فؤاد السعيد: هكذا استفحلت ظاهرة الإرهاب في أطراف مصر

فؤاد السعيد: هكذا استفحلت ظاهرة الإرهاب في أطراف مصر


19/03/2018

استفحل الإرهاب في أطراف الدولة المصرية، بينما شهد انحساراً وتكلساً كبيراً في عمقها، مما دعا لمحاولة تفسير هذه الظاهرة، بإجابات شافية ومقنعة عن الإشكالات الاجتماعية والسياسية التي تقف وراء ذلك، في ظل غياب لافت للدراسات العلمية بهذا الشأن.
فشبه جزيرة سيناء التي لم تتعرف حتى مطلع الألفية الحالية، على أفكار التطرف والإرهاب، باتت معقلاً لأعنف وأشرس تنظيم تكفيري شهدته البلاد منذ نموّ التنظيمات في مصر خلال النصف الثاني من القرن الماضي، كما قدم "داعش" من الظهير الصحراوي لمحافظة قنا "الجنوبية"، ليضرب كنائس الأقباط في مصر كلها، وشهدت الصحراء الغربية عمليات كبرى لتلك التنظيمات القادمة من الحدود الغربية.
نحاول في هذا الحوار، مع الخبير في علم الاجتماع السياسي والأستاذ في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، الدكتور فؤاد السعيد، وضع مدخل ومفتاح لفهم تلك الظاهرة، ورصد التحولات التي شهدتها المجتمعات القبلية الطرفية في الآونة الأخيرة، في ظل غياب لافت لدور الدولة والباحثين.

تهميش الأطراف
هل ترى أنّ المناطق الطرفية المصرية تعاني مشكلات متجذرة ومتجاهَلة، تسمح بنمو بذور التطرف والإرهاب، أم أنّ هذه المشكلة ليست إلا مرضاً صدره إرهاب المناطق الشعبية داخل المدن والعاصمة؟

سواء كنا نتحدث عن بيئات مجتمعية فقيرة، عشوائية، مهمشة اقتصادياً وإدارياً وثقافياً وسياسياً على أطراف المدن، أو على أطراف الوطن، فنحن نتحدث عن منطاق سكانية مرشحة للغضب الاجتماعي القابل للتحول لغضب سياسي، قد يصل لمستوى الاحتجاج، أو العنف الجماعي التلقائي، أو العنف السياسي المخطط من جماعات أيديولوجية منظمة.

يعكس سلوك الجماعات الإرهابية في سيناء منظومة القيم القبلية بعد إلباسها بلباس ديني

تنبع أهمية هذا التساؤل، من كونه السؤال المضمر والكامن، وراء حالة الحيرة، وغياب التفسير التي تنتاب قطاعات واسعة من المصريين، إزاء ما بدا وكأنه ظهور مفاجئ ومدوٍّ للإرهاب هناك بشكل رئيسي، وكذلك ببعض مناطق الصحراء الغربية المتاخمة للوادي في الفترة الماضية.
من ناحية أخرى يعكس السؤال صورة موروثة مسبقة ومزيفة لدى غالبية المصريين من أهل الوادي عن تلك المجتمعات الصحراوية على الأطراف باعتبارها "كيانات اجتماعية" ثابتة متخيلة، تتسم في طبيعتها وجوهرها بالخمول والسلبية، لا باعتبارها مجتمعات حية تعاني التهميش والاغتراب والشعور بالدونية، وأنّها يمكن أن تغضب، وأن تبحث عن هوية أخرى بديلة قد تنحو بدورها إلى التعالي العكسي - في حالة من رد الفعل المرضي- على أهل الوادي "المتغطرسين" وكذلك القيادات القبلية التقليدية المتعاونة معهم، والتي تقبل بدور "مواطن الدرجة الثانية"، وهي لذلك "مدنَّسة" سياسياً لتبعيتها للدولة من وجهة نظر تلك الجماعات الإرهابية، التي لا تتوانى عن وصمهم أيضاً بالكفر والدنس بالمعنى الديني لتشجيعهم للحركات الصوفية المتهمة بدورها بممارسة البدع المنكرة.

إذن فتهميش القلب للأطراف في حد ذاته سبب كافٍ لخلق بيئة مواتية للتطرف؟
يصدر طرح قطاع من المصريين لهذا التساؤل عن اعتقاد بأنّ المجتمعات القبلية العشائرية في أطراف مصر –على خلاف مجتمعات الوادي من مدن وأرياف – هي مجتمعات بدائية بسيطة؛ وبالتالي فهي محصَّنة في ذاتها من ظهور الإرهاب، وأن الإرهاب لا بد أن ينتقل إليها من خارجها، سواء كان هذا الخارج هو الخارج المصري أو الخارج الإقليمي أو العالمي، وهو استثناء للمجتمعات القبلية العشائرية من القابلية لإنتاج الإرهاب في ظروف مجتمعية معينة، مثلها مثل أي بيئة اجتماعية أخرى، لا تسنده أدلة أو دراسات موثوق فيها.
كما أنّ طرح المصريين لهذا التساؤل يعكس حالة من الاستغراق في المحلية، وعدم متابعة التطورات المتسارعة في طبيعة الإرهاب سواء على المستوى العالمي أو حتى في الإقليم؛ على المستوى العالمي، أزيح "الإرهاب الديني"- في صورته الأولى الأكثر بساطة- عن موقع الصدارة بين الأنماط الأكثر شيوعاً للإرهاب في العالم؛ إذ تصاعدت موجة جديدة من "الإرهاب العشائري" الذي تجسّده جماعات معزولة ماديّاً ومعنويّاً عن محيطها الاجتماعي.

تتعرض العائلات الكبيرة للاهتزاز خلال السنوات الأخيرة ما يعني بداية انهيار المنظومة القبلية

في الحالة العربية؛ خاصة في العراق وسوريا وليبيا واليمن وأخيراً في مصر، تظهر خصوصية تبدّي العشائرية الجديدة بواجهة دينية تبرر ميل أعضائها لادعاء التطهر في مواجهة المجتمع المدنّس المحيط بهم كمبرر للانعزال عن المجتمع الأصلي الأصغر؛ أي العشيرة التقليدية، وكذلك عن الوطن/ الدولة، وتبرير استخدام العنف المفتوح إزاء المنتمين لهما، وصولاً لتأسيس مجتمع ودولة موازيين، سرعان ما يتحولان إلى "بديل صفري" لن يكتب له الاستقرار إلا بإفناء الطرف الآخر.

ثمة مناطق طرفية تعاني الإهمال لكن لم تسمح بتكوين بؤر للإرهاب، ألا ينسف ذلك نظرية المناطق الطرفية كمستقبل محتمل لأفكار الإرهاب والتطرف؟
لا تنصب مهمة الباحثين وصانعي القرار على انتظار حدوث الظاهرة ثم دراستها، بل إنّ مهمتهم الأصلية تتمثل في رسم الخرائط الاجتماعية القادرة على التنبؤ المسبق بالمناطق التي تتوفر فيها شروط مواتية للظاهرة، وبالتالي فإنّ عدم وقوع حوادث إرهابية في منطقة ما لا ينفي كونها منطقة مرشحة لتفريخ الإرهابيين، وهو ما يمكن أن يفاجئنا في المستقبل.

تحصّن مجتمعات الأطراف القبلية المصرية ذاتياً من ظهور الإرهاب اعتقاد لا تسنده أدلة أو دراسات موثوقة

تحولات تعصف بالعشائرية
في سيناء، على سبيل المثال، كان يهيمن على الحالة الدينية بعد مطلع الخمسينيات التيار الصوفي الموصوف بالسلمي واللاعنيف، إلى أن غادر عدد من الشباب إلى محافظات الوادي، ثم عادوا حاملي أفكار التطرف، فهل المنطقة الطرفية كانت السبب أم المناطق المأهولة بالسكان؟ 

طبعاً من الممكن الحديث عن فرضية وجود حالات لأفراد ينتمون لهذه القبائل والعشائر عادوا لموطنهم الأصلي محملين بأفكار إرهابية انعزالية تكفِّر المجتمع والدولة تلقّوها في الوادي في أجواء من البحث عن هوية خاصة متعالية تعوّض شعورهم بالاغتراب والدونية والتهميش الاجتماعي والثقافي أثناء هجرتهم للتعليم أو للعمل في المدن الكبرى بالوادي؛ خاصة القاهرة والإسكندرية، وهؤلاء يخضعون في تفسير تحولاتهم لنظرية الاغتراب والتجمع المتعاضد للوافدين في المناطق الفقيرة والعشوائية المهمشة على أطراف المدن؛ وهي النظرية التي سبق أن فسر بها سعدالدين إبراهيم ومأمون فندي الظهور الذي لم يكن أقل مفاجأة وقوة لبعض الجماعات الإرهابية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
يضاف إلى هؤلاء حالات فردية موازية تأثّرت بأفكار إرهابية وفدت عبر الحدود "شبه المفتوحة" مع نقاط ساخنة ومشبعة بالعداء لإسرائيل في الأراضي الفلسطينية شرقاً، وللتدخل العسكري الأجنبي في ليبيا غرباً، أو حتى في بيئة مواتية لانتشار مجتمعي لأفكار دينية متشددة كالسودان جنوباً، ولكن هذه الحالات الفردية والخبرات المنقولة لا يمكنها أن تقدم تفسيراً كافياً شافياً لظاهرة تجذر الإرهاب في بعض هذه المناطق الطرفية المهمّشة التي تعدّ بيئة مواتية تماماً لتوطن التطرف والإرهاب فيها.
توحي كتاباتك بوجود علاقة بين التحولات المجتمعية التي تتعرض لها مجتمعات الأطراف القبلية وظهور جماعات الإرهاب فيها مؤخراً، هلاّ أوضحت لنا هذه العلاقة؟
في ظل تاريخ طويل للدولة المركزية في مصر، تشكّلَ ميراث عميق من التفاهم بين الدولة في المركز، والقبائل والعائلات الكبيرة في الأطراف، يقوم على نوع من التفويض لنخبة محلية قادرة -أو كانت كذلك- على فرض الاستقرار في هذه المناطق البعيدة.
تتعرض العائلات الكبيرة للاهتزاز خلال السنوات الأخيرة، ما يعني بداية انهيار المنظومة القبلية، جوهر الإشكالية إذن هو ضعف ذلك النظام الذي كان قادراً على تسيير الحد الأدنى لشؤون هذه المجتمعات وإدارة أزماتها الداخلية دون بديل حديث يقوم على فكرة الوطن لا القبيلة، وعلى الاحتكام للقضاء العادل لا لتوازنات الصلح العرفي الظالمة التي عادة ما تراعي الأوزان النسبية للقبائل بصرف النظر عن الحقوق القانونية.
في هذا المناخ، استغلّت عائلات متوسطة متطلعة للصعود الاجتماعي والسياسي حالة الغياب الأمني وضعف مؤسسات الدولة ورموزها -خاصة في أعقاب ثورة يناير 2011- كما استغلت حالة اهتزاز التماسك الداخلي التقليدي للأسر الكبيرة، لكي تتوسع في بعض نشاطها الاقتصادي لتنافسها، وهو ما ولّد حالة من التنافس المصحوب بالاحتقان في ظل مرحلة يشهد الاقتصاد والتجارة في تلك المجتمعات المغلقة حالة من الانكماش الطويل، ومن المعتاد في مثل هذه الظروف أن تبحث الخلافات اقتصادية المنشأ عن أسباب اجتماعية وأخلاقية لتبريرها، وفي مقدمتها ميراث الثأر ومخزون الكراهية بين القبائل، وأن ينشط خيال التنميط وشيطنة الأطراف المنافسة.
هل نجحت تلك الجماعات في النفوذ للقبيلة من ثغرة النزعات الاستعلائية التي يمارسها بعضهم ضد بعض، وأطاحت لحد ما بالمورث القبلي المستقر؟
هذه المناطق عرفت خلال السنوات الأخيرة نسخة من الإسلام الاجتماعي البدوي، وانتشاراً لنظام القضاء الشرعي بديلاً لنظام القضاة العرفي ونظام القضاء الحديث على حد سواء، وكانت فترة حكم الإخوان قد سمحت بنوع من النفاذ السريع لحركات الاسلام السياسي التي تداخلت وتحالفت سياسياً مع العديد من العائلات المتوسطة الصاعدة، وهو ما ظهر في تشكيلات هذه الحركات ومستوياتها وشبكاتها التنظيمية، كما تجلّى في وصول وجوه جديدة لمجلسى الشعب والشورى (2012 – 2013) بديلاً عن الوجوه السابقة المعتادة من العائلات الكبيرة التي كانت تنتمي للحزب الوطني المنحل.
في هذا المناخ نجحت بعض الجماعات الإرهابية في فرض نفوذها في بعض المناطق وتوفير الحماية لبعض العائلات الضعيفة، والتخفيف من وطئة تجبُّر العائلات الكبيرة عليها، وهو ما أسميته ظاهرة "الكرو السياسي"، كامتداد لظاهرة "الكرو الاجتماعي" حيث اعتادت العائلات الضعيفة استئجار العصابات لحمايتها أو أخذ "الثأر" بدلاً منها. في ظل هذه المعطيات نجحت يعض هذه الجماعات في استقطاب عناصر متعاطفة من هذه القبائل.

نجحت بعض الجماعات الإرهابية في فرض نفوذها في بعض المناطق وتوفير الحماية لبعض العائلات الضعيفة من العائلات الكبيرة

وعلى الرغم من أنّ مشهد مجزرة بئر العبد (الروضة) مثّل نقلة نوعية في مستوى العنف واتساع نطاقه على مستوى التتبع التاريخي السياسي، إلا أنّه لم يكن سوى ذروة جبل الجليد لتاريخ من التطور الاجتماعي الطبيعي المتدرج لمستوى عنف الصراع بين القبائل وبعضها، ثم بين الجماعات الدينية المسيًّسة التي تستحق وصف "القبائل الدينية الجديدة" في سيناء بالذات.
عرفت القبائل الكبرى في سيناء الصراع على المياه والحدود والنفوذ وطرق التجارة منذ القدم؛ ففي العام 1889 تم نوع من "ترسيم" الحدود بين القبائل الكبرى ما يزال سارياً حتى الآن، ويشكل كسره من آن لآخر بهدف تعديله السبب الرئيسي للعديد من الصدامات القبلية-القبلية في السنوات الأخيرة، تراوحت الصدامات عادة بين قتل وخطف أفراد قبل أن تتصاعد في السنوات الأخيرة إلى استهداف شاحنات تجارية –خاصة إلى غزة– باستخدام قذائف آر بي جي، واستهداف تجمعات القبائل المنافسة باستخدام السيارات المفخخة.
لكن التنظيم المتطرف يظهر دائماً كأنّه ضد أعراف القبيلة التي يحاربها طالما هي ضد منهج الدين وقواعد الشرع، وفق زعمه؟
يعكس سلوك الجماعات الإرهابية في سيناء منظومة القيم القبلية بعد إلباسها بلباس ديني، وفي تجسيد دموي لمعنى تعميم المسؤولية القبلية، تعامل الإرهابيون مع أهالي قرية الروضة ببئر العبد باعتبارهم جميعاً موسومين بتهمة ممارسة البدع الصوفية المخالفة لعقيدة السلف؛ أي إنّه تم التعامل معهم باعتبارهم "بدنة" واحدة بكل "أفخاذها".
يوحي اسم الجماعة القرابية الكبرى "البدنة" بتصور عضوي بيولوجي لمجتمع القبيلة؛ "فالبدنة" - نسبة الى البدن - تنقسم الى عدد من "الأفخاذ" -العائلات- بينما تنقسم كل عائلة إلى عدد من البيوت، وكل بيت إلى عدد من الأسر، وبالتالي فكل طفل في القبيلة/ القرية، ولداً كان أم بنتاً، كان ينبغي قتله باعتباره جزءاً عضوياً من البدنة؛ إذ إنّ "العرق دسّاس"!
من ناحية أخرى فإنّ المرأة في التقاليد القبلية تنسب لقبيلتها الجديدة، قبيلة زوجها، وبالتالي فإنّ نساء مسجد الروضة "استحققن القتل" -دون تردُّد أيضاً- ضمن هذا التعميم القبلي البيولوجي البدائي المتجذر في الثقافة القبلية التي يتشبع بها من خططو للمذبحة ومن نفّذوها.
حالة السلاسة التي تقبل بها عدد من إرهابيي سيناء فكرة التحول من الإرهاب التقليدي المحدود المقيَّد بقيود شرعية محكمة، إلى الإرهاب الجماعي المفتوح دون قيود في مواجهة أهالي قرية بأكملها، هي حالة يصعب تفهمها إلا في ضوء اعتيادهم أصلاً على ما وصلت إليه قبائلهم من عنف ثأري مفتوح في الصراعات الاجتماعية القبلية- القبلية في السنوات الأخيرة.

تجب العودة لما أنجزه الأنثروبولوجي المصري أحمد أبوزيد منذ الخمسينيات

افتقاد للدراسات والباحثين  

هل بتنا نفتقد لعلماء الإنثروبولوجيا الجادّين والموهبين؟
في بدايات القرن لم تعثر الدولة المصرية على مصري واحد يمكن الاعتماد عليه في تقديم معلومات وافية دقيقة أو مشورة موثوق فيها فيما يتعلق بأوضاع واحد من أهم مجتمعاتها الطرفية؛ سيناء، فاضطرت للاعتماد على الكاتب اللبناني نعوم بك شقير صاحب أول كتاب في العصر الحديث عن "تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها" الصادر العام 1916، يعكس الكتاب حالة نقص المعلومات عن سيناء؛ إذ يؤكد أنّها "على اتساعها وشهرتها التاريخية وقربها من مصر كانت مجهولة عند عامة المصريين"، بل إن الكتاب يعكس نظرة انطباعية متعالية "استشراقية"، إذ يسارع – بعد عدد من الزيارات واللقاءات بوصف بدو سيناء بأنّهم في غاية الخشونة والجهل، لا تاريخ لهم ولا علم ولا شبه علم، بل ليس في بادية سيناء كلها من يحسن القراءة والكتابة، وأن أهل القبيلة الواحدة يجهلون كل الجهل بلاد القبائل المجاورة لهم، وليس من يعرف أحوال القبائل كلها من أهل سيناء إلا أفراد يعدون على الأصابع، وإن أكثر مشايخ القبائل في سيناء لا يعرفون من تاريخ قبائلهم وجغرافية بلادهم إلا اليسير، وهم متكتمون للغاية عن الحكام فلا يمكنونهم من معرفة أحوالهم.
وماذا عن الدراسات الجادة عن طبيعة المجتمعات الحدودية، خاصة البؤر الهشة فيها التي ثبت أنها تعج بشباب جاهز لتقبل أفكار دينية أو سياسية منحرفة؟
لا يجد صانع القرار أو الباحث أو الإعلامي ما يشفي الغليل من الدراسات الميدانية المعمقة التي تقوم بها فرق بحثية كبيرة عما وصلت إليه الأوضاع المادية والاتجاهات والمعتقدات الدينية والسياسية لدى الأهالي في المجتمعات الحدودية في مصر، وباستثناءات محدودة لا يجد هؤلاء مفراً من العودة لاجترار ما كان قد أنجزه رائد الأنثروبولوجيا المصري الراحل الدكتور أحمد أبوزيد منذ خمسينيات القرن الماضي عن الواحات الخارجة والصعيد.

مهمة الباحثين رسم الخرائط الاجتماعية القادرة على التنبؤ المسبق لا انتظار حدوث الظاهرة ثم دراستها

ولم تقتصر جهود أبوزيد على دراسة المجتمعات الحدودية داخل مصر، بل تجاوزتها لدراسة العديد من مجتمعات المحيط الحيوي لمصر خلال سنوات المد القومي الناصري، حيث أجرى دراسة مهمة العام 1960 قبيل الوحدة المصرية-السورية عن العلويين في سوريا، أعقبتها دراسة واسعة عن المجتمعات الصحراوية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بداية من إيران شرقاً حتى المغرب غرباً، مروراً بالمملكة السعودية والعراق والأردن وليبيا والجزائر، ثم دراسة أخرى لقبائل السودان وأوغندا كينيا ونيجيريا وسيراليون العام 1962.
خلال عقود السبعينيات والثمانينيات توقفت هذه النوعية من الدراسات الميدانية المعمقة، باستثناء عدد محدود من الدراسات التي أشرف عليه سعيد المصري، وترجع آخر الدراسات الاجتماعية الميدانية الكبرى لمجتمعاتنا القبلية إلى التسعينيات، حيث قام أبوزيد أيضاً بإجراء أربع دراسات موسَّعة عن مجتمعات شمال سيناء ثم دراسة جديدة عن مجتمع الواحات البحرية، قبل أن تتوقف هذه النوعية من الدراسات، خلال العقدين الأخيرين جرت في النهر -وتحته- مياه كثيرة وخطيرة تغيرت معها طبيعة هذه المجتمعات سواء في سيناء أو الصحراء الغربية أو الصعيد.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية