عليك أن تقرر.. هل تنتمي لجون ناش أم لبن لادن؟

عليك أن تقرر.. هل تنتمي لجون ناش أم لبن لادن؟


14/10/2018

بفعل شؤونٍ وشجونٍ شخصية متعددة، لم أتابع مسيرة السينما العالمية لأعوام طويلة، ولم أحظَ بمشاهدة العديد من الأفلام المهمّة، منذ عشرين عاماً تقريباً، إلا أنني قرّرت منذ شهور قصيرة أن أبدأ رحلتي مع الأعمال التي حصلت على جوائز الأوسكار، لعليّ أظفر بأعمال متميزة تبرر هذا الاستحقاق. 

لا أدّعي، بطبيعة الحالة، أنّني أفهم معايير النقد السينمائي الصحيحة، التي يتم من خلالها الحكم على عمل ما بأنه يستحق جوائز أم لا بشكل عام؛ لكن قررت أن أشاهد كلّ الأفلام التي حصلت على جائزة "أوسكار"، منذ العام 2018، تنازلياً حتى العام 1928 تاريخ بداية الجائزة، الذي هو أيضاً تاريخ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وتلك مفارقة قد تستدعي مفارقة أخرى.

تمكن هذا العمل بتميز من تجسيد هذه الحكاية، بالغة الرقة، والمفعمة بالقيم الإنسانية

وصلت بي محطات المشاهدة إلى فيلم "عقل جميل" (A Beautiful Mind)؛ الفائز بأربع جوائز أوسكار (أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل سيناريو وأفضل ممثلة مساعدة)، ويروي سيرة العالم الأمريكي العظيم، جون ناش، التي ألهمت الآلاف من تلاميذه وزملائه، وكلّ من عرفه أو درس نظرياته؛ في الاقتصاد والرياضيات وعلوم الحاسوب.

وبالفعل تمكن هذا العمل بتميز من تجسيد هذه الحكاية، بالغة الرقة، والمفعمة بالقيم الإنسانية، التي أثبتت أنّ الحبّ والشغف قد يشفيان المرء من أصعب الأمراض العضوية؛ ذلك الشغف، الذي بدا مرضيّاً لدى "ناش"، وجعله يحلّق في عوالمه الخاصة، المترعة بالمشكلات والحلول والمعادلات اللانهائية، التي بدت طلاسم لمن تابعوه في بعض المراحل، قبل أن تفتح الطريق للإنسانية والعلم، لفهم تطبيقاتها بعد عقود.

اقرأ أيضاً: أم بن لادن والإخوان المسلمون

بدأ الفيلم مع "ناش" الطفل الانطوائي المختلف عن كلّ أقرانه، حتى أنّ شقيقته، أقرب الناس إليه نظرياً، كانت تتجنب التواجد معه في مكان واحد، إشفاقاً من إحراجها بفعل ردود أفعاله، التي لم تكن مفهومة من عقل ناء بأثقال العبقرية والنبوغ، طفل يهوى قراءة الكتب لساعات طويلة مع لعب الشطرنج، تعلّم القراءة في الرابعة، بفضل دأب والدته، التي كانت تعمل معلمة، استطاع تخطّي الصف الأول عند دخوله المدرسة في الخامسة.

في الصف الرابع؛ استدعى معلم الرياضيات والدته ليشكو لها ضعف مستوى ابنها في مادة الرياضيات، فضحكت الأم التي كانت تعرف حقيقة المشكلة؛ كان "ناش" يفكر كثيراً في التفاصيل قبل إعطاء الجواب، حتى لو كان جواب السؤال بسيطاً ومباشراً، انسجاماً مع مَلَكَة التفكير الموسوعيّ في كلّ مسألة، الأمر الذي صاحبه طوال حياته، وكان عماده في إنجاز العديد من النظريات والمفاهيم التي عبّدت الطريق للكثير من العلوم.

اقرأ أيضاً: هل كان بن لادن حقاً عميلاً لـ CIA تحت اسم تيم عثمان؟

هذا العالم العظيم الذي ظل متوارياً عن العامة؛ كشف هذا الفيلم الرائع، الذي أُنتج العام 2001، عن مسيرة نضاله للملايين، وهذا التاريخ يستدعي مفارقة أخرى؛ بوصفه العام نفسه الذي شهد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر).

هذا العام برز فيه إلى واجهة الأحداث شخصان:

الأول؛ أسامة بن لادن، صاحب الشغف المرضي بالعنف والإرهاب، الذي حفر له مكانه المستحق في عالمنا، وجون ناش؛ هذا العالم العبقري الذي هزم "الشيزوفرينا"؛ المرض الذي جعله يصارع أوهام عقله مع حقائق علمه، لينتصر العلم على الوهم بفعل الشغف والحبّ، حبّ الزوجة التي اختارت أن تعالجه بالحبّ والاندماج في المجتمع، ومحاولة التعايش مع أثقال الماضي.

كان ظلّ الماضي ثقيلاً على عقل "ناش"، لكنّه تدرّب بالعلم، على أن يتعايش مع وجوده الملحّ والمرضي، بالإلحاح على استنطاق العقل بالعلوم، والاحتماء بحبّ زوجته ورعايتها له، هزم الشغف الإيجابي أشباح الماضي الذي أرهق عالمهما طويلاً، ويوم قرّر مع زوجته أن يستبدل العلاج الكيميائي المرهق، بالعلاج العاطفي والعمل الدؤوب، نال جائزة نوبل في الاقتصاد باستحقاق، العام 1994، أخيراً انتبه العالم لمواهب وإنجازات الرجل العظيم.

عبّرت الزوجة عن تلك الحال لحظة استلامه الجائزة، عندما قالت: "لقد هزم أشباح عقله"، يبقى العقل تتزاحم فيه دوماً الحقائق والأوهام، لكن الحكمة أن نعرف كيف نستخلص الأولى من بين دخان وركام الثانية.

كلنا يخالط عقله العلم والوهم، منا من يستجيب للحقائق فينتصر للعلم ولمراد الله من خلقه، ومنا من تفترسه الأوهام وتصنع له مسارات مختلفة. 

مات ناش  لكنّ إرادة الحياة باقية، والشغف الذي يمكن أن يفتح الطريق لمزيد من العباقرة والروّاد ما يزال مفتوحاً

بن لادن استسلم للوهم؛ فأهدى العالم الخراب والدمار، وما يزال الطريق الذي اختطه حتى بعد رحيله ينتج القتل والموت، أما "ناش" فقد قهر الوهم واقتحم العلم، رغم المرض والقيود، وما يزال طريقه ينتج الرفاه والتقدم، إنها إرادة الحياة، أو هذا الشغف الذي لا يجب أن نسمّيه مرضياً؛ بل هو محض نعمة من الحقّ لبعض خلقه، أراد لهم أن يكونوا مختلفين؛ لأنهم يعبّدون للإنسانية طريقها الصحيح، تماماً كالشموع التي تحترق لتضيء لنا الطريق.

لم يكن بن لادن مصاباً بمرض نفسي معروف، سواء "الشيزوفرانيا"، أو غيره؛ أي إنّه كان صحيح العقل والإدراك، لا يعاني أمراضاً عضوية، وقدّم ما قدّم.

بينما كان "ناش" يعاني فصاماً مصحوباً باكتئاب، وتفتك به الأدوية، التي لم تكن فعالة تماماً في ذلك الوقت، لكنّه -ببركة العلم والحبّ والشغف- شقّ طريقه للمجد، قبل أن تنتهي حياته بعد عمر حافل بالعطاء؛ حيث قضى في السادسة والثمانين من عمره، في حادث سيارة، في 23 أيار (مايو) العام 2015، في ولاية نيوجرسي الأمريكية.

اقرأ أيضاً: وثائق جديدة من أرشيف بن لادن تكشف خصوصياته

مات ناش، وقبله بن لادن، لكنّ إرادة الحياة باقية، والشغف الذي يمكن أن يفتح الطريق لمزيد من العباقرة والروّاد ما يزال مفتوحاً لمن يريد.

فقط علينا أن نقرّر؛ هل ننتمي لثقافة الحياة التي أنتجت ناش وأمثاله من المبدعين، أم لثقافة الموت التي أنجبت لنا بن لادن والظواهري والبغدادي؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية