عائدٌ يا حياة

عائدٌ يا حياة


04/02/2019

أعود من آخر الحافة، من منحدر الظلام الطويل، كأنّ الحياة تولد من عدم مؤقت، كأنّ شمساً بعيدة بدأت تقترب، لتمسح بكفّها على جبين فتى، لا يستغرب كلَّ هذه اللهفة التي تمنح المعنى الصافي للأشياء، وتُسمّيه ابن الحياة والأمل.

لا يريد لهذا الملاك الصغير أن يحزن.. لا يريد لعينيه المرصّعتين بالعسل أن تدمعا، ولا أن يحمل صفة أبيه الطاعن في اليُتم

كأنّ أمّيك حرستاك من الموت، كأنّ تعويذتيهما كانتا لردع دمع الأحبة الذين اختبروا مبكّراً عذاب الغياب لأب مسجّى، لمّا يتجاوز الرابعة والخمسين، متجرّعاً لوعة قلب عليل لم تشأ أمّاك "نعيمة" و"الدبورة" أن ترتسم على وجه الفتى "رايان" الغارق في "البلايستيشن"، والغافل، بقصد، عن مكابدات أب ما زالت أمامه مهمات ومشاغل، وما زال الفتى الصغير غير معنيّ بالقلب الذي اخترقته هزائم العمر، وكادت أن تهزمه.

"شغّل لنا النت يا يابا، ودعني أتواصل مع أصحابي، وكفّ عن وجع لا يليق بك.. بمعنى آخر: كف عن الدلع..".هكذا تخيّل الرجل ولده الصغير يحادث نفسه، فيشكر السماء على لهو الفتى، واستغراقه في لعبة "فورت نايت". لا يريد لهذا الملاك الصغير أن يحزن.. لا يريد لعينيه المرصّعتين بالعسل أن تدمعا، ولا أن يحمل صفة أبيه الطاعن في اليُتم، وكم عذّبته هذه الكلمة، وهو يصارع، ما تسرّب إلى دمه، وعاث في أحشائه آلاماً.

عائدٌ إلى الحياة، إلى قلوب الأحبّة التي أضاءت دياجير قلبه العيي، فأضاء بنورها ونبَضَ باسم الرجاء والرضى. ولما أيقن أنه اجتاز النفق الطويل الذي عاش في أكنافه الموحشة أربعة عشر يوماً، تذكّر تعويذة أمّيه، وصلوات السيدات الطاعنات في التقوى، وتذكّر آهات يعرف كم كانت حارقة، ويودّ الآن لو تكون برداً وسلاماً.

"الموتُ لا يُوجع الموتى، الموتُ يُوجع الأحياء"، أخبر شاعرٌ أقام "في حضرة الغياب"، وراح يصف الأبديّة البيضاء. أما العائد حديثاً من تلك الأبديّة، فحسبه أن يكتب هذه الكلمات، ويهتف للحياة التي تشرق من بين أضلاعها كلُّ هذه الشموس، التي دفّأت قلبه، وأعادته خفّاقاً يسيلُ على أطرافه الندى..



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية