فتى البناشر الصغير

فتى البناشر الصغير


29/08/2018

كان يحتاجُ، حتى يزيلَ السّوادَ والشّحار والزيوت المحترقة التي علقت بيديه، لفركهما بعنف بليفة سلكيّة كانت والدته تزيل بها الدّهون الصعبة العالقة في قيعان الطناجر والقلايات.

تسيل الدماء من يديْ الفتى الغضّتين اللتين تحوّل لونهما الورديّ إلى ما يشبه قطعة كاوتشوك مضرّجة بالشقوق، تشبه تماماً إطارات السيّارات التي كان يُصلحها، ويسدّ ثقوبها لتدور وتطوف أرجاءَ المدينة الصغيرة، ثم تعيدها المساميرُ وقطعُ الزّجاج إليه مرّة أخرى.

بيدين حمراوين كأنهما خرجتا من إناء أسيد كان الفتى، يسابق الوقت كي يقضي ما تبقى من سويعات في "اللهو"

ولمّا تهدأ دماء يديه عن النّزف، كان يضعهما، كما أوصت زوجة أبيه "الحجّة الدبّورة"، في إناء من الماء والملح يجعله يرغب في أن يُطلق صراخاً مبلّلاً بآلام مبرّحة، لكنّه، كما أوصاه، عمّه "أبو رباح"، يكتم أوجاعه، فهذا دأب الرجال الأشدّاء المنذورين للزمن الصعب.

بيدين حمراوين كأنهما خرجتا من إناء أسيد، في قبو تعذيب، كان الفتى، الذي لمّا يبلغ الثانية عشرة، يسابق الوقت في ظهيرة يوم الجمعة، بعد تناول المقلوبة الشهيّة بالدجاج والزهرة البلديّة، كي يقضي ما تبقى من سويعات في "اللهو" ويا له من لهو:

يسير على قدميه من مخيم الحسين حتى وسط البلد في عمّان. يذهب نحو المدرّج الروماني، ثم يتجوّل في منطقة سوق الخضار، وسقف السيل، ويطوف على "أفيشات" الأفلام في سينما البترا، والحمرا، ودنيا، وريفولي، والحسين، وفلسطين، ورغدان، والخيّام، وبسمان، وزهران، واستوديو زهران. وذات يوم ساقته قدماه إلى سينما الكواكب، وشاهد فيلمين بتذكرة واحدة، وهو قاعد على حصيرة!

اقرأ أيضاً: في ذكرى المأساة: تحاصرني بالموت وأحاصرك بالكراهية

يريد، في تلك السويعات اللاهثة، أن يختطف غبطة تُشعره بأنه في إجازة حقيقيّة، فيذهب إلى "عطا علي" ويتناول صحن كنافة خشنة كيديه التي خفّف المشي من إحساسه بآلامهما، وربما لأنّ آلام قدميه قد احتلت مرتبة التّعب الأولى.

يسير على قدميه من مخيم الحسين حتى وسط البلد وسقف السيل، ويطوف على "أفيشات" الأفلام في دور السينما

يراقب الإطارات، ويستمتع بالاقتراب من السيّارات المركونة ومعرفة ماركات إطاراتها التي كانت تتوزّع على بلدين؛ هما اليابان وأمريكا، وكان يفضّل إطارات الدّولة الأولى، لا لأنّه، بالجينات، ضد الإمبرياليّة، بل لأنّ "اليابانيين ناس محترمين ومخلصين" كما قال سائق سرفيس أراد نفخ عجل سيارته "المنفّس" ذات يوم. "ما في بعد البريد جيستون يا عمي"، قالها ولوّح بيده من شبّاك السيّارة، من دون أن يدفع الأجرة، وهذا كان أمراً شائعاً في تلك الأيام.

استمرّ ينظر في ساعته "السيكو" ذات "الكستك" الذهبي التي أحضرها له خاله "فضل" من السعودية، وقدّر أنّ وقت العودة قد أزف، وأنّ نقوده القليلة قد تبخّرت، وأنه سيصحو "من (...) الصبح" ليفتح محل البناشر في جبل الحسين، قرب شاورما "بابا هيّو" التي أصبح اسمها فيما بعد "بابا هيّو للتجهيزات الرياضيّة".

اقرأ أيضاً: عن سفينة تحمل 26 خروفاً و10 من الماعز!

بعد أن يرفع باب المحل المعدنيّ ذي الصوت المزعج، الذي يصحو الشارع على صخبه، يضع الإطارات المستعملة على الرصيف؛ لتكون إشارة "دعاية" إلى أنّ هذا محل للبناشر، ثم يشغّل ماتور الهواء، ويغيّر ماء فحص الإطارات في نصف البرميل الكبير المقصوص من منتصفه، إذا كان مائلاً للسواد وذا رائحة كريهة، حتى يأتي بعد ساعة أو ساعتين المعلّم "أبو صبحي" ابن خالته، الغَضوب، الحنون، الطيّب، النّزق، السخيّ، الذي كوّن سمعة من المصداقية أفضل من "كل ليرات الدنيا" كما يقول، بما يعتقد أنها حكمة خالدة يضيفها إلى معجمه المرويّ الذي حفظه الفتى عن ظهر قلب.

ينظر في ساعته "السيكو" ذات "الكستك" الذهبي التي أحضرها له خاله "فضل" من السعودية: وقت العودة قد أزف

الليل ينشط في نشر عتمته. يعود الفتى إلى المخيم، عن طريق درج مستشفى الطوارئ، قرب المحكمة، ثم عبر طريق سرفيس جبل الحسين خط 8، مروراً بدخلة مكتبة الفيومي، بجانب مسجد الحسين الشرقي، مقابل حلويات أبو لِبّة، فيكون حينها على مشارف المخيم، فيسير من أول الشارع الرئيسي، حيث مخفر الشرطة، باتجاه الشارع (19) السفلي، فيجد أمّه في انتظاره، فيسرد لها ما فعل، من دون أن يحدّثها عن النّساء شبه العاريات اللواتي رأى صورهنّ في مداخل السينما..!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية