فكرة المختارات تجوز في الشعر ولا تجوز في النثر

فكرة المختارات تجوز في الشعر ولا تجوز في النثر


24/11/2018

ممدوح فرّاج النّابي

يعتبر الأديب المصري طه حسين من أكثر الأدباء العرب شهرة حتى أنه يلقّب بعميد الأدب العربي، لكنّ هذه الشهرة والمكانة اللتين حظي بهما في حياته وبعد مماته، لا تخفيان الكثير من المصاعب والعراقيل والهجمات التي تعرض لها طه حسين، ولا يخرج إصدار كتاب جديد عن هذه الهجمات، حيث مثلت مختارات من مذكرات طه حسين صدرت مؤخرا ما يشبه الاعتداء على الكاتب.

أصدر طه حسين كتاب الأيام عام 1929 وجاء كمحاولة لاستعادة الثقة في نفسه، بعد أزمة كتاب "في الشعر الجاهلي". بدأ طه حسين نشر الجزء الأول من الأيام في عدد ديسمبر من مجلة الهلال المصرية عام 1926 وقد انتهى في الأول من سبتمبر عام 1927. وقد كان السبب الرئيس وراء التأليف هو توجيه رسالة للذين سوّلت لهم أنفسهم بإيذائه مفادها؛ أن الذي استطاع أن يواجه هذه الصعاب، حتى وصل إلى ما وصل إليه، قادر على مواجهة ما هو أكثر وأفدح.

شهرة الأيام
نَشر طه حسين الجزء الثالث من سيرته تحت عنوان مستقل "مذكرات طه حسين". وقد صدر أوّل مرة عن دار المعارف المصرية عام 1962، ثم أعادت نشرها دار الآداب البيروتية في فبراير 1967. عُدت "الأيام" من أكثر الكتب شهرة في العالمين العربي والغربي، حتى بين الكتب الكلاسيكية إن استثنينا "ألف ليلة وليلة" على حد قول فدوى مالطي دوجلاس.

أما كتاب "المذكرات" فاعتبر الكثيرون أنه الجزء الثالث من "الأيام" حتى أن طه حسين صرَّح بنفسه أنه اعتبر هذه المذكرات جزءا ثالثاً للأيام. كما أنّ المتأمّل في طبيعة الأيام والمذكرات يكتشف أنه لا فارق بينهما على مستوى الشكل أو التقنيات الأسلوبية، وطرائق السرد. فطه حسين وزّع الجزء الأوّل من الأيام على عشرين وحدة سردية، وبالمثل الجزء الثاني. وعندما طُبع الجزء الثالث بعنوان مستقل "مذكرات طه حسين" احتوى على عشرين وحدة سردية.

ما يربط بين الأجزاء الثلاثة خلافا لثيمة الفتى أو الشيخ أو صاحبنا التي كانت تتردّد كقناع لشخصية طه حسين، هو خيط التواصل السّردي بين الأجزاء الثلاثة المنفصلة شكلاً والمتصلة موضوعاً. فالقصة تبدأ في كلّ جزء من حيث انتهى التسلّسل الزمني في الجزء الذي سبقه. كما أنّ أسلوب السّرد والكتابة يتواصل في الأعمال الثلاثة على درجة واحدة. وهو مختلف عن أعمال طه حسين السابقة. والأهم هو أنّ ثمة تطوراً موضوعيّاً واضحاً في الأجزاء الثلاثة معاً؛ فهي تكوّن في مجموعها بنية متكاملة، ترصد تطوّر حياة وفكر طه حسين.

أعاد مركز الأهرام للترجمة والنشر طباعة "الأيام" قبل سنوات. وتمّ طبعها في مجلد واحد، ضمّ الأجزاء الثلاثة معاً. في تأكيد على أنّ المذكرات هي الجزء الثالث لـ"الأيام" حتى ولو صدرت من قبل تحت اسم مستقل هو "مذكرات طه حسين". الشيء المختلف هو حذف العناوين الفرعية التي كانت تبدأ بها الوحدات السردية الـ20، على نحو ما هي مثبتة في نسختي دار المعارف، ودار الآداب اللبنانية. غير ذلك ظل جوهر وتفاصيل الكتاب كما هو دون تغيير بالحذف أو الإضافة.

تشويه المذكرات
مع كل هذه التأكيدات على وحدة الأجزاء الثلاثة، حتى ولو حمل أحدها عنوانا مستقلاً. إلا أنّ الكارثة التي لم ينتبه إليها أحد أّنّ المجلة العربية أعادت إصدار الجزء الثالث في كتيّب مستقل مرفق بالعدد (267) من المجلة تحت عنوان "من العمامة إلى الطربوش". وهذا العنوان في أصله، عنوان مجازي مستعار من عنوان الفصل الأول في المذكرات القديمة "على باب الأزهر".

أعجب ما جاء في هذه المذكرات الملفقة، هو التشويه الذي طال عملاً مهمّا لعميد الأدب العربي. وأولى علامات التشويه، أنّ المجلة وضعت عنواناً فرعيّاً هكذا "فصول مختارة من مذكرات طه حسين"، وإذا كانت فكرة المختارات تجوز في الشعر، فإنها لا تجوز في النثر، لأسباب تتعلق بالتسلسل الزمني للأحداث، وتراتبها، فأيّ انتزاع لأي جزء يفقد الحكاية تسلسلها وترتيبها.

الغريب في الأمر، أنّ الأكاديمي والناقد المغربي صدوق نورالدين، شارك في هذه الجريمة، فهو من قام بعملية الحذف والاختزال التي طالت مذكرات طه حسين الأصلية، تحت مسمّى غير شرعي "مختارات"، وقد وصف فعله بأنه "اختارها وعلق عليها" في تأكيد على المشاركة في الفعل. اللافت أنّ الناقد المغربي صدوق نورالدين كتب مقدمة غاية في الأهمية، لو كانت في غير ذات الموضع تحديداً. ناقش فيها المذكرات وموقعها في جدول الكتابة الذاتية، وعلاقتها بالسيرة الذاتية، وخصائصها الأسلوبية. وهو ما ضاع هباء بوضعها في هذا السياق.

أشكال التشويه متعدّدة لا تقف عند مجرد تغيير عنوان المذكرات، وإنما تعدتها لجرائم متعددة منها، أولاً، أنه قام باختزال الفصول من عشرين فصلاً، إلى خمسة عشر فصلاً. حيث أسقط من الطبعة الجديدة الفصول التالية: السادس "أساتذتي"، والثامن "ثلاث تجارب"، والثاني عشر "الصوت العذب"، والثامن عشر "أطول الناس لسانا"، والتاسع عشر "رفضت أن أحضر مؤتمراً للعميان!". فتمّ حذف الفصول من داخل المذكرات الجديدة، دون إبداء أسباب في المقدمة تُبرّر فعله المرفوض سلفاً.

الشيء الثاني الذي طال المذكرات هو التحريف. حيث قام مَن أعدّ المذكرات بتغيير أسماء عناوين الفصول، وقد جاء التغيير ما بين تغيير العنوان كليّا كما في عنوان الفصل الأول، فجاء بعنوان "بين العمامة والطربوش"، في حين كان في المذكرات الأصلية بعنوان "على باب الأزهر". وهو الأمر الذي تكرّر في عناوين الفصل الرابع والخامس والسابع إلى آخر الفصول. أو تغيير جزئي كما في عنوان "كيف تعلمت الفرنسية" الذي صار "دروس الفرنسية".

أما الجريمة الأبشع فكانت في سياسة الحذف والبتر التي قام بها مُعدّ المختارات. حيث قام بحذف أجزاء من الفصول. فعلى سبيل المثال، انتهى الفصل الأول في المختارات عند "منذ افتتاح الجامعة حتى تغيرت حياته تغيراً فجائيا كاملاً". ولكن في الحقيقة يسقط صاحب المختارات رؤية الفتى للدراسة في الجامعة، بعد ذهابه مع رفيقيه. واستماعه إلى دروس الأستاذ أحمد زكي باشا عن الحضارة، وهي المقارنة التي تنسحب إلى تفضيل طه حسين للجامعة على الدراسة في الأزهر، وهو ما انعكس أثرها في اليوم التالي "فلا يستيقظ الفتى في موعده ليذهب إلى الرواق في الأزهر، إلا في الضحى، وهو مجبر جبراً. وإنْ كان عقله عند دروس المساء في الجامعة".

ويستمر الحذف والتشويه في كلّ الفصول على وتيرة واحدة. حيث يحذف صاحب المختارات كل ما يتعلّق برؤية الفتى للأزهر مقارنة بدروس الجامعة التي انصرف ذهنه كليّاً إليها، وأغرق فكره في التفكير في دروسها وأساتذتها. حذف فقرات يتكرّر في الفصل الرابع "بين الشاعر، المعلم والمحب".

الحذف لا يقف عند فقرة أو صفحة، بل يتجاوز الأربع صفحات، كما في الفصل الثالث. وقد عنونه "طه حسين بدايات الكاتب". في حين أنه في نص المذكرات جاء بعنوان "أثر اختفاء المرأة"، فالحذف يبدأ من الثلث الأخير من صفحة (29) من جملة "كانوا يقصدون إلى الأزهر ليلهوا ويلعبوا، لا ليعملوا ويجدوا…." وصولا إلى الثلث الأخير من صفحة (32). حيث يعاود وصل الفقرات من جديد. وفي الفصل الخامس "محنة الكفيف" يحذف الفقرة الأولى التي استهل بها طه حسين فصله. وهي فقرة طويلة يتحدث فيها عن عهد المصريين بالجامعة الذي كان بمثابة العيد.

الشيء اللافت أنّ معظم المحذوفات كانت تختص بمقارنات الشيخ طه بين الأزهر والجامعة، وميله إلى أساتذة الجامعة. ومنها أيضاً إشادته بفضل هؤلاء الأساتذة في تكوينه. وهو ما يضع علامة استفهام كبيرة!

عن "العرب" اللندنية

الصفحة الرئيسية