فلسطين: هل تسقط قضية ضمير عالمي بالتقادم؟!‎

فلسطين: هل تسقط قضية ضمير عالمي بالتقادم؟!‎


02/11/2021

بعد أن كشفت تحولات ونتائج ما سمّي بالربيع العربي في المنطقة اهتزازات كبيرة، طاولت ما كان مفترضاً، وإن بصورة ظنية، من إجماعات على صيغ الدولة الوطنية، سيما في الدول التي نشطت فيها أحداث الربيع العربي؛ بدت قضية فلسطين، كما لو أنّ الجميع قد تخلى عنها في هذا الجزء من العالم، المسمّى عربياً.

لعلّه من الأهمية بمكان؛ أن يكون في ذلك مناسبة للتأمل في الحيثية الحقيقية لقضية فلسطين، بوصفها قضية ضمير عالمي بالأساس، وليس في حسبانها من قضايا الهوامش الساخنة للحرب الباردة (تلك التي صممها وزير خارجية الولايات المتحدة، وأحد مهندسي الحرب الباردة في السبعينيات؛ هنري كيسنجر)؛ من حرب لبنان إلى أفغانستان.

اقرأ أيضاً: في ذكرى وعد بلفور: هل تسرق الظلمات أملَ الفلسطينيين بدولة على أرضهم التاريخية؟

فقضية فلسطين، بوصفها قضية ضمير عالمي، لم تكن تناظرها إلا دولة جنوب إفريقيا، التي تمّ تفكيك نظامها العنصري على يد الأسطورة نيلسون مانديلا؛ ما يعني أنّ قضايا الضمير العالمي هي بالأساس؛ قضايا محلّ إجماع، من حيث قوتها الأخلاقية العابرة لكلّ دول العالم.

كانت القضية الفلسطينية من نتائج الحرب العالمية الثانية، وتعبيراً من تعبيرات الداروينية السياسية التي كفّرت أوروبا والعالم الحديث بموجبها عن عار المحرقة النازية؛ عبر استصدار قرار عالمي أضحت فلسطين ضحيته بامتياز؛ وقامت العصابات الصهيونية على خلفية هذا القرار؛ بعمليات إجرامية أدت إلى تهجير كثير من الفلسطينيين خارج بلادهم، في مخيمات اللجوء بالبلاد العربية المجاورة؛ ما أدى إلى قيام إسرائيل، عام 1948م.

لا يمكن أن تسقط قضية فلسطين بالتقادم ولا يمكن أن تنسى بفرض النسيان على الذاكرة

هذه المقدمة، ليست تفصيلاً عابراً في سياق إعادة التذكير بخلفية أيّ نقاش عمومي حيال الهوية الحقوقية والأخلاقية لقضية فلسطين؛ يبحث في كشف مغالطات "آراء" بدأ البعض يدرجونها في إطار "واقعية جديدة"، لتذويب تلك القضية (التي لن تذوب بطبيعة الحال)، فقضايا الضمير العالمي لا تموت بطبيعتها؛ لأنها متصلة بحقوق إنسانية لا يمكن نكرانها.

في البداية؛ راهنت سياسات القمع المتخلفة للدولة العربية ما بعد الاستقلال، على استغلال القضية في أجندات قمع داخلية بطريقين؛ الأولى: رفع شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"؛ حيث عطلت عبره تلك الأنظمة (من عبدالناصر إلى صدام حسين)، استحقاقات النهضة والتنمية والديمقراطية في كلّ بلد على حدة، بحجّة تحرير فلسطين أولاً، وكانت النتيجة كما نراها اليوم.

والثانية؛ استعداء وتهجير المواطنين اليهود في كلّ دولة عربية (عاشوا فيها لمئات السنين)؛ بحجة عمالتهم المحتملة للكيان الإسرائيلي!

اقرأ أيضاً: الحياة الثقافية في فلسطين قبل النكبة... شواهد تكذب الدعاية الصهيونية

ورغم الاتفاقيات التي عقدتها دول عربية عديدة مع إسرائيل؛ ابتداء من كامب ديفيد (مصر)، إلى وادي عربة (الأردن)، وصولاً إلى اتفاق أوسلو، إلّا أنّ الثابت المشترك في كلّ تلك الاتفاقيات ظلّ هو غياب القدرة على تحقيق أيّ من الثوابت الأربعة الأساسية: حقّ العودة للاجئين، والقدس الشرقية، وحدود ما قبل 67، والسلطة الوطنية؛ حيث ظلت تلك الثوابت، باستمرار، العقبة الكأداء أمام أيّ حلّ يروم التسوية بعيداً عنها!

اليوم، بعد أن شغلت وقائع الربيع العربي كل دولة عربية بنفسها، تتردد سجالات مجوَّفة لاختبار تعويم إسرائيل في المنطقة، عبر مقارنات مضللة؛ كديمقراطية إسرائيل وتخلف العرب وصولاً إلى إهدار الحقوق وتمرير خيارات تطرح قضايا المصير الفلسطيني؛ إما في إطار قبول هيمنة إسرائيل على حقوق الفلسطينيين كأمر واقع، أو الدخول مع إسرائيل في صراع بلا أفق. وهكذا، إذ تنحو سجالات كهذه إلى تطبيع نقاش عام مع "عادية" الحالة الإسرائيلية في الفضاء العمومي للمنطقة العربية؛ بدعوى الواقعية، فإنّها في حقيقة الأمر؛ إمّا أن تضمر جهلاً بصيرورات وملابسات القرار العالمي بعد الحرب الثانية، لصالح قيام الكيان الإسرائيلي، وبالتالي لا تدرك هذه السجالات هوية فلسطين، بوصفها قضية ضمير عالمي في وجه الداروينية السياسية للعالم الحديث، وإمّا إنّها سجالات تستهدف التطبيع من أجل التطبيع بقوة الأمر الواقع (وهذا هو الأخطر).

قضايا الضمير العالمي هي بالأساس؛ قضايا محلّ إجماع، من حيث قوتها الأخلاقية العابرة لكلّ دول العالم

وإذا ما بدا أنّ ثمة ترتيبات سياسية في أكثر من بلد عربي، وغير عربي، في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، مؤخراً، يتّخذ من حافة التطبيع مع إسرائيل بالون اختبار إعلامي؛ فإنّ من مهام النخب العربية، وغير العربية كذلك، أن تحدّق عميقاً في هوية المعنى الإنساني والحقوقي لقضية فلسطين بوصفها قضية ضمير عالمي بالأساس؛ ذلك أنّ إعادة النقاش إلى قوة المعنى الحقوقي والإنساني سيفكّ الارتباط في وعي  كلّ من امتلك عقلاً مفتوحاً؛ بين الزعم الذي يتعمده البعض حين يحتجّ، ظاهرياً، بخيار الدولة الواحدة (التي كان قد دعا لها إدوارد سعيد فقط ليفضح الهوية الصهيونية لإسرائيل)، وبين تعويم مساومات رخيصة للتفريط بالحقوق الفلسطينية، فكما لا يلزم من إساءة استخدام بعض الأنظمة العربية لورقة فلسطين في أجندات داخلية تتصل بتكريس القمع؛ التشكيك في هوية الحق الإنساني لقضية فلسطين، باعتبارها قضية ضمير عالمي، كذلك لا يلزم من استخدام كلّ من إيران وتركيا لقضية فلسطين في أجندات إقليمية أيدلوجية؛ تنصلاً من أصل الاستحقاقات الواجبة للقضية الفلسطينية، بزعم أنها  قضية عربية في الأولى، وإسلامية في الثانية!

فقضايا الضمير العالمي لا يمكن أن تسقط بالتقادم، ولا يمكن أن تنسى بفرض النسيان على الذاكرة، مهما ظنّ البعض أن بإمكانه فرض نسيانها.

اقرأ أيضاً: كيف جمعت فلسطين الغزاة ووحّدت المبشرين والأساطيل الدولية؟

لقد رأينا كيف اصطف العالم كلّه، في مجلس الأمن العام والجمعية العامة للأمم المتحدة العام الماضي، وعُزلت كلّ من أمريكا وإسرائيل، عزلاً تاماً، حين أقدم الرئيس الأمريكي، ترامب، على اتخاذ قرار نقل سفارة أمريكا من تل أبيب إلى القدس، فأعاد العالم بذلك الاصطفاف تذكيراً مستحقاً؛ بأنّ قضية فلسطين قضية ضمير عالمي بامتياز مهما ظن البعض خلاف ذلك.

ذلك أنّ من لا يريد أن يرى في القرارات الأممية الصادرة ضدّ إسرائيل من مجلس الأمن والضامنة لحقوق الفلسطينيين؛ أنّها قرارات سياسية أممية ذات مرجعية حقوقية ودولية، ومن لا يريد معرفة ذلك؛ لمجرّد أنّها قرارات لم يتم تنفيذها (فقط، بسبب الفيتو الأمريكي، أو بسبب حماية أمريكا لإسرائيل)؛ سيظلّ هو الأكثر تعامياً عن رؤية القضية الفلسطينية، باعتبارها قضية ضمير عالمي بامتياز، كما لو أنّه من "الفريسيين"؛ الذين كانوا يقرأون الكتاب المقدس بعيون الموتى، بحسب عبارة المفكر السوداني منصور خالد.

الصفحة الرئيسية