عن مصادر التاريخ العثماني.. وتعدد زوايا القراءة

عن مصادر التاريخ العثماني.. وتعدد زوايا القراءة


27/03/2021

وليد فكري

عندما نقرأ "تاريخ علم التاريخ" نجد أن التجارب الأولى لكل جماعة بشرية مع التاريخ حكمتها القراءة الخاصة لتلك الجماعة لحركة التاريخ.

فالحضارات القديمة كحضارات مصر والعراق قرأته من خلال "أعمال الملوك" فجعلت من الملك (وعادة ما يكون ذو صفة مقدسة) محورًا لحركة التاريخ.

واليهود القدماء جعلوا قراءته تتمحور حول "رحلة الشعب اليهودي" ومعاناته وتحدياته.

وفي روما القديمة كان التاريخ استحضار لقصص الأمجاد والانتصارات لتوظيفها لحشد الجماهير في ميادين السياسة والحرب.

وفي أوروبا العصور الوسطى خلال سيطرة الكنيسة الكاثوليكية كانت حركة التاريخ تتلخص في صراع أزلي أبدي بين كلا من "مدينة الرب" و"مدينة الشيطان"، والإنسان ما هو إلا أداة في ذلك الصراع.

(لمزيد من التفاصيل حول تطور قراءة التاريخ أحيل القارئ للكتاب الرائع "قراءة التاريخ" للعلامة الأستاذ الدكتور قاسم عبده قاسم).

وكان من أعظم أفضال الحضارة العربية الإسلامية على علم التاريخ أنها قد ردت إليه إنسانيته فجعلته-خلال تطور قراءاته وكتاباته عبر عمرها الطويل-علمًا موضوعه هو "الإنسان" و"الجماعة البشرية" (ويمكن للاطلاع على ذلك قراءة ما كتبه عبد الرحمن بن خلدون عن التاريخ في مقدمة كتابه العِبَر وديوان المبتدأ والخبر).

ولأن الإنسان هو بطل حركة التاريخ، ولأن سُنة الله في خلقه هي التنوع والاختلاف، فقد أدى ذلك إلى تنوع واختلاف القراءات للواقعة الواحدة، وبالتالي نسبية صحة وقوعها من خطأه، وكذلك نسبية تقييم الحدث التاريخي حسب زاوية قراءته.

لهب أن ملكًا قاد جيشه ضد عدو له وضم بلاده لمملكته.. من زاوية شعب الملك المنتصر فإن هذا الحدث هو نصر عظيم وفتح جليل، ولكن من زاوية الشعب المهزوم فإن هذا الحدث هو هزيمة نكراء واحتلال غاشم.

وحتى تلك القراءة نسبية، ففي بعض الحالات قد يرحب الشعب بالغازي ويعتبره فاتحًا موحدًا لبلاده... كنظرة شعوب فارس القديمة للملك قورش أو الطورانيون لجنكيز خان أو المصريين للإسكندر، وغيرهم.

إذن فعلينا أن ندرك أن للحدث أو الحالة التاريخية زوايا لا نهائية للقراءة، وسبب لا نهائيتها هو أن للحدث كله قراءاته ولكل "تفصيلة" منه قراءتها الخاصة، مما يضعنا أمام عدد لا نهائي من التباديل والتوافيق (ولهذا السبب لا يوجد علميًا في علم التاريخ فرضية "ماذا لو" لأن تغيّر تفصيل بسيط قد يؤدي لاحتمالات لا نهائي).

هذا التعدد والتنوع للزوايا والقراءات هو مما يثري علم التاريخ، إضافة لأنه يقوم بعملية "تجديد للدم" للتاريخ... فقراءة التاريخ أشبه بالدورة الدموية، عليها أن تكون مستمرة ودائمة ومتجددة.

بل وأن هذه القراءات والزوايا لا تقتصر على الكتابات العلمية المنضبطة، وإنما تتوسع فتشمل الإبداعات الشعبية-كالسير والقصص الشعبي-والأساطير، والأعمال الفنية المعبرة، والرسائل، وغيرها.. (وهنا أنبه لأنها لا تعامَل كلها بنفس طريقة معاملة النَص العلمي المنضبط وإنما تُستَخدَم كوسائط لقراءة ما بين سطورها وما في طياتها مما يلقي الضوء على طبيعة العصر وكيفية تفاعل الناس معه).

وطالما أننا قد اعترفنا أن التاريخ علم إنساني، وأن قراءته حقل مفتوح، فإن هذا يتعارض مع ما يحاول البعض ممارسته من إقصاء بعض المصادر التي قدمت بدورها قراءة للتاريخ العثماني أو تاريخ المناطق التي حكمها العثمانيون.

فمثلًا: عندما نستشهد بشهادات ابن إياس الحنفي عن وقائع بداية الاحتلال العثماني لمصر نجدهم يعترضون بحجة أنه "من المتعاطفين مع المماليك وبالتالي فإنه مشكوك في موضوعيته"، مع أن "شهادات المغلوبين" هي من أهم المصادر لاستكمال فسيفساء الواقعة التاريخية.

وعلى سبيل المثال، تمثل تجربة مثل "الفتوحات العربية في روايات المغلوبين" لحسام عيتاني إضافة لقراءة مشهد الفتوحات العربية خلال تأسيس إمبراطورية المسلمين، وتمثل شهادات الجبرتي على الحملة الفرنسية أهمية كبيرة لقراءة زاوية المغلوبين من الاحتلال الفرنسي آنذاك، وكذلك شهادات من حضروا قصف الإسكندرية في بداية الاحتلال البريطاني سنة 1882م.. إلخ..

ولكنهم في المقابل لا يجدون غضاضة في استقاء معلوماتهم من مصادر عثمانية مصاحبة لحملة سليم الأول على مصر..!

وإذا ما وضعت في مصادرك كتبًا أجنبية سارعوا لاستحضار التهمة الجاهزة أن هؤلاء "مستشرقون حاقدون على الإسلام والمسلمين" (وعند قطاع كبير من هؤلاء فإن مستشرق تعادل: معاد للإسلام، في جهل فاحش مفضوح)، بينما يمكنهم بطيب نفس أن يستحضروا شهادات لمستشرقين لو كانت في صالح الدولة العثمانية..!

وهم هنا لا يكتفون بالأحكام الجاهزة فحسب بل أنهم يخلطون بين "انتماء المؤرخ الأجنبي أو المستشرق لثقافة معادية للتوسع العثماني" من ناحية و"معاداة المؤرخ أو المستشرق للإسلام والمسلمين" من ناحية أخرى، من منطلق الخلط المدلس المعتاد بين "العثمانيين" و"الإسلام"..  (وكتابات مستشرقين قامات مثل جوستاف لوبون وزيغريد هونكه تفضح خلطهم وتهافتهم هذا، فقد دافع هؤلاء عن حضارة المسلمين وعن الإسلام بينما دانوا همجية العثمانيين وتخلفهم الحضاري).

ماذا عن المؤرخين العرب؟ هنا وجدت ذات مرة ردًا عبقريًا يقول "إنك لكي تدرس التاريخ العثماني فإن عليك أن تتحدث اللغة التركية ولا تستطيع أن تفعل إلا بذلك".. والحقيقة أنني أقر أن معرفة لغة أصحاب الحالة التاريخية التي تدرسها أمر مفيد جدًا ولكن هذه العبارة غير واقعية خاصة في ظل انتشار الترجمات المحَقَقة وتنوعها واهتمام الناشرين بها.. (والكوميدي هنا أنهم لا يقولون المثل على رجل كعلي الصلابي الذي يسبح بحمد العثمانيين آناء الليل وأطراف النهار).. والمعتزون بعروبتهم متهمون دائمًا عند هؤلاء القوم أنهم "نتاج" لتهمة مفتراه هي "خيانة العرب قديمًا للدولة العثمانية".. في نفس الوقت الذي لا يلاحظون فيه دور العنصرية العرقية التركية في ثورة العرب ضد الاحتلال العثماني.

الخلاصة أنهم يحاولون أن يقصوا أي مصادر "ليست على هواهم" للتاريخ العثماني.. ويريدون أن يكون "المتهم"-وهو هنا الدولة العثمانية-هو القاضي والمحلف في نفس الوقت.

ومن هذا المنطلق فإنهم يتهمون من ينتقد الحكم العثماني أنه "منافق لسلطة بلاده لمعاداتها النظام التركي" بينما يعتبرون اتهام بعض المنتمين للجانب الآخر لهم بأنهم "عملاء للنظام التركي" افتراءً.

انتقائية مفضوحة ومحاولة إخفاءها أو تمويهها فاشلة..!

عن "سكاي نيوز عربية"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية