عزمي بشارة: مثقف تحت الطلب لخدمة مصالح قطر

قطر

عزمي بشارة: مثقف تحت الطلب لخدمة مصالح قطر


21/12/2017

يقولُ عالمُ الاجتماع الأمريكي، إدوارد شيلز، في كتابه "المثقّفون والسّلطات" إنّ: "لا شيءَ يُهدِّد واقع المثقَّف إلا الطابع اللاعقلاني، الذي يُخرجه عن دوره الحقِّ، بأنْ يُصبح مجرَّد "جوقة"، تردِّد صدى النّظرة السياسية السائدة".

لا يحتاج الأمر لكبير عناء لكشف انتهازية بشارة التي تكشفها قفزاته بين المتناقضات خلال فتراتٍ حياته

وهو ما ذهب إليه الروائي الفرنسي، جوليان بندا، في كتابه "خيانة المثقفين"، بأنّ أسوأ ما يمكن أنْ يرتكبه المثقفون هو تنازلهم عن سلطتهم المعنوية أو الأدبية، بـ"ابتكار نُظُم كاملة ممّا يُسمّى "اللغة الجديدة"، أي لغة الأضداد، حيث تعني الكلماتُ عكسَ دلالتِها، وإخفاء ما يحدث فعلاً باسم "مقتضيات" العمل الرسمي"، كما يذهبُ إدوارد سعيد، في كتابه "المثقف والسلطة".

إذا تحوّل المفكر، إلى مُعلّقٍ على الأحداث اليومية، وأخذَ دوراً وظيفياً بتحليلها، أمام المتلقّي أو المشاهد العربي، مُركّزاً على رسائل سياسية معينة، فإنه يُسقِطُ مهمّة التفكير التي نعرفها عبر التاريخ، المتمثلة بالوقوف على مسافةٍ واحدة من كل ما هو يومي، كبيراً كان أم صغيراً، ليأخذ وقتاً كافياً للاستيعاب وتشكيل رؤية ذات قيمة.

دعم الطموح الإمبراطوري

ولعلّ عزمي بشارة، الذي اعتاد لفترة من الزمن الإطلالة على الشعوب العربية من خلال شاشة الجزيرة – والتلفزيون العربي هذه الأيام – يُعدّ مثالاً على "المثقف"، الذي لا يستطيع مهما ثقلتْ أفكاره أو تعمقتْ، أنْ يقولها في جملة للتحليل السياسي، دون أنْ يجتزئ، أو يتناقض في أحيان عديدة، ليُمارس بذلك تزييفاً متعمداً للحقيقة، وتضليلاً بائساً للجمهور، لتوجيه الرأي العام نحو قناعاتٍ أيديولوجية أُحادية البعد، عبر لغة شعبوية مغلفة، بمصطلحات رنّانة تدغدغ المشاعر العربية؛ كالحرّية والديمقراطية، عبر منابر لدولةٍ تفتقد لكل ما يدعو إليه.

بشارة "المفكر" يختار من التاريخ ما يناسب الخطاب الذي يروّج له مثل أي محلل سياسي سطحي

بدأ ابن مدينة النّاصرة الفلسطينية، المولود عام 1956، مسيرته السياسية مبكراً، منذ سن الثامنة عشرة، وانضمّ لاحقاً إلى صفوف الشيوعيين في حزب "راكاح" الإسرائيلي، وهو حاصل على دكتوراة في الفلسفة من جامعة "هومبولت" في ألمانيا، ونائبٌ في الكنيست الإسرائيلي منذ 1996، أقسمَ الولاء لإسرائيل كدولة.

 

 

 

 

وشارك أيضاً في تأسيس "حزب التجمع" العام 1995، وشغل منصب مسؤولٍ في معهد "فان لير" الإسرائيلي للأبحاث منذ 1990 وحتى 1996.

ورغم الإدانة تنتهجها وسائل إعلامية عربية لعزمي بشارة من خلال سيرته الذاتية هذه، وخوضها في التفاصيل التي صنعته "مفكراً وظيفياً"، إلا أن هذا المسار، لا يعبر تماماً عن خطورة ما يمثله الرجل ضمن المجال العام العربي.

عزمي بشارة في الكنيست الإسرائيلي

لا يحتاج الأمر إلى كبير عناء لكشف ما يوصف بانتهازية بشارة التي تكشفها قفزاته البهلوانية بين الجبهات المتناقضة خلال فتراتٍ مختلفة من حياته، وفق ما تقتضيه المصلحة دون أنْ يرفّ له جفن؛ فقد سوّق نفسه "مناضلاً" مع حقوق الشعب الفلسطيني، من مبدأ شيوعي وقومي أثناء بداياته، ثم عمل مع الإسرائيليين وعبر عن وجوده من خلال البنية السياسية والحكومية في "دولة الاحتلال" على الصعيدين؛ الفكري والسياسي كباحث في معهدٍ إسرائيلي، وعضو كنيست، ثم اتجه إلى تناقض ينسف رؤاه التحررية القومية المزعومة، بأنّ دعم ما يسمى "محور المقاومة"  الذي ينتهج أبعاداً دينية قدسية، والمتمثل بحزب الله وحركة حماس مثلاً، و"سوريا الأسد" في سنوات ما قبل "الربيع العربي"، لينقلب عليهم فيما بعد.

اختار عزمي بشارة أن يشغل وظيفة تجعله في مكانٍ عالٍ ومريح مسوّقاً نفسه كمثالٍ ومرجعيةٍ فكرية وثورية

وقف بشارة ليخطب ذات يوم من القرداحة العام 2001 بمناسبة الذكرى الأولى لرحيل الرئيس السوري السابق حافظ الأسد قائلاً إن عرب 48 يتابعون "جهود سورية لجمع المواقف العربية المشتتة بشأن فلسطين"، دون أنْ يلحظ رغم كتبه العديدة وتنظيراته التقدّمية، وجود "نظام مستبدّ ودكتاتوري" في هذا البلد، إلا بعد خروج أبناء سورية ثائرين، ليتحول فجأةً، إلى منظّر الثورة والحرية، لتحجز "الجزيرة" مقعداً دائماً لمثقف "الممانعة" العتيد بعد أن ألبسته ثوبه الجديد.

عزمي بشارة و الرئيس السوري بشار الأسد

يقول عزمي بشارة إنّ "المثقف العمومي"، على حد تعبيره، هو الذي "ينظر للمجتمع وقضاياه بانحيازية علمية بالمفهوم الهيكلي للكلمة، وهو يستشعر ويتحمل المسؤولية الكبيرة، المتعلقة بنقد وتوجيه حِراكات ومشاكل المجتمع المصيرية بعقلانية محايدة جداً".

مثل هذه الكلمات التي حوتها كتبه العديدة، حول السياسة والثورة والعلمانية والمجتمع المدني، تتناقض بصفتها مجموعة من الرؤى والدراسات النظرية والتنظيرية، مع ما يمكن أن يجيء به بشارة في لحظات، وهو يتقمص شخصية المحلل الذي ينظر من فوق برجه العالي، سواء أكان جالساً على كرسي الجزيرة، أم التلفزيون العربي.

عزمي بشارة في أحد برامج قناة الجزيرة القطرية

ويبدو أنه رضي أن يشغل وظيفة مفكر تحت الطلب، تجعله في برج عاجي، وتضعه كمثالٍ أو كمرجعيةٍ فكرية وثورية للنخب العربية وعموم الناس، تخدم الطموحات السياسية لدولة قطر، لتتجلى طبيعة المثقف  في أوضح صورها كأداة في يد من يوظفه؛ وهنا يمكن الاستعانة بمقال للكاتب الفلسطيني حسن خضر، نشر في صحيفة الأيام الفلسطينية بتاريخ 11 كانون الثاني (ديسمبر) 2007، أشار فيه إلى بشارة وهو يحلل كعادته ويقابله على الخط الهاتفي للجزيرة شخص "مجهول المكان"، ومطلوب لقوات الأمن الموريتانية، تم تقديمه على أنّه "زعيم الجماعة السلفية".

عزمي بشارة .. أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني

ويؤكد خضر في مقاله أنّ بشارة "أهمل الاتهامات التي توجه لقناة الجزيرة بأنها تقدم الدعاية المجانية للقاعدة"، متجاوزاً بذلك مجهوداته الفكرية الخاصة التي طالما تغنى بها، مضيفاً أنّ "الأمثلة اليومية، التي يمكن توظيفها للتدليل على محاولة زعزعة استقرار الأنظمة القائمة في المنطقة لحساب الأصولية الإسلامية من خلال حليف للولايات المتحدة "، تمثل طموحاً إمبراطورياً غير واضح لدولة أقامت علاقاتٍ مع إسرائيل، وتجند الطموحاتِ الفكرية والأصولية معاً في خدمتها! وارتضى عزمي لنفسه أن يكون في خدمة ما يوصف بالعبث.

المثقف المتلوّن

يرى الكاتب الفلسطيني عادل سمارة في كتابه "تحت خط 48: عزمي بشارة وتخريب دور النخبة الثقافية" الصادر  عن دار "بيسان اللبنانية العام  2016، أنّ بشارة نموذج لـ"المثقف المتلون المتكيف" الذي بدا واضحاً أنه "يطرح نفسه قومياً، لكنه حافظ على الاعتراف بالكيان الصهيوني الذي يقف على نقيض، بل على أنقاض الشعب الفلسطيني"، ويذهب سمارة إلى ما هو أبعد من ذلك، باعتبار بشارة "مرتبطاً بالكيان الصهيوني، ومُعداً لاختراق العالم العربي واستدخال الهزيمة إليه".

قبل عزمي أن يشغل وظيفة مفكر في خدمة "السياسة القطرية"

وشكل كتاب سمارة، مادة غنية للعديد من القراءات بشأن دور بشارة في كونه مثقفاً عضوياً معكوساً؛ أي إنه عضوي في خدمة نظام الحكم الذي يدعمه ويقدم له كل ما هو ممكن حتى يقوم بتوجيه الرأي العام لخدمة مصالح هذا النظام؛ إذ منحته قطر المأوى والدعم المالي، وأناطت به رئاسة "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، كما يرأس مجلس أمناء معهد الدوحة للدراسات العليا، وأشرف من ناحيته على سياسات صحيفة العربي الجديد، والتلفزيون العربي، الذي أريد له ألا يظهر بمظهر الجزيرة الداعمة للأصوليات والحركات الدينية كجماعة الإخوان.

عزمي بشارة بإحدى الفعاليات الإسرائيلية

وتشكل تجربة بشارة في مجال كتبه ودراساته عن المجتمع المدني، حالةً فريدة، بكل هذا الدعم الممنوح إليه، ليقوم بتبني الظواهر السياسية والاجتماعية مثل "الربيع العربي" وتوجيهها، لا دراستها، بل والتدليل عليها تاريخياً، من خلال عقد مقارنات لها مع تجارب ثورية من سنوات غابرة لتبرير توجهات داعميه.

يظهر ذلك مثلاً على لسان بشارة حين قام بعرض احتفالي سطحي لـ"ثورات الربيع العربي"، حين استضافه برنامج آخر كلام الذي يعرض على قناة "on ent" المصرية في حلقة مسجلة على موقع يوتيوب بتاريخ 14 حزيران (يونيو) 2011، إذ يقول إن "الثورات العربية وخصوصاً مصر، نجحت خلال وقت قياسي وسريع بتحقيق خطاها الأولى الثورية" وتجاوزت ثوراتٍ أخرى في التاريخ، متناسياً دور وسائل الاتصال التي تطورت، وأساليب التجمع واستحضار الرأي العام التي أتاحتها التقنيات الحديثة.

يتغافل بشارة عن تجربة الإخوان المسلمين في مصر والعالم العربي التي لم تتخذ فيها الجماعة من الديمقراطية سلاحاً في أبجدياتها

إلا أنّ بشارة يعد ما حصل فتحاً في مواجهة أنظمة استبدادية أجبرت على المواجهة المباشرة مع شعوبها، وانهار بعضها، وسعى البعض الآخر إلى محاولة الإصلاح، متطرقاً إلى أنّ الانتخابات الحرة والتجربة الديمقراطية سوف تحقق شعارات الثورات مستقبلاً، مهملاً أيضاً، أنّ التجارب الثورية انطلقت من ذات القواعد "الدينية والثقافية والبنيوية الاجتماعية وكذلك القوى السياسية" التي رافقت هذه الأنظمة لسنوات، دون أن تشكل حالة قطعٍ معها لفترة، ثم تحاول الثورة من خارج البنية.

وهذه المرجعية التاريخية التي يعتمدها بشارة للدفاع عن "الثورات العربية"، يظهر تهافتها من خلال اللقاء الذي تم معه على شاشة الجزيرة ضمن حلقة من برنامج في العمق، وهي مسجلة على موقع الجزيرة الإلكتروني، حين يقول إنّ "الحركات الدينية المتطرفة التي لا تعترف بمنطق الدولة نشأت في ظل أنظمة فرضت العلمانية بشكل قسري على شعوبها"، وبشارة في تحليله هذا يصرف النظر بكل بساطة عن "عدم وجود أي نموذج عربي لدولة علمانية" حتى يبرر من خلاله صعود التطرف كما يزعم.

عزمي بشارة في برنامج"في العمق" الذي تبثه قناة الجزيرة القطرية

لكن هذا الكلام، يجعل منه بشارة مقدمة ليقول خلال البرنامج ذاته إنّ "جماعة الإخوان المسلمين في مصر حركة مجتمعية عريضة ولا يعقل أن توصف بالإرهاب، ومن غير المقبول وصف حركة تضم أكثر من مليون شخص بأنها حركة إرهابية". وهنا، يتناقض عزمي مع دفاعه عن الثورة من زاوية تاريخية بعقده مقارنات ركيكة بين الثورات في أزمان مختلفة لا يمكن نسخ سياقاتها.

أهمل بشارة الاتهامات التي وُجّهت لـ"الجزيرة" بأنها تقدم دعاية مجانية للقاعدة متجاوزاً بذلك مجهوداته الفكرية الخاصة التي يتغنى بها

ويبدو بكل وضوح، بفذلكته الكلامية هذه، أنه يتغافل عن تجربة الإخوان المسلمين في مصر والعالم العربي، التي ترافقت مع ظهور الدولة العربية القطرية، ودخلت معها صراعاتٍ منذ البداية، وفشلت في إحداث أي تطوير أو لعب أي دور إيجابي في تحرر المجتمعات العربية، حيث لم تتبنّ جماعة الإخوان الديمقراطية نهجاً حقيقياً في أدبياتها الفكرية عبر تاريخها، بقدر ما لجأت إلى التطرف في مواقفها السياسية والدينية والاجتماعية مما وضعها في مواجهة مباشرة وساخنة مع المجتمع وقواه السياسية والمدنية في محطات عديدة، أي إن بشارة "المفكر"، اختار كعادته من التاريخ ما يناسب الخطاب الذي يروّج له.

يقدم عزمي بشارة، وفق هذا الإطار، مثالاً نموذجياً للمثقف غير الأصيل في المشهد العربي المعاصر؛ من خلال سيرة ذاتية حافلة بالمتناقضات التي توّجها بعلاقته مع قطر التي وظّفته مفكراً ليمارس خطاباً "انتقائياً" بامتياز، مهمته توظيف الأحداث السياسية والاجتماعية منذ "الربيع العربي" لخدمة خطاب القوة الناعمة الذي تعتمد عليه الدوحة من خلال ماكينتها الإعلامية و"الفكرية"، ليروج للأصولية الإسلامية بغض النظر عن خطابها الطائفي المتصلب، وينتهي أخيراً كموظف يعمل تحت قبة "الرأي والرأي الآخر"، منافحاً عن الخيارات السياسية للدولة التي توظفه، سواء أكان مستشاراً لها، أو واجهة، أو محللاً يرتدي زي مفكر تحت الطلب.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية