عوارض هوية شيعية قاتلة

عوارض هوية شيعية قاتلة


19/12/2019

وجيه قانصو

لم يكن شعار "شيعة شيعة" مجرد قول عابر رددته مجموعة شبان مرتابين أو متضررين من الحراك الشعبي الأخير، أو ثمرة تعبئة سياسية وتحريض إعلامي مكثف من الثنائي الشيعي الذي تحسس تهديداً من الخلخلة السياسية التي أحدثها الحراك.  ولم يكن أيضاً مجرد إثبات وجود لشارع مقابل شارع آخر، أو عرض فائض قوة مقابل ملامح قوة ناشئة. هو أكثر من شعار أو موقف سياسي، بقدر ما هو لسان حال هوية ذات معالم خاصة أرادت تأكيد تميزها وتمايزها، وتعبير عن وعي لحقيقة الذات، وبنية شعورية عميقة، وإظهار لتضامن جمعي أسهم الحراك الأخير في استفزازه وإبرازه إلى السطح بعدما كان كامناً يفعل فعله في الخفاء بعيداً عن الضوء داخل دائرة الإجتماع الشيعي في لبنان.

هذا يعني أن شعار “شيعة شيعة” ليس مدعاة للنقد الأخلاقي ولا يعبر عن مشكلة مسلكية أو أزمة قيمية أو انتهاك لمباديء متسالم عليها، بقدر ما هو كشف عن ظاهرة مجتمعية، في فهمها لهويتها ووعيها لذاتها ومسبقات نظرتها إلى الآخر المختلف. هي ظاهرة تترجم نفسها بخطاب ولغة وتعابير وردات فعل ومسلكيات فردية وجمعية.  ما يجعلنا أمام شيء اجتماعي (بتعبير دوركايم) ذي بنية تضامنية ووظيفة ومباديء مشروعية ومنطق سلطة وقواعد إنتاج للمعنى وأطر انتظام داخلي، يكون السبيل الوحيد إليه لا تقييم هذا الشيء وإدانته أو الحكم عليه، بل تحليله وفهمه وتفسيره.

بقدر ما يحمل شعار "شيعة شيعة" تحدياً ونبرة مواجهة، بقدر ما يعكس خوفاً وقلقاً وشعوراً جمعياً بالتهديد لا على المصالح والمكاسب فحسب، بل على الوجود والمصير والبقاء نفسه.  هي محاذير لا تتولد من تهديدات موضوعية وفعلية، بقدر ما هي إفرازات هوية مقفلة تقوم على التجانس المضاد لأي تنوع وتعدد، من خلال تعميم نموذج سلوك وإطر تفكير ومرجعيات قيمية وأسس مشروعية موحدة وصارمة. هوية ترسم خطاً سميكاً بين الداخل والخارج، بين الأنا والآخر، بين النحن والهُم الآخرين.  ما يجعل المغايرة مع الآخر مغايرة تقابل نوعي بين كائنات بشرية وتضاد بين هويات يصعب معها توليف أو تركيب هوية أعلى وأوسع. هوية تتعايش وتتحالف مع هويات أخرى فقط لدوافع تمليها ضرورات البقاء ومقتضيات المصالح. هوية ترفض أن تزاحمها أو تنضم إليها أو تعلو عليها هوية أخرى، لأنها تشدد على امتلاك القول الأخير والمرجعية الحصرية في تحديد القيمة وإنتاج المعنى وبناء الذات.  هوية تنزع إلى التجوهر والثبات، فلا تقبل التحول والنسبي والزمني، ولا حيز في داخلها للمساءلة والتجاوز وحتى النظر البريء. هوية فوق زمنية، ولا يحدها حد أو يؤطرها مكان، ما يجعل المترددين والمتململين والمشككين في داخلها وحتى الداعين إلى تجديدها وتطويرها مرتدين وخارجين عليها.

لكن بقدر ما تتصلب هوية كهذه في ثباتها وتتعالى على التاريخ والمكان، تكون أيضاً وبالقوة نفسها خارج التاريخ وفي عالم اللامكان الذي يبقيها بلا وطن وبلا دولة. أي في منطقة الطوبى التي تفصل الهوية عن الواقع، وتُبقي أهلها في حالة ارتياب وقلق ورهاب من تغيرات الواقع وتقلباته ومآلاته، بحكم اغترابهم المستمر عنه. ما يخلق فيهم إما رغبة في تطويع هذا الواقع والسيطرة عليه أي قهره وغلبته، أو سلوك قطيعة معه أي لعنه وانتظار المعجزة للتفوق عليه.   

  بالتأكيد، فإن الهويات لا تصبح كذلك من تلقاء نفسها، بقدر ما هي ثمرة سياقات وترتيبات وتدفق أحداث وتقاطع مصالح ورهانات إنسانية وترتيبات سلطوية فرضت تموضعاً خاصاً في التاريخ. الهوية كائن صناعي، يتشكل وينمو ويتحول وحتى يندثر في التاريخ.  وخروج الهوية من حالة التصلب والتكلس ومجافاة الواقع والتصادم معه، هو ببساطة تصويب للخيارات والرهانات والرؤى القائمة لا الاستمرار في وجهتها المأزومة والمضي في مسالك أفقها المسدود، حيث لا يشفع هذه الخيارات والرهانات الخاسرة الإحتماء بالمقدس الأزلي والسرمدي أو ادعاء الانتساب إليه أو تمثيله أو النطق بإسمه، فهذا كله من عوارض الكسل والضعف والعجز والاستلاب وحتى الخمول الفكري، بل إمارات استبداد خبيث يتمظهر بمظاهر أُبوة وعِفة وزهد وورع ومثل أعلى مزيف.

عوامل كثيرة تسببت بوصول الهوية الشيعية المعممة والمفروضة بعدة طرق إلى وضعية التصادم مع مكونات الواقع المحيط، تجلى في التعامل معه بسيكولوجية ريبية ولغة إدانة ومسلك مواجهة ومنطق قمع واستعراض ساذج للقوة وتلذذ عصابي بلعب دور الضحية. بعض هذه العوامل تاريخي غير مباشر لا يمكن عرضها أو حتى اختزالها في هذه المقالة القصيرة، والبعض الآخر راهن ومباشر ومحلي، يمكن اختصارها باتجاهين:

اتجاه سعى إلى الخروج من التهميش والحرمان، وشكل فرصة لإعادة إنتاج الهوية الشيعية داخل إطار الدولة والهوية الوطنية. لكنه استحال حالة مشخصنة وشبكة مصالح مغلقة ونمط علاقات زبائنية أضعفت الاجتماع الشيعي وبددت ديناميته وخلقت هشاشة في طاقته الإنتاجية.

واتجاه آخر وفَّر مقومات قوة وعزيمة وجود ، فإذا بهذه القوة تستحيل صنماً ووهماً حالماً، وتبالغ في تمايز الهوية الشيعية وتعاليها على الواقع المتنوع والمتحول، لتخلق فيها موجبات إضافية بعزلتها عن محيطها وتعميق اغترابها عنه.

شعار "شيعة شيعة" عارِض مَرَضِي خبيث يقتل صاحبه حين يرى في الآخر مصدر جحيمه، وحين يظن أن نعيمه في كسر إرادة هذا الآخر أو فنائه.

عن "المدن"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية