمستقبل الأفغاني تحت الحكم الطالباني ليس له ما يُبرّره؛ لا أيديولوجيا ولا واقعيا. وأقولها بكل صراحة: لا تتوقع كثيرا من التحولات الإيجابية في الإدارة الطالبانية".

عن "الحرة"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية