فشل جنيف أم فشل المجتمع الدولي في ليبيا؟

فشل جنيف أم فشل المجتمع الدولي في ليبيا؟


06/07/2021

الحبيب الأسود

حدث ما كان منتظرا، وفشل ملتقى الحوار السياسي في مهمته، فيما نجح طرفان؛ الراغبون في تأجيل الانتخابات والعاملون على التمديد لحكومة عبدالحميد الدبيبة، ومن ورائهما الإسلام السياسي بجناحيه المتمثلين في أمراء الحرب وأباطرة الفساد، وانهزم المتعدد في صيغة المفرد، وهو المجتمع الدولي، فلم تجدِ بيانات برلين 1 و2 وقرارات مجلس الأمن وآخرها 2570 و2571 للعام 2021، والبيانات الرباعية والخماسية، والجهود الثنائية والجماعية، والضغوط الإقليمية والدولية، وجهود البعثة الأممية، وتبيّن مرة أخرى أن الرهان على الدور الأميركي لا يقود إلا إلى الفشل كما حدث في دول عدة، أبرزها أفغانستان العائدة لقبضة طالبان والعراق المتروكة لميليشيات إيران، كما أن الضغوط الأوروبية أثبتت بدورها أن ما تأسس على ارتباك المواقف بسبب تناقض المصالح لا يمكن أن يؤدي إلى ثبات الرؤية في تشكيل الحلول الملائمة.

مرّ الأول من يوليو، دون تحديد القاعدة الدستورية لانتخابات الرابع والعشرين من ديسمبر، لقد كان هذا التاريخ رمزا لخارطة الطريق بما يعنيه من فتح المجال أمام المفوضية العليا المستقلة للانتخابات لتنطلق في التنفيذ الفعلي للروزنامة الانتخابية، وأراد المجتمع الدولي أن يجعل منه حاجزا نفسيا أمام أعضاء الملتقى يصعب تخطيه، لكن تجاوزه تمّ بمكر الساعين لعرقلة الحل السياسي، وبإدارة مُحكمة من قبل قوى داخلية وإقليمية لا تريد للاستحقاق الانتخابي أن ينتظم في موعده.

وجاء الثالث من يوليو ليعلن الفشل التام، وليفتح المجال أمام كل الاحتمالات، حتى أسقط في يد السفير الأميركي، المبعوث الخاص للولايات المتحدة الأميركية لدى ليبيا ريتشارد نورلاند فقال في بيان مقتضب “لقد تابعنا عن كثب اجتماعات الملتقى في جنيف هذا الأسبوع، بما في ذلك العديد من الأعضاء الذين يبدو أنهم يحاولون إدخال حبوب سامة تضمن عدم إجراء الانتخابات – إما عن طريق إطالة العملية الدستورية أو من خلال خلق شروط جديدة يجب تلبيتها لإجراء الانتخابات”، وأضاف “يدعي بعض هؤلاء الأفراد أنهم يعملون نيابة عن القادة السياسيين الذين قدموا للولايات المتحدة تأكيدات واضحة بأنهم يدعمون الانتخابات في 24 ديسمبر".

أمر مثير للسخرية أن يتحدث السيد نورلاند عن تأكيدات بعض القادة السياسيين دعمهم للانتخابات، وكأن واشنطن تكتفي بما تستمع إليه في اللقاءات الرسمية لتقييم الأوضاع، ولا تمتلك أدوات التحليل والقراءة الواقعية للنوايا المتخفية وراء التصريحات، ولا أجهزة المخابرات التي يفترض أنها لا تكتفي بمتابعة الأحداث وإنما تستقرئ خلفياتها وتستشرف المرتقب منها، فيما كان أغلب الليبيين العاديين يتحدثون عن الفشل قبل حصوله، ويؤكدون أن ملتقى الحوار لن يتوافق على قاعدة للانتخابات، لأنّ هناك أطرافا يعرفها السفير نورلاند جيدا، لا تريد للاستحقاق الانتخابي أن يتم في موعده، ولا للشعب أن يقول كلمته، ولا للمصالحة أن تتحقق، ولا للأزمة أن تنتهي.

كلمات السفير نورلاند، تؤكد بما لا يترك مجالا للشك أن واشنطن اعتادت على التعامل مع سطح المجتمعات السياسية لا مع عمقها، وهي لا تعلم أن القرار الليبي لا يتخذ في الاجتماعات الرسمية، وإنما في المجالس الخاصة، وأن المشهد السياسي في ليبيا لا يدار من قبل أحزاب ذات مرجعيات والتزامات واضحة وإنما ضمن فعاليات محكومة بتداخل الاجتماعي الجهوي والقبلي مع المالي والاقتصادي وهي اليوم خاضعة، ولاسيما في غرب البلاد، إلى توازنات بين أباطرة الفساد وأمراء الحرب وقادة الإسلام السياسي وأصحاب نزعة المغالبة المناطقية ومن يرغبون في الإبقاء على امتيازات الحكم الحالي، وأغلب هؤلاء إن لم يكونوا جميعا، يتحركون تحت ظلال المشروع التركي الذي ما كان ليتغلغل في البلاد لولا الضوء الأخضر الأميركي سابقا ولاحقا.

عندما أعلنت مهندسة خارطة الطريق ستيفاني وليامز عن قائمة من اختارتهم لعضوية ملتقى الحوار السياسي المنعقد في تونس في نوفمبر الماضي، كان واضحا أنها حمّلتها بذور فناء المهمة التي تشكلت من أجلها، فقد أعطت 45 مقعدا من جملة 75 لجماعة الإخوان والمقربين منها، وجاءت بعدد من صانعي الأزمة من أصحاب النزعة الجهوية الشوفينية، وممن يعتبرون أنفسهم فوق الإرادة الشعبية، ليهيمنوا على الملتقى بمنطق الانتصار لجماعة على حساب المجتمع، ولمشروع جهوي على حساب الوطن والدولة الوطنية.

وعندما تم الحديث عن الفساد المالي وشراء الذمم بمبالغ ضخمة في ملتقى تونس، اكتفت الأمم المتحدة بالحديث عن تحقيق تم إخفاء نتائجه الحقيقية بعد تسريب البعض منها في يناير الماضي، حتى لا تؤثر على نتائج الانتخابات في اجتماع جنيف أوائل فبراير، ثم على جلسة منح الثقة لحكومة الدبيبة في مارس الماضي، وجيء بمبعوث دولي جديد غير متمكن من الملف، وبسلطات جديدة تتحرك بكثير من المكر السياسي لتجنب أخطاء سلطة فايز السراج ولاسيما في ما يتصل بالعلاقات الإقليمية والدولية، وكان هدفها تحييد أكبر عدد من الفاعلين الخارجيين، ولكن دون أي ممارسات واقعية لتجاوز الصراع في الداخل، فحتى توحيد المؤسسات بقي في مستوى القرارات دون أن يلامس مربعات الانقسام الأمني والعسكري المستمر نتيجة هوة عميقة من التناقضات لم تسع حكومة الوحدة الوطنية إلى تجسيرها.

والأسبوع الماضي أدت غلبة التيار الرافض للانتخابات إلى كسر مجاديف البعثة الأممية، فما زرعته ستيفاني جناه كوبيش، ليستنتج السفير الأميركي أنه “في نهاية المطاف، لا يمكن تحديد مستقبل ليبيا إلا من قبل الليبيين”، ولكن بعد ماذا؟

ما حدث كان منتظرا، فالإخوان لا يريدون انتخابات يعلمون مسبقا أنهم لن يفوزوا فيها، وقد سبق لهم أن انقلبوا على نتائج الصندوق في العام 2014 من خلال منظومة “فجر ليبيا”، وكافأهم المجتمع الدولي بأن أعاد تدويرهم من خلال اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015.

والإخوان هم من أكثر القوى الموجودة في المنطقة فهما للغرب ولأساليب التعامل معه، يمنحونه الشعارات والوعود وشروط التبعية تحت غطاء من مزاعم المظلومية، ويتبنون الليبرالية الاقتصادية ويجعلون من دبلوماسية الصفقات طريقا للتأثير على القرارات السياسية، كما أنهم يلعبون جيدا ورقة الخدمات العامة واللوبيات، ولهم قدرة فائقة على الاختراق. وفي الحالة الليبية يقدمون أنفسهم على أنهم حماة مصالح واشنطن وحلفائها في “الناتو” في وجه أطراف أخرى ينعتونها بأنها إما متحالفة مع المعسكر الروسي أو حاملة لمواقف النظام السابق المعادية للغرب والليبرالية والديمقراطية، وحليفهم التركي ينجح في كل مرة في إقناع الأميركيين والأوروبيين أنه يتحرك في غرب ليبيا لقطع الطريق أمام ما يسميه محاولات التمدد الروسي في الضفة الجنوبية للمتوسط، بينما ينسق في الخفاء والعلن مع موسكو، ولا يرى مانعا من تقاسم النفوذ معها في ليبيا شريطة تقاسم المصالح.

سعى المجتمع الدولي إلى تهميش الشعب الليبي بزعم تمثيله من قبل شخصيات لا تمثل إرادته، وكان هناك مخطط واضح لرهن الأزمة والحل في كيانات وأفراد لضمان مصالح القوى الخارجية وليس لإعادة بناء الدولة وطي صفحة الماضي. وسمحت البعثة الأممية بالبعض إلى الخروج علنا للتشكيك في وعي الشعب وقدرته على اختيار حكامه للمرحلة القادمة، ولا هدف من ذلك إلا استبعاد شخصيات بعينها من السباق لأنها لا تلائم مصالح الإخوان وحلفائهم، وحاول هذا البعض وضع قاعدة دستورية على مقاس تطلعات الأقلية للسيطرة على مصير الأغلبية من خلال الانتخاب، ولما فشل في ذلك، أطاح بالمحطة الأهم في خارطة الطريق، وأنهى اجتماع جنيف بتناول نخب المجتمع الدولي الذي كان جاهلا بالأوضاع في ليبيا منذ العام 2011 ولا يزال مصرا على هذا الجهل بمحاولاته تحريك الأحداث في اتجاهات عكس التيار لا يستفيد منها إلا المراهنون على استمرار تحييد الشعب من صناعة القرار.

عن "العرب" اللندنية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية