عبارة الموصل.. الفساد حين يُغرق سفينةَ البلاد

عبارة الموصل.. الفساد حين يُغرق سفينةَ البلاد


24/03/2019

مرة أخرى، كارثة يذهب ضحيتها العشرات من العراقيين، إثر غرق عبّارة تنقل المبتهجين بالربيع إلى جزيرة وسط نهر دجلة في مدينة الموصل الجريحة.

المناسبة هي "عيد نوروز" الذي كانت الموصل قبلَ عقود تحتفل به ضمن "مهرجان الربيع"، ودار في أذهان أهلها أملُ الاحتفالِ به مجدداً بعد جولتهم مع الموت العقائدي الذي مثلّه "داعش" والموت المقابل الذي اسمه تحريرُهم من التنظيم الإرهابي.

اقرأ أيضاً: كيف صار موتُ الأطفال في البحر الميت "غضباً من الله"؟

بمناسبة "عيد نوروز" الذي كانت الموصل قبلَ عقود تحتفل به ضمن "مهرجان الربيع"، ودار في أذهان أهلها أملُ الاحتفالِ به مجدداً بعد جولتهم مع الموت العقائدي الذي مثلّه "داعش"، حلّت كارثة ذهب ضحيتها العشرات من العراقيين، إثر غرق عبّارةٌ تنقل المبتهجين بالربيع إلى جزيرة وسط نهر دجلة في مدينة الموصل الجريحة.

هرع رئيسُ الجمهورية إلى مشهد المأساة لكنه قوبل بالغضب الشعبي حد أنه هرب من المكان بسيارة شرطة مدرعة

هو أملٌ صغير كانت الناس تتطلع إليه علّه يفتح للحياة الآمنة باباً ظل مغلقاً لوقت طويل، لكن فاتهم أن من أغلقَ عليهم الباب هو ذلك التحالفُ غير المعلن بين سلطة الفساد الحاكمة والتنظيمات المتشددة؛ فالطرفان يحتاجان بعضهما للبقاء على قيد العمل الطويل من أجل هدف مشترك: الفتك بالبلاد وأهلها.

لم تكن العبّارة الغارقة صالحة للعبور، كما أنّها غير خاضعة لشروط الأمان ودون أي وسيلة سلامة، لكن هذا غير مهم طالما أنّ صاحبها متعاقد مع هيئة حكومية (دائرة استثمار نينوى)، ولا عقد يبرم اليوم في العراق دون فساد، ولا بد من شريك "قوي" مع صاحب العمل يوفر له غطاءً شرعياً حتى وإن ذهب إلى استخدام كل أشكال الغش والخداع مقابل الربح السريع.

اقرأ أيضاً: القضاء التركي يكافئ صحفياً كشف ملفات فساد.. كيف؟

بعد فتح بوابات سد الموصل، مزقت أمواجُ دجلة الأجساد الغضة، فيما "الشرطة النهرية" لا تملك غير "فزعة" أفرادها، فقفزوا إلى الماء يغالبون الموج للوصول إلى صبية ونساء وأذرع تستغيث. وذلك مشهد آخر من دولة الفساد الحاكمة، فهي "شرطة نهرية" لكنها بلا زوراق ولا وسائل أساسية تتعلق بطبيعة عملها.

في تلك اللحظات التي كانت الموصل تشهد فصلاً جديداً من فصول مأساتها، كان رئيس الوزراء العراقي يستقبل ممثلاً لإدارة فريق ريال مدريد الذي ينوي فتح أكاديميات لتدريب كرة القدم في بغداد وعدد من مدن البلاد، دون أن ينسى السيد عادل عبدالمهدي أن يرفع للمصورين مبتهجاً قميص الفريق الملكي وعليه اسم الرئيس التنفيذي الأول للحكم في العراق.

اقرأ أيضاً: خامنئي وتسييس محاربة الفساد في إيران

هنا تمثيلٌ آخر لصورة السلطة، وهي تدير ظهرها إلى مواطنين لا ذنب لهم إلا كونهم مواطني بلاد ترميهم من جحيم تصنعه سلطتها إلى آخر، ومغارة لصوصها "محروسة جيداً بعمامة ورشاش ودستور".

هرع رئيسُ الجمهورية إلى مشهد المأساة، وقابل الباكين والباكيات لكنه لم يتوقع أن يقابل بالغضب الشعبي، حد أنه هرب من المكان بسيارة شرطة مدرعة.

وفي محاولة منه لركوب موجة الغضب الشعبي، قال رئيس البرلمان العراقي: إن "الإدارة والإرادة السياسية في محافظة نينوى مسلوبة بتهديد السلاح"، فيما يعرف جيداً أن وكلاء ذلك السلاح هم الذين أوصلوه إلى منصبه عبر صفقة فساد كبيرة أخرى، فهو على علم بأنّ السلاح الذي لم يكشف عن حملته ومصدره لا "يسلب الإدارة والإرادة في نينوى" وحسب، بل في كل البلاد.

اقرأ أيضاً: أزمة فساد "حزب الله" عميقة

يعرف أصحابُ الرئاسات الثلاث، الذين يستولون على نسبةٍ ليست بالقليلة من موازنة البلاد، كرواتب ومكافآت خرافية لمؤسساتهم، أن الفساد والاستهتار بأرواح الأبرياء أوصل الموصلَ والعراقَ كله إلى هذه المرحلة، فقادةُ الحشود المزودون بأوامر الحكومة وأجهزتها الأمنية؛ السرية والعلنية، فاقوا نظام صدام في استبداده وفساده، واستصغار الناس في الموصل وغيرها من المناطق المحررة عبر شعار "نحن الذين حررناكم"، لكنهم يتناسون حقيقة راسخة لا يمكن التلاعب بها، ألا وهي أن تلك المناطق سقطت بيد داعش، نتيجة فساد حكومتهم الطائفية ذاتها وهشاشة قواتها الأمنية.

يعرف أصحابُ الرئاسات الثلاث أن الفساد والاستهتار بأرواح الأبرياء أوصل الموصلَ والعراقَ كله إلى هذه المرحلة

كثيرٌ من العراقيين ذرفوا الدموع على أخوتهم، بل وشعروا بغضب حقيقي لا بسبب الموت الرخيص لتلك الأجساد والأوراح وحسب، بل لكونهم قد يتعرضون إلى مصير مشابه غداً وفي أي لحظة، مع سلطة تكتفي من الكوارث والمآسي، بلجان تحقيقية لم تكشف حقيقة واحدة في بلاد الموت الرخيص.

لم يقرأ الكثيرون حادثة غرق العبّارة على أنها حدث عابر ونتيجة لخطأ بشري، بل قرأوه على نحو دقيق يتعلق بسفينة كبيرة تمثل بلادهم وهي تغرق، بينما هم على ظهرها يفقترون إلى وسيلة إنقاذ.

هم كانوا على ظهر عبّارة أكبر تغرق ولكنهم يأملون بلحظة خارقة علّها توصل إلى ضفة أمان، هي سفينة تسيّرها عصابات دولة الجريمة المنظمة وميليشيات الفساد والقتل، فيما تتربص بها مجموعات الإرهاب والدين المسلح حد التوحش.

عبّارة الموت هذه ليست إلا تعبيراً جلياً عما يجري في العراق، في ظل مؤسسة حكم لا تفقه سوى صناعة الخراب بشكل ديناميكي منظم ومستمر، وتفتقر لأدنى مقوّمات الدولة، فلسنا سوى ركاب على عبّارة، تفنن قادتها بقلبها وتكسيرها وسرقتها وبيعها في سوق "الخردة" للدول الخارجية، وقتل أبنائها بكل الطرق المباشرة وغير المباشرة، كما يقول الكاتب أحمد السهيل.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية