فوضى حرب الثلاثين في أوروبا هل تتكرّر اليوم في الشرق الأوسط؟

فوضى حرب الثلاثين في أوروبا هل تتكرّر اليوم في الشرق الأوسط؟


كاتب ومترجم جزائري
30/12/2018

ترجمة: مدني قصري


إبراهيم تابت؛ فرنسي لبناني، خريج معهد "HEC"، المدرسة العليا للتجارة (فرنسا)، حاصل على شهادة الليسانس في التاريخ، فاز بوسام الاستحقاق الوطني الفرنسي، وقضى معظم حياته المهنية في قطاع الاتصال الإعلاني، ووسائل الإعلام في لبنان وفرنسا، وهو يدافع عن الفرنكوفونية، ضمن جمعية "La Renaissance Française" (النهضة الفرنسية)، وهي مؤسسة تأسست عام 1915، وتتمثل مهمتها في المشاركة في الترويج للغة والثقافة الفرنسية، وقيم الفرنكوفونية في العالم، ويترأس تابت وفدها في لبنان. وهو أيضاً عضو في مجلس فرع لبنان للمنظمة غير الحكومية "Transparence International" (الشفافية الدولية)، ومؤلّف خمسة أعمال تاريخية؛ منها كتابه "التوحيد والسلطة والحرب" الصادر عن دار "هارماتان".

إبراهيم تابت

يكتب إبراهيم تابت بانتظام تحليلات سياسية ومقالات تاريخية في الصحافة اللبنانية الناطقة بالفرنسية، وقد كتب مقالات في المجلة الفرنسية "Actualité de l’Histoire" (أحداث التاريخ)، وفيما يلي هذه المقالة بقلمه، يتناول فيها مقارنة حرب الثلاثين عاماً في أوروبا بأحداث الشرق الأوسط الحالية.

حرب الثلاثين عاماً

منذ الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، والصراعات في الشرق الأوسط تُذكرنا بحرب الثلاثين عاماً (1618-1648)، الحرب التي شاركت فيها جميع القوى الأوروبية، باستثناء إنجلترا وروسيا، جرت أحداثُها في أوروبا الوسطى، وفلاندرز، وشمال إيطاليا وإسبانيا، فهذه الحروب التي دارت بين البروتستانت والكاثوليك، دمّرت ونهبت ألمانيا بين عامَي 1618 و1648، إضافة إلى تشابكها مع الصراع القديم بين إسبانيا والمقاطعات المتحدة.

اقرأ أيضاً: لبنان على مائدة حرب مستمرة

وقد أشعلت هذه الحرب انتفاضة البروتستانت التشيكيين في بوهيميا ضدّ السياسة التمييزية لفرديناند الثاني، ملك هابسبورغ، حاكم الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة، وكانت الحادثة الشهيرة لإلقاء اثنين من ممثلي الإمبراطور من نوافذ القصر الملكي في براغ، التي أعقبها القمع الوحشي الذي يُذكرنا بما حدث بعد المظاهرات الأولى، التي تمّ التلاعب بها جزئياً، ضدّ السلطة في سوريا.

غلاف كتاب "التوحيد والسلطة والحرب"

دعم أعداء الإمبراطور كدعم أعداء الأسد

انتشر الصراع بسرعة إلى جميع أنحاء ألمانيا، وتميّز بهجمات وحشية لا توصف على كلا الجانبين، وكان حصيلة معركة مشتركة من الحروب الدينية، وكانت الإساءات عديدة، وحتى لو لم يتم تصويرها كذلك، فقد كانت مثل المذابح الطقوسية المروعة التي ارتكبها تنظيم داعش: التعذيب، الإبادة الجماعية للأبرياء، الاغتصاب والاغتيالات، ...إلخ، فالحلقات مثل نهب ماغديبرغ، أو الفظائع التي ارتكبت في بالاتينات، وفي فرانش كونتي، ظلت عالقة في العقول لعقود من الزمن، وبقيت في الذاكرة الجماعية لأكثر من قرن؛ إذ ظلت تغذي حلقة جهنمية من الانتقام والثأر، وقد أدّى الصراع إلى تدخل الدول الأجنبية: إسبانيا إلى جانب هابسبورغ النمساوية، الجناح المسلح للثورة اللالكاثوليكية المضادة، والدنمارك والسويد اللوثرية، وكذلك فرنسا الكاثوليكية إلى جانب الأمراء البروتستانت الألمان. ورغم قِتالها ضدّ الهوغونوتيين "Huguenots)"1) على أرضها، كانت فرنسا عالقة ومحصورة بين آل هابسبورغ مدريد، وآل هابسبورغ فيينا، ومن هنا الخيار الذي أملته السياسة الواقعية لريتشيليو، ومازارين، وقبل التدخل العسكري في النزاع؛ اكتفت فرنسا في البداية، بدعم أعداء الإمبراطور، دعماً مالياً، كما فعلت قطر والمملكة العربية السعودية لأعداء بشار الأسد.

تدخّل روسيا يعكس توازن القوى على الأرض

مرّت الحرب بثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى (1618-1620)، وتميّزت بانتصار القوات الإمبراطورية في معركة الجبل الأبيض، وقد شهدت سحق بوهيميا التي أصبحت مِلكية شخصية لهابسبورغ في فيينا.

تدخل فرنسا المباشر عكس توازن القوى على الأرض، مثل تدخل روسيا في سوريا، ومهّد لقوة إسبانيا وللإمبراطورية المقدسة

وشهدت المرحلة الثانية (1620-1635) التدخل المسلح من قبل الدنمارك والسويد لصالح المعسكر البروتستانتي، في حين أنّ إسبانيا شنت الحرب ضدّ المقاطعات المتحدة، ومن عام 1935 إلى 1948، تدخلت فرنسا عسكرياً في الصراع ضد القوات الإمبريالية، وأعلنت الحرب ضدّ إسبانيا التي هَزمت قواتِها في معركة روكروا (Rocroi) ((1643. هذا التدخل المباشر، مثله مثل تدخل روسيا في سوريا عام 2015، يعكس توازن القوى على الأرض، ومهّد لقوة إسبانيا والإمبراطورية المقدسة.

كانت العواقب السياسية والدينية للحرب عميقة في أوروبا

عواقب الحروب الدينية

كانت العواقب السياسية والدينية للحرب عميقة في أوروبا؛ فقد كرست مبدأ "cujus regio ejus religio" (هذا الأمير من هذا الدين)؛ الذي وضعته معاهدة "أوغسبورغ" (1555)، التي بموجبها يتبنى الأشخاص دين أميرهم، وكان هذا المبدأ قد أدى إلى التجانس الديني النسبي لدول أوروبا، والذي تجسّد في عمليات الترحيل، مثل ترحيل المسيحيين الفرنسيين (Huguenots) من فرنسا، بعد إلغاء مرسوم نانت، وهجرات السكان غير الأصليين؛ بل وحتى التطهير العرقي والديني.

اقرأ أيضاً: حرب اليمن: أين تذهب مليارات المساعدات؟

كرّست معاهدات وستفاليا، التي أنهت الحرب في 24 تشرين الأول (أكتوبر) 1648 التقسيم الديني لألمانيا، وتفتتها السياسي، وإضعاف قوة الإمبراطورية، كما أنهت الحرب بين إسبانيا والمحافظات المتحدة، منذ 80 عاماً، كما أفادت المعاهدات، بشكل خاص، فرنسا لويس الرابع عشر، الذي كرس تفوّقه لثلاثة أرباع قرن في أوروبا.

اقرأ أيضاً: العراق: آخر مجريات الحرب على داعش

وأخيراً؛ وضعت هذه المعاهدات مفهوم الدولة الحديثة، مستمتعة باحتكار القوة المسلحة على أراضيها، وامتلاكها لجيش وطني، ووضعت الأسس لنظام جديد للعلاقات الدولية، على أساس تعدد الدول ذات السيادة.

أخذت الصراعات بالعراق وسوريا واليمن أبعاداً سياسية وطائفية ومدنية ودولية

تشابه حرب الثلاثين بصراعات العراق وسوريا واليمن

كما في حرب الثلاثين عاماً؛ أخذت الصراعات في العراق وسوريا واليمن، على حدّ سواء، أبعاداً سياسية وطائفية ومدنية ودولية؛ فقد كانت مسرحاً للمواجهة المباشرة، أو بالوكالة، بين جيوش نظامية، وبين ميليشيات مرتزقة، وللتطهيرٍ العرقي أو الطائفي، والتهجير، وأسفرت عن مآس، وهذا هو الحال مع التروس التي قادت من الحرب العراقية - الإيرانية إلى الحرب الأهلية السنّية – الشيعيّة، والحرب ضدّ داعش، إلى الغزو الأمريكي الكارثي للعراق عام 2003، ومحاولة الانفصال الكردي الفاشل.

اقرأ أيضاً: العرب في الحرب العالمية الأولى

وهذه هي حالة الصراع السوري، الذي أصبح تدويله أكثر وضوحاً؛ بإدراجه في إرادة معارضي الحكومة السورية في كسر المحور الشيعي، الممتد من طهران إلى جنوب لبنان، عبر بغداد ودمشق، وسرعان ما تجاوز الصراع السوري الإطار المحلي.

تحالف رغم اختلاف أهداف الحرب

ومن هنا جاء تدخل إيران وحزب الله وروسيا لصالحه، والقوى المصمّمة على الإطاحة به إلى جانب المعارضة السنية (الولايات المتحدة، وفرنسا، وإنجلترا، وتركيا، والسعودية، وقطر)، حتى إن لم تكن أهداف الحرب متشابهة: مزيد من الجيوسياسات فيما يتعلق بالغرب، رغم إمداداته بالأسلحة للفصائل المسلحة، وصبغة طائفية ... .

كما في حرب الثلاثين عاماً؛ أخذت الصراعات في العراق وسوريا واليمن، أبعاداً سياسية وطائفية ومدنية ودولية

وأخيراً، وقبل كلّ شيء، دافع الرغبة في منع إنشاء كيانٍ كردي على جانب أنقرة، وبفضل التدخل الحاسم لروسيا، أفلتت سوريا من تفككها، المبرمَج، وهذا رغم الحفاظ على قوة أمريكية كردية شرق نهر الفرات، ومشكلة محافظة إدلب، التي ما تزال في أيدي فصائل مسلحة تحت سيطرةٍ تركية، وهذا الوضع قد يُنبئ على الأرجح بتقسيمها إلى مناطق نفوذ: أمريكي إلى الشرق، وتركي إلى الشمال، وروسي وإيراني في بقية أنحاء البلاد، رغم الطبيعة الظرفية للتحالف بين هذه القوى الثلاث.

عودة روسيا شبيهة بتفوق الفرنسيين

العراق، الذي توافقت مُكوّناته الثلاثة، الشيعة والسنّة والأكراد، على ما يبدو، قد أعيد توحيده، لكن، كما هو الحال في اليمن، الحرب مستمرّة في سوريا، حتى إن كانت نتائجها المواتية لدمشق وحلفائها ليست موضع شكّ، لكنّ كسب السلام سيكون أصعب من الفوز بالحرب.

اقرأ أيضاً: حرب الكنائس الأرثوذكسية.. ما هي أسبابها؟

وإذا كان تنظيم داعش قد هُزِم، فإنّ هذه الهزيمة لا تعني نهاية أيديولوجيته، ونهاية العداء بين الشيعة والسنّة؛ فعلى غرار ألمانيا عام 1648، يخرج العالم العربي أكثر ضعفاً، وأكثر انقساماً من أيّ وقت مضى ضدّ القوى الإقليمية التاريخية المتمثلة في إيران وتركيا، فتماماً كما أدّت حرب الثلاثين عاماً إلى تفوّق الفرنسيين، فإنّ الحرب في سوريا تشير إلى عودة روسيا إلى مشهد الشرق الأوسط، ونحن لا نرى تسويةً عالمية مثل تلك التي أقيمت في أوروبا بموجب معاهدات ويستفاليا، ولا "نظاماً جديداً" إقليمياً، كالذي أعدّته واشنطن.


المصدر: lesakerfrancophone.fr


الهوامش:

(1) الهوغونوتيون :هم أعضاء كنيسة فرنسا الإصلاحية البروتستانتية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، الذين تأثروا بكتابات جون كالفن في الربع الثاني من القرن السادس عشر، وأطلق عليهم لقب الهوغونوتيين عام  1560تقريباً.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية