غزة: العاطلون عن العمل يعتاشون على آثار الحضارات القديمة

غزة: العاطلون عن العمل يعتاشون على آثار الحضارات القديمة


13/02/2021

مع هدوء أمواج البحر الهائجة على شاطئ مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة، بعد انحسار المنخفضات الجوية، يستعدّ الشاب زكي أحمد، 27 عاماً، والذي رفض الكشف عن اسمه الحقيقي، خوفاً من ملاحقة الأجهزة الشرطية له، للذهاب إلى الشاطئ للبحث عن القطع النقديّة، الأثريّة والذهبيّة، والتي تعود للحضارات القديمة التي سكنت فلسطين من آلاف السنين؛ كالحضارة البيزنطية والرومانية والكنعانية.

قطاع غزة، كأيّة منطقة حول العالم، في حاجة إلى متحف وطني؛ لحماية القطع الأثرية، والحفاظ عليها من عمليات التنقيب والعبث غير الشرعيّة

ويضيف أحمد، في حديثه لـ "حفريات": أنّه يعمل في مهنة التنقيب منذ 6 سنوات، ويضطر للذهاب يومياً لشاطئ البحر خلال ساعات الصباح الأولى، مصطحباً معه معولاً من المعدن، وبعض الأدوات الحادة، لاستخدامها في عملية البحث عن هذه القطع، والتي استقرت تحت رمال الشاطئ الصفراء، وذلك لحجز مكان له، بعد أن أصبحت هذه المنطقة مقصداً للعديد من الباحثين عن القطع الأثرية والعملات النقدية، من العاطلين عن العمل، بعد انعدام فرص العمل أمامهم داخل القطاع".

وكانت وزارة السياحة والآثار، التابعة لحركة حماس في غزة، قد أعلنت، في كانون الثاني (يناير) الماضي، أنّها واصلت خلال العام الماضي متابعة ملف الاتجار بالقطع الأثرية وتهريبها، ووجودها بحوزة المواطنين بشكل غير قانوني، حيث "ضبطت وحرّزت ما يزيد عن (11910) قطعة أثرية".

قانون الآثار

ووفق قانون الآثار المعمول به في الأراضي الفلسطينية؛ فقد تبيّن عدم وجود أيّة مواد رادعة لسارقي الآثار، واكتفى القانون بالفقرة "ج" من المادة (47)، التي تنص على أنّ كلّ من هرّب، أو حاول تهريب، أية قطع أثرية للخارج، يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين، أو غرامة مالية من مئة إلى ثلاثمئة دينار أردني.

عدم وجود أيّة مواد رادعة لسارقي الآثار

وحذّرت صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" الأمريكية، من أنّه في ظلّ عدم وجود قوانين، فقد بات العديد من آثار العصر البرونزي "التي غالباً ما تُكتشف بالصدفة"، عرضة للسرقة، قبل بيعها في السوق السوداء.

 ونقلت الصحيفة عن وزير السياحة في الحكومة المقالة في غزة، محمد الآغا؛ أنّ "غزة صغيرة في المساحة، لكنّها كبيرة في تاريخها وآثارها"، واصفاً القطاع بأنّه كان "نقطة التقاء أفريقيا وآسيا وأوروبا".

اقرأ أيضاً: آثار نادرة في المعهد البابوي بالقدس لم تسلم من اعتداءات المستوطنين

واكتشفت وزارة السياحة والآثار في قطاع غزة، عام 2015، ثلاث جرار أثرية فخّارية ذات حجم صغير، مليئة بالقطع النقدية المختلفة والمصنوعة من الفضة والبرونز، بحيّ الشجاعية شرق مدينة غزة، خلال أعمال تأهيل لأحد شوارع الحي من قبل بلدية المدينة.

مخاطر كبيرة

ولفت أحمد إلى أنّ "البحث عن القطع الأثرية يتطلب أحياناً الغوص في أعماق البحر، كما لا تخلو المهنة من المخاطر الكبيرة؛ كالغرق أو الملاحقة من قبل مباحث الآثار"، مبيناً أنّه يقتني أكثر من 50 قطعة أثرية "بين "سحاتيت"، وهي قطع نقدية برونزية، وكذلك أوانٍ فخارية وفضية ونحاسية، وسلاسل وعقود ذهبية، يجهل إلى أيّ العصور تعود، وهي متنوعة الأحجام والأشكال".

اقرأ أيضاً: استثمارات حماس تخنق المتنزهات في غزة وتستولي على الأملاك العامة

وتشكّل هذه المهنة مصدر دخل مؤقت لأحمد وعائلته؛ حيث تختلف أسعار القطع لديه بحسب نوعها وحجمها، فكلّما كانت القطعة كبيرة ومصنوعة من الفضة أو الذهب ارتفع ثمنها كثيراً"، مشيراً؛ "على مدار عملي في تلك المهنة، بعت ما يزيد عن 100 قطعة أثرية متنوعة، كان من بينها قطعة نقدية فضية كبيرة الحجم، تم بيعها بمبلغ 400 دولار أمريكي لأحد الهواة والمهتمين".

وأكد أنّ "الباحثين عن القطع النقدية يجهلون أهميتها وأسعارها، وهدفهم الوحيد هو الحصول على المال فقط، في حين يستغل عدد من التجار حاجة المنقبين إلى المال لشراء قطعهم النقدية بأثمان بخسة، لا تتجاوز ثمن القطعة الواحدة  5 دولارات أمريكية؛ حيث يقوم التاجر بتنظيف هذه القطع جيداً من "التكلسات"، نتيجة بقائها لفترات طويلة عرضة لمياه البحر المالحة، ومن ثم يقوم ببيعها للمهتمين باقتناء هذه القطع الأثرية النادرة، عبر الإنترنت، للحصول على أسعار مرتفعة".

اقرأ أيضاً: الأدوات الخشنة على حدود غزة هل تعود للخدمة من جديد؟

 وأوضح أحمد؛ أنّ "بحر غزة يضمّ الكثير من الكنوز الأثرية والتاريخية، وحتى المصاغات الذهبية، والتي تسقط من النساء والفتيات أثناء السباحة في البحر خلال فصل الصيف، فتقوم الأمواج بقذفها خلال المنخفضات الجوية نحو الشاطئ"، مؤكداً أنّه "سبق أن عثر على أسوارة ذهبية، قبل عدة سنوات، وقد قام ببيعها بمبلغ 500 دينار أردني".

القدرة على الصبر والتحمّل

أما الستيني ناصر يوسف (62 عاماً) (اسم مستعار)، والذي يمتهن التنقيب عن الآثار منذ 35 عاماً، فيقول لـ "حفريات": إنّ "سوء الأوضاع المعيشية، وانقطاعه عن العمل داخل الخط الأخضر منذ عدة سنوات، دفعاه للعمل في البحث عن القطع الأثرية، بعد شحّ فرص العمل في القطاع، وتدهور الأوضاع المعيشية".

ويضيف يوسف، والذي بدت عليه ملامح الفقر، أنّه يقصد، مع ساعات الصباح الأولى، شاطئ البحر في منطقة السودانية شمال قطاع غزة، المعروفة بمناطق "الحرف" الرملية، والتي عادة ما تكون مقصداً مهمّاً للمواطنين للسباحة بها أثناء فصل الصيف، وذلك للبحث عن القطع الذهبية والأثرية على الرمال، والتنقيب عنها بين حبات الصدف والحجارة، التي تكون ملقاة على الشاطئ بكثرة في مثل هذه الأوقات من العام.

المؤرخ الفلسطيني سليم المبيّض لـ "حفريات": "الفقر والحاجة يدفعان بعض سكان غزة للتوجه للبحر وبعض المناطق الأثرية، التي شهدت ملاذاً للحضارات حول العالم

ولفت إلى أنّ "التنقيب عن القطع الأثرية والمصاغ الذهبية يحتاج من الشخص إلى القدرة على الصبر والتحمّل؛ لصعوبة البحث عنها في هذه الأجواء التي تتميز بالبرودة الشديدة، وكذلك لصغر بعض القطع التي يتم العثور عليها، والتي تتطلب عناية وبحثاً دقيقاً"، مبيناً "أحتاج إلى ما يقارب الساعتين للتنقيب داخل منطقة لا تتجاوز أربعة أمتار مربعة".

وتابع يوسف: "أبحث عن القطع النقدية الأثرية على مسافة تتجاوز 500 متر على شاطئ البحر، إلا أنّني غالباً لا أعثر على أيّة قطع أثرية أو ذهبية؛ بسبب كثرة أعداد الباحثين والمنقبين عنها في القطاع، والذين يزدادون عاماً بعد عام،  وفي أحيان كثيرة يكون متوسط بيع ما يتم العثور عليه من قطع لا يتعدى الـ 30 شيكل (8 دولارات أمريكية)، لكنّها تبقى أفضل من العودة إلى المنزل بخفَّي حنين، فارغ اليدين من النقود".

متحف أثريّ مكشوف

ويرى الباحث والمؤرّخ الفلسطينيّ، سليم المبيّض؛ أنّ "قطاع غزة مليء بالمواقع الأثرية، وهو عبارة عن متحف أثري مكشوف، يضمّ العديد من الكنوز الأثرية والتاريخية؛ حيث أطلق عليه خليل الظاهري لقب "دهليز الملك"، كما سمّى نابليون بونابرت غزّة بـ "بوابة آسيا ومدخل أفريقيا"، وأطلق عليها العرب لقب "غزة هاشم"، نسبة إلى ضريح السيد هاشم جدّ الرسول محمدﷺ".

المؤرخ الفلسطيني سليم المبيّض

ويضيف المبيّض، خلال حديثه لـ "حفريات": "الفقر والحاجة يدفعان بعض السكان في غزة للتوجه نحو شواطئ البحر وبعض المناطق الأثرية، والتي شهدت ملاذاً للحضارات حول العالم؛ كالفرعونية والبيزنطية واليونانية والرومانية والإسلامية، للعثور على الأواني الفخارية والزجاجية والقطع النقدية والذهبية"، موضحاً أنّ "على وزارة السياحة والآثار بغزة أن تعمل على حماية المواقع الأثرية، وأن تسعى جاهدة للكشف على المزيد من المواقع، التي يزخر بها القطاع".

وأكّد المؤرّخ الفلسطينيّ؛ أنّ "القطاع، كأيّة منطقة حول العالم، في حاجة إلى متحف وطني؛ لحماية القطع الأثرية، والحفاظ عليها من عمليات التنقيب والعبث غير الشرعيّة".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية