عدنان مندريس: الوجه الآخر لشهيد المآذن

عدنان مندريس: الوجه الآخر لشهيد المآذن


22/09/2020

تمرّ في هذه الأيام ذكرى مقتل رئيس الوزراء التركي الأسبق عدنان مندريس، الذي تمّ إعدامه في 17 أيلول (سبتمبر) من العام 1961، بعد نجاح الانقلاب العسكري ضده في 27 أيار (مايو) من العام 1960، عندما سيطر على الحكم 38 ضابطاً برئاسة الجنرال جمال جورسيل، الذين شكّلوا ما عُرف بـ"مجلس الوحدة الوطني" لإدارة شؤون البلاد في المرحلة الانتقالية.

 يصف المحسوبون على الإسلام السياسي مندريس بـ"شهيد الأذان"؛ بسبب قيامه برفع الأذان في المساجد باللغة العربية بعد أن كان يُرفع باللغة التركية إبّان حكم حزب الشعب الجمهوري، بالإضافة إلى تدريس المناهج الإسلامية بالمدارس التركية، وبناء المساجد، حيث يرى هذا التيار أنّ التوجه الإسلامي لمندريس كان السبب الرئيسي للانقلاب عليه.

يرى تيار الإسلام السياسي أنّ التوجه الإسلامي لمندريس كان السبب الرئيسي للانقلاب عليه

بداية يجب الإشارة إلى أنّ تلك السردية التي تزامنت مع صعود حزب التنمية والعدالة التركي، والتي تدّعي أنّ تاريخ تركيا الحديثة هو محض صراع بين الإسلام والعلمانية الأتاتوركية، والتي انتهت بانتصار اتجاه ما سُمّي بـ"ما بعد الإسلام السياسي"، الذي يعبّر عنه حزب التنمية والعدالة، هي محل شك، فأغلب الدراسات تتعاطى مع التاريخ التركي بتلك المقاربة بدون تعمّق كافٍ في الأسباب الاجتماعية والاقتصادية وراء الانقلابات العسكرية التي شهدتها تركيا؛ حيث يأتي الانقلاب العسكري غالباً تعبيراً عن أزمة سوسيو اقتصادية حادة تهدد كيان الدولة، مع عجز النخب السياسية عن تقديم حلٍّ شافٍ لحالة الاحتقان العامة، كما أنّ تلك المقاربة تغفل الواقع الاجتماعي لأفراد المؤسسة العسكرية، الذين يتعرضون للأزمات الاقتصادية نفسها التي يتعرض لها أقرانهم من المدنيين.

الأسباب السوسيو اقتصادية وراء انقلاب 1960

عدنان مندريس الذي يُعدّ من كبار ملّاك الأراضي كان عضواً ونائباً برلمانياً عن حزب الشعب الجمهوري الذي أسّسه مصطفى كمال أتاتورك، لكنه انفصل عنه في العام 1945 مع نواب آخرين ليشكّل مع رفاقه حزباً جديداً هو الحزب الديمقراطي.

 تم إعدامه في 17 أيلول (سبتمبر) من العام 1961

شارك الحزب الجديد في أول انتخابات برلمانية حرة تشهدها تركيا منذ 25 عاماً في العام 1950 ليفوز بأغلبية ساحقة، ووفقاً للباحث الروسي فلاديمير دانيلوف في كتابه "الصراع السياسي في تركيا، الأحزاب السياسية والجيش"، فإنّ الحزب الديمقراطي كان يمثل رأس المال التجاري-الصناعي وكبار ملّاك الأراضي؛ لذا اهتمّ الحزب بمدّ آلاف القرى بمياه الري والشرب النقية، واستصلاح أراضي المستنقعات، وارتفع حجم القروض الزراعية من 0.5 مليار ليرة العام 1950 إلى 2.5 مليار ليرة العام 1960 ولكن ظلّ النصيب الأعظم من تلك القروض من نصيب المزارعين المتوسطين والكبار، أمّا الجزء الأكبر من المزارعين الصغار، فكانت القروض التي يستطيعون الحصول عليها تتراوح بين 300 -500 ليرة فقط.

تبنّى حزب مندريس سياسات ليبرالية أدّت لانتعاش الاقتصاد التركي مؤقتاً خاصة في السنوات الثلاث الأولى

تبنّى الحزب سياسات ليبرالية أدّت إلى انتعاش الاقتصاد التركي مؤقتاً، خاصة في السنوات الثلاث الأولى من حكم مندريس، ولا سيّما في القطاع الزراعي، وسعى لتشجيع القطاعات الإنتاجية عبر التوسع في الاستثمارات الرأسمالية، الأمر الذي أدّى إلى ازدياد حجم القروض، ومع التوسع في تلك السياسات زاد العجز التجاري ليصل إلى 540.4 مليار ليرة في العام 1952، وقد استمرّ العجز في الاتساع.

قيدت حكومة مندريس نشاطات الصحافة ودارت حملة واسعة لاعتقال الصحفيين

كما اعتمدت تركيا على القروض القادمة من الغرب، ممّا زاد من مديونية تركيا الخارجية التي بلغت العام 1958 ما يقرب من 4755514 ألف ليرة؛ ليؤدي العجز التجاري ودفع أقساط خدمة الدين إلى حدوث تضخم غير مسبوق بنسبة وصلت إلى 300% في العام 1960؛ لتتدهور أوضاع الطبقة المتوسطة والفقيرة التي أصابها الفزع أيضاً جرّاء إعلان مندريس عن خصخصة شركات القطاع العام؛ ممّا أثار غضب وحنق العاملين بهذا القطاع، ستعترف تركيا بعدم قدرتها على سداد الديون وإعلان إفلاسها ونيتها تطبيق سياسات الإصلاح الاقتصادي؛ ممّا سيفاقم من الأزمة السياسية التي شهدتها البلاد.

أغلب الدراسات تتعاطى مع تاريخ تركيا بدون تعمّق كافٍ بالأسباب الاجتماعية والاقتصادية وراء الانقلابات العسكرية التي شهدتها

وقد اختلطت الاعتمادات المالية الضخمة المرصودة للاقتصاد مع القروض، الأمر الذي أنعش الفساد في الحزب وحتى كبار رجال الدولة والوزراء؛ وبسبب كلّ تلك الأزمات وغيرها اندلعت المظاهرات الجماهيرية في فترة امتدت من نيسان (إبريل) إلى أيار (مايو) من العام 1960.

مندريس يستفزّ المعارضة العلمانية

بالإضافة إلى قراره برفع الأذان باللغة العربية، قام مندريس ببناء مساجد جديدة وافتتاح معهد إسلامي عالٍ في إسطنبول، وتحالف مع الزعيم الديني سعيد النورسي الذي اجتمع مع مندريس ودعا للعودة إلى التقاليد الإسلامية وارتداء المرأة الأزياء الإسلامية؛ ممّا أغضب شرائح واسعة من المثقفين الأتراك.

سنّت قوانين حجّمت من استقلالية إدارة الجامعات وحرّية الاجتماعات والاحتجاجات والمظاهرات مستعينة بالسلطات المحلية والشرطة

وقد ساعد نجاح الحزب في الانتخابات البرلمانية في العام 1954 التي حصل فيها على 505 مقاعد من إجمالي 550 مقعداً، قبل أن تتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، في تعزيز سيطرة الحزب على المجال العام، وتجاهل مندريس حزب الشعب الجمهوري تماماً، وظهرت دعاوى داخل الحزب الديمقراطي تطالب بترك "الوداعة الديمقراطية"، وإزاء تدهور الأوضاع انعقدت انتخابات مبكرة في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1957 لم ينل خلالها الحزب الديمقراطي الأغلبية الساحقة مثل الانتخابات السابقة، حيث حصل على 47.3% من الأصوات، فيما حصل حزب الشعب الجمهوري المعارض على 40.6%.

كان عضواً ونائباً برلمانياً عن حزب الشعب الجمهوري الذي أسّسه مصطفى كمال أتاتورك

قيدت حكومة مندريس نشاطات الصحافة، ودارت حملة واسعة لاعتقال الصحفيين، وفي العام 1957 اتخذ الحزب قرارات بتقييد نشاطات المعارضة في المجلس، كما سنّت قوانين حجّمت من استقلالية إدارة الجامعات وحرّية الاجتماعات والاحتجاجات والمظاهرات مستعينة بالسلطات المحلية والشرطة، وقد وصلت الأزمة ذروتها مع سنّ البرلمان التركي في 18 نيسان (إبريل) من العام 1960 قانوناً يقضي بتشكيل لجنة لمتابعة "النشاطات التخريبية لحزب الشعب الجمهوري وجزء من الصحافة"، وذلك باقتراح من نواب الحزب الديمقراطي بصلاحيات وسلطات غير محدودة، مثل البحث، والتقصي، والاعتقال، وإصدار الأحكام، ممّا جعلها تخالف الدستور نتيجة لتلك الصلاحيات المطلقة، ودخلت الحكومة في صدام مع شباب الجامعة، كما خرج الطلاب الضباط في مظاهرة في أنقرة بقيادة مدير الكلية.

الانقلاب والمحاكمات

في صباح 27 أيار (مايو) 1960 تحرّكت قوات من الجيش التركي لتقوم بأوّل انقلاب عسكري خلال العهد الجمهوري، حيث سيطر على الحكم "مجلس الوحدة الوطني" المكوّن من 38 ضابطاً برئاسة قائد القوات البرية المستقيل حينها الجنرال جمال جورسيل الذي تولى رئاسة الجمهورية بعد الانقلاب، وقد أحال المجلس  235 جنرالاً و5 آلاف ضابط، بينهم رئيس هيئة الأركان إلى التقاعد، وأوقفوا نشاط الحزب الديمقراطي واعتقلوا رئيس الوزراء عدنان مندريس ورئيس الجمهورية محمود جلال بايار مع عدد من الوزراء وأرسلوهم إلى سجن جزيرة يصي أدا، وبعد محاكمات استمرّت 11 شهراً تمّ سجن رئيس الجمهورية مدى الحياة، فيما حُكم بالإعدام على مندريس ووزير الخارجية فطين رشدي زورلو ووزير المالية حسن بولاتكان، بتهمة قلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية، وفي اليوم التالي لصدور الحكم وفي 17 أيلول (سبتمبر) من العام 1961 تمّ تنفيذ حكم الإعدام في عدنان مندريس.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية