عن اليمين السياسي في المنطقة العربية.. أيّ دور وهُويّة؟

عن اليمين السياسي في المنطقة العربية.. أيّ دور وهُويّة؟

عن اليمين السياسي في المنطقة العربية.. أيّ دور وهُويّة؟


25/09/2023

ما تزال بدايات الحداثة السياسية، التي أطلقتها حقبة الاستعمار في المنطقة العربية، تشكّل تمثيلاً نسقياً لصورة الغرب الحديث، فيما كانت موجبات التفكير في نمط من الأصالة يستبطن هوية للحداثة، ويحافظ، في الوقت ذاته، على عناصر التراث الحيّة (كما فعل غاندي في الهند مثلاً)، ضرورة تقتضيها سياقات الانتقال السلس إلى الحياة السياسية الحديثة في المنطقة، دون أيّة اهتزازات.

اقرأ أيضاً: الإسلام السياسيّ يعكس أزمة الصناعة وتداعيات الحرب العالمية الأولى

وقد بدت فكرة اليمين في السرديات والأدبيات العربية الحديثة، سيما بعد الحرب العالمية الثانية، فكرةً أقرب إلى الرجعية (إن لم تكن هي الرجعية ذاتها)، فيما بدت فكرة اليسار في تلك الأدبيات كما لو أنّها نقيض قيمي إيجابي لفكرة اليمين!

حان الوقت لوعي الحداثة السياسية في المنطقة بإعادة الاعتبار لليمين السياسي بعد نزع الحمولة الأيديولوجية الضارّة منه

وتمّ تصوير اليسار، سيما بعد الحرب العالمية الثانية، كصواب سياسي ووجودي مطلق إزاء فكرة اليمين، وكان في ذلك التصوير، في رأينا، ضرب من الرومانسية والتزييف في الوقت ذاته. لقد كانت اتجاهات اليسار واليمين جزءاً من الحداثة السياسية التي انتظمت أوروبا منذ الثورة الفرنسية، كما أنّ فكرة اليسار، بتلك الصورة المبالغ فيها، في المنطقة العربية لم يتم تعويمها في السرديات والأدبيات السياسية، إلا بعد الحرب العالمية الثانية، فيما كانت الحداثة السياسية، التي جلبها الاستعمار للمنطقة، أقرب إلى اليمين منها إلى اليسار.

في السودان؛ عندما نشأ "مؤتمر الخريجين"، عام 1938، وهو أول مؤتمر لخريجي المدارس الحديثة التي أنشأها الاستعمار، جسّد كيانه السياسي المناهض للاستعمار؛ تمثيلاً للقوى الحديثة (وهذا الوصف، أي القوى الحديثة، استولى عليه اليسار السياسي في السودان، بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبح حكراً عليه)، وكان خريجو هذا المؤتمر هم نواة النخبة المثقفة في أحزاب اليمين الوطني التقليدي؛ التي تمّ تكوينها، بعد ذلك، في السودان (حزب الأمة، وحزب الشعب الديمقراطي)، كنمط تقليدي لبدايات الحداثة السياسية هناك.

اقرأ أيضاً: قرن على الحرب العالمية الأولى

ومع أنّ أحزاب اليمين ارتبطت بالطائفية من ناحية، كما في السودان ولبنان، وبالمرجعية الدينية من ناحية أخرى، إلا أن ذلك الارتباط، في سياق الزمن الاستعماري، لم يكن يمثل إشكالية معيقة لإمكانات تعبير سياسي /وطني، سيما أنّ الهوية الوطنية التي ناهضت الاستعمار كانت تغذي ذلك التعبير.

مع خفوت صوت تيار اليسار في المنطقة وبروز الإسلام السياسي وانهياره أصبح الفضاء السياسي في المنطقة العربية فارغاً

لكن، بعد الحرب العالمية الثانية، نشط اليسار، واليسار الماركسي خاصة، في المنطقة العربية، لا كتيّار حزبيّ ذي هُويّة نسبية في المجال العام، وتحت إطار السقف الوطني فحسب؛ بل كموقف وجودي معبّر عن الحداثة، وهوية حصرية للتقدم، إلى جانب الميل الأممي في النشاط السياسي، فيما تمّ تصوير اليمين (الذي كان الإسلام السياسي قد حلّ بديلاً عنه، مع بروز الإخوان المسلمين في المنطقة العربية، سيما بعد الحرب العالمية الثانية) بأنه النقيض الجذري للحداثة والتقدم، ومع نشاط هذين التيارين الأمميّين في المنطقة العربية، تراجع الدور الحزبي لليمين التقليدي، وفي الوقت ذاته؛ غاب التفكير الوطني في هذين الاتجاهين الأمميّين؛ تيار الأممية الماركسية، وتيار الخلافة الإسلامية العالمية، إبان مرحلة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.

وخلال تلك الفترة؛ أصبح الصراع بين هذين التيارين صراعاً وجودياً من ناحية، وصراعاً مطلقاً من ناحية ثانية. وكان أهم ضحايا هذا الصراع هما؛ فكرة اليمين كهُويّة سياسية نسبية مساوية لليسار، والفكرة الوطنية؛ كأرضية مشتركة وسقف للصراع السياسي، لا الوجودي، بين هذين التيارين في كلّ بلد من بلدان المنطقة العربية!

اقرأ أيضاً: حتى اليمين العربي يساري في تطلعاته..!

واليوم، مع خفوت صوت تيار اليسار في المنطقة، وبروز الإسلام السياسي وانهياره، أصبح الفضاء السياسي في المنطقة العربية فارغاً؛ بسبب أيديولوجيا اليسار من ناحية، والإسلام السياسي من ناحية ثانية؛ حيث دمّرت تلك الأيديولوجيا قواعد اللعبة السياسية والوعي الوطني، في كلّ بلدة من بلدان المنطقة العربية على حدة، وأصبحت أجندة محاربة الإرهاب الذي نشرته جماعات الأصولية العدمية المتفرعة من منظومة الإسلام السياسي؛ كالقاعدة وداعش، هي الأجندة الأساسية في رهانات الشرعية للنظام الإقليمي العربي.

وفيما كان الصراع على فكرة التمثيل الحصري للحداثة، صراعاً وجودياً بالنسبة إلى اليسار؛ أضاع ذلك الصراع الهُويّة النسبية له، كموقف سياسي نسبي حيال قضايا الشأن العام، بعدما ضاعت، من قبل، الهوية السياسية "الجنينية" لليمين، كموقف نسبيّ من قضايا الشأن عام من داخل الحداثة السياسية ذاتها! 

بعد الحرب العالمية الثانية نشط اليسار كموقف وجودي معبّر عن الحداثة وهوية حصرية للتقدم

في تقديرنا؛ لا بدّ من تقرير ضرورة أن يصدر اليمين واليسار، في الشأن السياسي العام، عن الحداثة السياسية؛ أي أنه من الضرورة السياسية بمكان، استعادة تأسيس نظري لفكرة اليمين كمبدأ سياسي نسبي، في موازاة اليسار، بعيداً عن حمولة الصراع الوجودي النافي للآخر، عبر الأيديولوجيا، بين كلّ من اليسار واليمين الديني (الذي مثله الإسلام السياسي)، إبّان حقبة الحرب الباردة.

إنّ اليمين السياسي في الغرب؛ جزء أصيل من الحداثة السياسية، وله أحزاب، مثل: الحزب الجمهوري في أمريكا، والمحافظين في بريطانيا، والديغوليين في فرنسا، ومرجعيات فكرية   ومفكّرين في كلّ من أمريكا وأوروبا، يصدرون عن رؤى يمينية محافظة للعالم من داخل الحداثة، طبعاً بخلاف اليمين المتطرف، وحتى هذا الأخير، يخضع في بعض انتظامه الشكلاني لشروط الحداثة السياسية في الغرب.

اقرأ أيضاً: كيف تلتقي الإسلاموية مع اليمين المتطرف؟

بيد أنّ ما يهمنا، هو؛ إعادة التفكير بفكرة اليمين السياسي في المنطقة العربية، وفق رؤى نسبية معادِلة لرؤية اليسار السياسي كذلك؛ لأنّ ما حدث في العالم العربي، إبان الحرب الباردة، كان تعويماً لليسار السياسي وتصويراً له كناطق رسمي وممثل وحيد للحداثة السياسية، فيما جرى تهميش لليمين السياسي التقليدي؛ حتى حلّ اليمين الديني، ممثلاً بالإسلام السياسي، بديلاً عنه، وهذا الأخير، في تقديرنا، يوازي اليمين المتطرف في أمريكا وأوروبا.

بدت فكرة اليمين في السرديات العربية الحديثة فكرةً أقرب إلى الرجعية وفكرة اليسار نقيضاً قيمياً إيجابياً لليمين

إنّ إعادة الاعتبار لليمين، والتنظير الفكري والسياسي لمنطلقاته في المنطقة العربية؛ عبر إدماجه في الانتظام المدني والحزبي من داخل الحداثة السياسية؛ أي من داخل منظومة الوطن والمواطنة، سيعني فكّ الارتباط بالإسلام السياسي، في بعض جوانب ذلك اليمين، كما سيعني فكّ ارتباطه بالطائفية، وأخيراً؛ سيعيد الاعتبار لأولوية السقف الوطني في المرجعيات الحزبية.

وتبقى الإشكاليات المتصلة بالهجاء الأيديولوجي لليمين السياسي؛ الذي كان في مراحله الجنينية القابلة للتطور في ظلّ أحزاب الحركة الوطنية المقاومة للاستعمار، جزءاً من إشكالات وعي الحداثة السياسية في المنطقة العربية، وتمثيلها الذي كان باستمرار تمثيلاً مجزوءاً ومسطحاً.

حان الوقت، إذاً، لوعي الحداثة السياسية في المنطقة؛ من خلال إعادة الاعتبار لليمين السياسي، بعد نزع الحمولة الأيديولوجية الضارّة للدين والطائفية منه، وكذلك إعادة موضعة اليسار؛ عبر نزع ادعاءات التمثيل الحصري للحداثة التي يزعمها أنصاره، والتعبير عنه، فكرياً وسياسياً، كاتجاه نسبي لبعض المواطنين في المجال العام.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية