فتاوى مدفوعة الأجر

فتاوى مدفوعة الأجر


21/04/2021

بابكر فيصل

يظل مبحث العلاقة بين الدين والدولة من أهم المباحث المطروحة في الساحة السياسية العربية والإسلامية حيث ظل الدين يلعب الدور الأكبر في توجيه حياة شعوب المنطقة، وفي تشكيل علاقتها بالأنظمة الحاكمة. 

يقوم البنيان الفكري لتنظيمات الإسلام السياسي, وفي مقدمتها جماعة الأخوان المسلمين, على أن أسهل الطرق للسيطرة على الشعوب هو طريق الدين, وذلك عبر خلق طبقة من الكهنوت تصبغ على الحكم مسحة دينية يستطيعون من خلالها تدجين تلك الشعوب وسوقها بيسر وسلاسة لتأييد الحكام. 

إن أحد أخطر تجليَّات تجربة حكم الأخوان المسلمين في السودان تمثلت في إتخاذ  "الفتوى الدينية" مصدراً للشرعية السياسية عبر توظيف فئة الشيوخ أو من يُطلقون عليهم العلماء وذلك وفقاً للمقولة الشائعة "الإسلام دين ودولة". 

كشفت صحيفة "السوداني" الصادرة في الخرطوم الأسبوع الماضي عن وثائق توضح أن نظام الإخوان المسلمين الذي ترأسه الطاغية المخلوع عمر البشير (كان يخصص ميزانية من المال العام لآلية تسمى"آلية تقنين القروض بالفائدة" بوزارة المالية والتخطيط الاقتصادي, يترأسها الشيخ عبد الجليل النذير الكاروي )، وأوضحت الوثائق أن (النظام السابق خصّص أموالاً شهرية لرئيس وأعضاء الآلية عبارة عن مرتبات). 

من الجلي أن الغرض من إنشاء هذه الآلية برئاسة رجل دين لا يفقه في أمور الاقتصاد والمال شيئا هو منح مشروعية شكلية  للحكومة لقبول القروض الخارجية التي يتم منحها وفقا لنظام الفائدة الذي تقول جماعات الإسلام السياسي أنه الربا الذي حرمته الشريعة الإسلامية. 

بالطبع لا تريد الحكومة من رجال الدين رأياً فقهيا حتى تبني عليه قراراتها بقبول القروض الخارجية ولكنها ترغب في إعطائهم دورا شكلياً يحفظ العلاقة بين الطرفين، فالحكومة تتكفل بصرف الأموال والمرتبات الشهرية على أعضاء الآلية، في الوقت الذي يقوم فيه هؤلاء بحياكة وتفصيل الفتاوى وفقا للمقاس المطلوب. 

وحتى إذا حاول رجال الدين إصدار فتاوى لا تتماشى مع قرارات السلطة الحاكمة فإن الأخيرة لن تأبه بهم كثيراً وستمضي في تنفيذ ما عزمت عليه، بينما يلوذون هم بالصمت خوفا على العطايا والمرتبات التي تتدفق عليهم من الخزينة العامة، ولن يتجرأ أحدهم على الاستقالة من موقعه بحجة أن الحكومة تخالف الفتاوى الشرعية وذلك حتى لا يفقد المزايا التي يحصل عليها. 

يؤكد حديثنا أعلاه ما قاله رئيس الآلية حول طبيعة العمل الذي قاموا به، حيث أوضح أنهم رشحوا للحكومة (عددا من الصيغ للمرابحة الشرعية إلا أن الجهات الخارجية الممولة لم توافق عليها), ولكن رجل الدين المبجل لم يبين لنا ماذا فعلت الحكومة بعد ذلك؟ هل التزمت بالصيغ الشرعية أم قبلت عروض التمويل بالفائدة من الجهات الخارجية؟ 

لا شك أن حكومة الإخوان مضت في طريقها وقبلت بالقروض الممنوحة لها وفقا لنظام نسبة الفائدة المعمول به في جميع أنحاء العالم, ومع ذلك لم يخرج أحد رجال الدين الممثلين في الآلية المذكورة على الملأ ليذكر المخالفة الشرعية التي ارتكبتها الحكومة بقبول التمويل بالفائدة ! 

ولأن الحكومة الإخوانية لا تعدم حيلة في الوصول لمبتغاها, فقد كان هناك رجال دين موالون لها في جسم آخر يسمى "مجمع الفقه الإسلامي" لديهم الاستعداد لمنحها مشروعية التعامل مع الدول ومؤسسات التمويل الدولية فقاموا على الفور بإصدار فتوى تسمح للحكومة (باستلام قروض ربوية لمشروعات تنموية وفقا لحدود الضرورة). 

وعلى الرغم من أن الفتوى حاولت التحايل على الموقف الفقهي المعتمد لدى الأخوان باعتبار الفائدة هى نفسها الربا وذلك عبر اشتراط  حد الضرورة وفقا للقاعدة المشهورة "الضرورات تبيح المحظورات", إلا أن الحكومة فاجأت هؤلاء الأخيرين باستلام قروض ضخمة وغير مشروطة بحد الضرورة المشار له في الفتوى. 

قد تلقت الحكومة الإخوانية أكبر حجم من القروض الخارجية في ذات التوقيت الذي شهد فيه الاقتصاد السوداني أكبر انتعاش له وذلك بعد إكتشاف البترول الذي عاد على الخزينة العامة بمداخيل ضخمة من العملات الأجنبية (حوالى 70 مليار دولار) , وبالتالي لم تكن هناك أي ضرورة تبرر الاقتراض ! 

مع ذلك، ومرة أخرى لم ينبس رجال الدين وفقهاء السلطان في "مجمع الفقه الإسلامي" ببنت شفة، ولم يدينوا الحكومة الإخوانية بسبب تعاملها في القروض الربوية دون أن تكون هناك ضرورة تبيح لها ذلك الفعل المحظور بحسب مفاهيم الأخوان لقضية الربا . 

قد سمحت علاقة تبادل المنافع بين دولة الأخوان المسلمين ورجال الدين بتمدد الأخيرين في جميع نواحي الحياة الخاصة والعامة بحجة أن الدين ينظم كل شؤون الحياة, مما جعلهم يتجرأون على الحديث في مختلف المجالات الخارجة عن نطاق معرفتهم بما في ذلك العلوم المتخصصة مثل التمويل والاقتصاد, فحيثما وجدت العطايا والأموال هرعوا نحوها بتدبيج الفتاوى إرضاءً للسلطان صاحب الزمان.    

عن "الحرة"

الصفحة الرئيسية