علم الكلام الجديد والأشاعرة الجدد

علم الكلام الجديد والأشاعرة الجدد


06/10/2019

"الأشاعرةُ الجدد"، جامعيون مسلمون، أكثرهم ممن أصاب تكويناً أكاديمياً حديثاً في الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع، وأتقنوا أكثرَ من لغة غربية، لكنهم يحاولون تقويلَ مؤسس الأشعرية أبو الحسن الأشعري (260هـ - 324هـ) ما لم يقله، عبر تأويلات لا يريدها هو لمقولة "الكسب" وغيرها من مقولاته ومعتقداته الأخرى، مثل كون حقيقة الكلام الإلهي قديمة بقدم الذات وإن كانت حادثة مخلوقة بالألفاظ، ولا يخضعون أية مقولة اعتقادية للأشعري للنقد، مع كل ما أنتجته مقولات الأشعري من مناهضة للعقلانية الاعتزالية وغيرها في الإسلام.

اقرأ أيضاً: علم الكلام الجديد وإشكالية التسمية

يشدد "الأشاعرةُ الجدد" (وهي تسمية أقترحها لهولاء الباحثين الذين أجد في أعمالهم نزعة تبشير وحماسة للأشعرية أشد من الأشعري نفسه)، على تحريف أشعرية الأشعري وتلوينها بعقلانية مزعومة، بغية تسويق الأشعرية مجدداً، وتقديمها بحلة لا تخلو من إغواء، كي يترسخ الاعتقاد بها، ويلبث المسلمون أسرى رؤيتها للتوحيد. إنهم مبشرون بقناع مُفكِّر، أقرأ في كتاباتهم توظيفاً محترفاً لكل عدتهم المعرفية وخبرتهم في علوم الإنسان والمجتمع من أجل بعث الأشعرية وتسويقها من جديد في عالَم الإسلام. ولم أعثر على أي مسعى نقدي في أعمالهم للعقل الأشعري، بل أراهم يتخذون مواقف متشددة من كل باحث يحاول الذهاب للبنية التحتية للتفكير الديني في الإسلام ويعمل على تفكيكها ليكتشف الأنساق الاعتقادية الأشعرية المضمرة فيها، وآثارها في تكبيل عقل المسلم وتعطيله: "كتابات د. ناجية الوريمي من أهم الكتابات العربية التي توغلت في الأعماق، فاكتشفت الأنساق الاعتقادية الأشعرية المضمرة في التراث. راجع كتابيها: "في الائتلاف والاختلاف: ثنائيّة السائد والمهمّش في الفكر العربي الإسلاميّ"، نشر دار المدى للثقافة والنشر والتوزيع ورابطة العقلانيين العرب (2005)، و"حفريّات في الخطاب الخلدونيّ: الأصول السلفيّة ووهم الحداثة العربيّة"، رابطة العقلانيين العرب (2008)".

علمُ الكلام الجديد ليس شعارات مفرغة من المعنى أو صيحة في فراغ، وليس أمراً مغلوطاً كما يدعي بعضُ "الأشاعرة الجدد"

سقط في غواية كتابات "الأشاعرة الجدد" الوفيرة أكثرُ الإسلاميين الذين ضجروا من أدبيات الجماعات الدينية ففروا منها يفتشون عن كتابات تشعرهم بالوفاء لهويتهم، والاحتماء بمقدساتهم، وتخلصهم من اللغة الرتيبة والمنطق الوعظي التبسيطي في تلك الأدبيات، فوجدوا في كتابات "الأشاعرة الجدد" جدالات ومحاججات مصوغة بلغة تفتقر إليها تلك الأدبيات، وهي لغة تبرع في تمويه انغلاق المعتقدات الأشعرية وتتكتم على لاعقلانية مقولاتها.
ينفي "الأشاعرةُ الجدد" أي حاجة لإعادة بناء علم الكلام، ويتنكرون لحضور علم الكلام الجديد، ويحسبون الحديث عنه مجرد شعارات لا تفصح عن مضمون حقيقي خارج ألفاظها. وينطلقون في نفيهم لوجود علمِ الكلام الجديد، من فرضية أنّ هذا العلم تخطّى مرحلةَ التأسيس، وبلغ مرحلةَ الاكتمال والنضوج. ويعتمد الناقد من هؤلاء في ذلك مسلّماتٍ غيرَ مسلّمة، فينتقي فقراتٍ متنوعةً من مراجع متباينة، بغيةَ أن يدلّلَ على وثوقه من فرضيته، ويحاكم الكلام الجديد وكأنه علمٌ ناجزٌ، اكتملت كلُّ أركان هويته المعرفية، وتم البناء النهائي لأسسه، وتشكيل عناصر موضوعه، وأنجز أكثرَ ما عليه أن ينجزه. والحال أنّ كلَّ علمٍ لا يمكن أن ينضجَ إلا بعد تخطيه عوائقَ وعقبات كثيرة، وتجاوزِه لاختبارات متنوّعة، من أهمِّها قدرتُه في التغلّبِ على الأنساقِ الراسخة، والبنى التقليديةِ المتجذّرة، ومختلفِ المكوّنات المترسّبة في اللاوعي المعرفي الجمعي. هذا في العلوم التي لا صلةَ لها بالمقدّس، فكيف إن كان العلمُ يتصل بالمقدّس، كعلم الكلام القديم الذي كانت وظيفتُه ومازالت بناء الرؤية التوحيدية في الإسلام، وصياغة المعتقدات، وتحديد مديات الدين، وبيان شكل خريطته وكيفية ألوانها، وتحوّلِه إلى مرجعية لأصولِ الفقه، ومن ثمّ الفقه، والأخلاق، ومختلف معارف الدين. يضاف إلى أنّ استملاكَ المؤسّسات الدينية لعلم الكلام، هو ما يخلع عليها غطاءَ المشروعية التي تفوّضها حراسةَ ميثاق الإعتقاد، ومعاقبةَ كلِّ من يخرج على ذلك الميثاق، بالحكم عليه بالارتدادِ في الدنيا، وحرمانِه من الرحمة الإلهية في الآخرة. (مثل الميثاق المعروف بـ : "الاعتقاد القادري"، الذي أصدره الخليفة العباسي القادر بالله سنة 408هـ، وكتبه أبو أحمد محمد بن علي الكرجي المتوفى سنة 360 هـ. الذي نعته الذهبي في "سير أعلام النبلاء" و"تاريخه" بـ : "الغازي المجاهد المعروف بالقصاب"، فقال في ترجمته: "إنما قيل القصاب لكثرة ما أهرق من دماء الكفار". ومما جاء في الاعتقاد القادري بشأن القول بخلق القرآن: "ومن قال: إنَّه مخلوق على حال من الأحوال؛ فهو كافر حلال الدم بعد الاستتابة منه".

اقرأ أيضاً: شبلي النعماني لم يؤسس علم الكلام الجديد

وفي سياق الحديث عن تارك الصلاة ورد في الاعتقاد القادري: "فمن تركها فقد كفر، ولا يزال كافراً حتى يندم ويعيدها، فإنْ مات قبل أنْ يندم ويعيد أو يضمر أنْ يعيد، لم يُصلَّ عليه، وحُشِر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن أبي خلف". وأمضى هذا الاعتقاد كثير من علماء ذلك العصر، فقد ذكر ابن الجوزي في المنتظم في حوادث سنة 460هـ اجتماع علماء أهل السنة ببغداد وتشديدهم على ضرورة إعادة إذاعة "الاعتقاد القادري" في يوم الأحد 7/ جمادى الآخرة/ 460هـ).
هناك من يطالب علمَ الكلام الجديد، الذي هو في طور الولادة والتشكّل، بكلِّ مهمات العلم المكتمل الناجز الذي مضى على تشكّله أكثرُ من ألف عام، والذي وُلدت نواتُه الجنينية في القرن الهجري الأول، وأضحى علماً واضحَ المعالم بعد أن عبّرت الفرقُ بوضوح عن معتقداتها فيه، ومازال يتراكمُ ويترسّخُ حتى اليوم. أرى من يطالب بذلك كمن يطلبُ من صبي صغير حكمةَ الشيوخ الكبار المُلهِمة، الذين اختبرتهم الأيامُ الصعبة، ومحّصتهم متاعبُ العيش القاسية.

اقرأ أيضاً: السؤال الميتافيزيقيّ الجديد يفرض علينا بناء علم كلام جديد
لا يمكن بناءُ علمِ كلامٍ جديد بديلٍ لعلم الكلام القديم بمدّةٍ زمنيةٍ وجيزة، وإن كانت محاولاتُ بعض المفكرين جديرةً بالتبجيل، لعلميتِها ورصانتِها وجدّيتِها، لكنها بدأت واستمرت منفردة، ومثلُها لا يعبأ بها مسلمٌ يرتبط شعورياً ولاشعورياً برجالِ الدين ومؤسّساتِهم التقليدية، ذلك أنّ هذه المحاولاتِ لا تلامس وجدانَ المسلم، مادامت غريبةً على معتقداته الرسمية الموروثة، وتتحدّث لغتَها الخاصة غيرَ المفهومةِ خارج لغة معتقدات المؤسّسات الدينية التي تمتلك المشروعيةَ الدينيةَ الحصريةَ في فهمِ الدين وتفسيرِ نصوصِه تاريخياً.

سقط في غواية كتابات "الأشاعرة الجدد" أكثرُ الإسلاميين الذين ضجروا من أدبيات الجماعات الدينية مفتشين عن كتابات تشعرهم بالوفاء لهويتهم

علمُ الكلام الجديد ليس شعاراتٍ مفرغة من المعنى، أو صيحةً في فراغ، وليس أمراً مغلوطاً، كما يدعي بعضُ "الأشاعرة الجدد"، بدعوى أنه لم يزحزح علمَ الكلام القديم، ولم يتجاوز الوعودَ والدعوات، وكأنه يفهم علمَ الكلام الجديد على أنه علمُ الكلام القديم نفسُه مصحوباً بضجيج. وهذا كلامٌ غيرُ دقيق؛ لأنّ علمَ الكلام الجديد كسر شيئاً من أغلال التقليد في العقيدة المترسخة منذ قرون، وأعاد النظرَ بوظيفةِ علم الكلام التقليدية، فانتقل بها من الدفاع المحض، بناءً على مسلّمات اعتقادية نهائية صاغها أئمة الفرق، إلى تفسير وفهم وتحليل حقيقة المعتقدات في ضوء معطيات الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع. كذلك انتقل من النزاع حول حقيقة "الكلام الإلهي"، بوصفها المسألة المركزية في الكلام القديم، إلى دراسة ظاهرة الوحي، بوصفها المسألة المركزية في الكلام الجديد، واكتشاف أفق بديل لبحثها خارج المدونة الكلامية التقليدية. لأن موضوع "الكلام الإلهي" متأخر رتبياً في بحثه عن "الوحي"، إذ إنّ تقريرَ الموقف من حقيقة "الوحي الإلهي" هو الذي يحدّد حقيقةَ "الكلام الإلهي" ويرسم حدودَ تعريفه.
يضع بعضُ الباحثين في سلة واحدة مواقفَ واتجاهاتٍ ورؤىً متضادّة أحياناً، لمفكرين يصدرون عن منطلقات ومرجعيات مختلفة، ليتخذ أحكامَه التي تحيل إلى مسلّماته المسبقة، وكأنه لم يتنبه للاختلاف الكبير بينهم، إن من حيث استيعابهم النقدي للتراث، أو من حيث استيعابهم المناهج الحديثة، أو من حيث تطبيقها، أو من حيث تعبير كل هؤلاء المختلفين عن نزوع جديد في علم الكلام. إذ يصنف هؤلاء من يدعو لاستئناف التراث كما هو، في صف من يدعو للاستيعابِ النقدي للتراث، وتوظيفِ المناهج الحديثة في بناء علم الكلام.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية