فيلسوف الكسل ألبير قصيري.. يمجّد الخمول ويهجو الحداثة

فيلسوف الكسل ألبير قصيري.. يمجّد الخمول ويهجو الحداثة


16/09/2018

في إمارةٍ ما بالخليج العربي، أعطاها ألبير قصيري اسم "الدوفة" -وهي كلمة قريبة من اسم العاصمة القطرية "الدوحة"- صغيرة وقاحلة لكن هادئة وساكنة تماماً لأنه لم يظهر بها بترول كباقي ما حولها من إمارات، تدور أحداث رواية "طموح في الصحراء" وهي مرافعة أدبية تتحدى التحديث وضد وقوع البلدان التي حبتها الطبيعة بميزتي الجمال والهدوء فريسةً للتقدم المادي.

شخوص الرواية الأساسية تتبنى، من أعمق نقطة في وجدانها، تحدي هذا الأسر إلى أقصى مدى، وتنخرط في مواجهة التحديث، بلا هوادة، بكل الأسلحة الممكنة التي تشمل الكسل والخمول ورفض الخضوع لنفوذ القوى الكبرى أو السلطة السياسية، كما تشمل السخرية، وهي في نظر قصيري سلاح الضعفاء، المهمّشين، ضد الحكام الطواغيت وضد المجتمع الموبوء بالفساد وبلادة الحس.

تعتبر رواية "طموح في الصحراء" مرافعة أدبية تتحدى التحديث

صعاليك أبداً

ألبير قصيري، الروائي المصري الفرانكفوني الذي عاش في غرفة بفندق لا لويزيان بشارع السين في الحي السادس الباريسي لمدة 63 عاماً بلا انقطاع، كمُتبطل بالوراثة، يراقب الناس والكائنات والأشياء من حوله، حتى صار من فلاسفة الكسل، والإنسان الكسول برأيه هو وحده الذي يمتلك الوقت للتأمل في الحياة والكلام عنها دون أن يعبأ بالوقت، على عكس أسرى الحداثة الذين يلهثون كـ "ثيران مطيعة" في ساقية العمل ويدورون مدة حياتهم القصيرة وراء أوهام حيازة المال والشراء والتملك.

اقرأ ايضاً: الروائي إبراهيم نصرالله يحصد جائزة البوكر... فلسطينياً

وأعماله بلا استثناء، سواء تلك التي كتبها عن القاهرة وهي أغلبها، أو روايته الوحيدة عن الخليج العربي (طموح في الصحراء)، يسكنها هذا الولع بالكسل والخمول، وأبطاله صورة منه كما قال يوماً: "شخصياتي هي أنا، تفكر مثلي". إنهم كسالى من طراز فريد، يقاومون جرائم الطموح جميعها ويدبجون مقولات ساخرة منها. هم ساخرون لكن أحرار. يفتقدون إلى التأثير في محيطهم السياسي والاجتماعي لكنهم يدافعون بشراسة عن كرامة الإنسانية التي يسحقها العمل المأجور وأوهام التحديث، بلا رأفة.

عن ثورةٍ حمقاء

تضم إمارة الدوفة ميناءً يطل على الخليج ويخلو من السفن الكبيرة وناقلات النفط العملاقة، خلفه صحراء مترامية تخترقها عدة مناطق سكنية فقيرة وحي واحد على الطراز الحديث بناه الباحثون عن البترول (المادة الحيويّة لإبادة الجنس البشري برمته) وتركوه حين خيّبت الطبيعة أملهم، كأطلال حداثية تثير الرثاء والتشفي بوقوفها كدليل مادي على الخسارة المُهِينة التي تكبدها عدو كريه.

تكشف "طموح في الصحراء" عن الجمود الاجتماعي والاقتصادي والنفسي للجماهير التي تبدو وقد انغمست في حالة تبلد كلي

والزمان هو السبعينيات، أو ما بعد الاستقلال الرسمي لشبه الجزيرة العربية من الاحتلال الأجنبي، وتغلغل الإمبريالية الأمريكية في مسام الاقتصاد والسياسة بالمنطقة، ومحاولة تحطيم نفوذها هو المهمة العظيمة التي يضلع بها بن كادم، رئيس وزراء الإمارة الفقيرة وصاحب الطموح السياسي الكبير في أن يُخضع شبه الجزيرة لإمرته ويطرد الإمبرياليين، ويخطط لثورة تنجز ذلك في الخفاء عبر تنفيذ سلسلة من الانفجارات في المدينة، أَمِل أن تحرِّك شعبه ومن ثّم يُدحرِج كرة الثلج الثورية إلى الشعوب المجاورة فيلتفون حول ثورته، وفي سبيل ذلك كان عليه أن يستعين بابن عمه سامانتار الضليع في السياسة الخارجية لأخذ النصيحة منه.

وسامانتار هو الشخصية المحورية في الرواية، يعيش في بيت يظلله النخل ويطل على الخليج في صحراء مسكونٌ بهدوئها ومتيم بسكينتها، ولديه استعداد لقتال العالم أجمع إذا ما هدد تلك السكينة، ويتمنى أن تعيش الإمارة تحت ظلالها ولو كانت في فقر مدقع وقاسٍ، وقد جعل احتقاره للطموح وعشقه لحرية بلده وذكائه الحاد وتأمله الوافر في الحياة، منه، الملهم الوحيد لابن عمه رئيس الوزراء.

اقرأ ايضاً: إعلان القائمة الطويلة لجائزة البوكر للرواية 2018

الانفجارات، التي نفذها ابن عمه رئيس الوزراء بواسطة ثوريين محترفين، هددت استقرار عالمه، فظل يبحث طوال أحداث الرواية عمن يكون وراءها مع الاستعانة بصديق عمره المغني هشام. ولما كان الهدف من استعمال القنابل المصنوعة يدوياً مرتبطاً بالأساس بإحداث الإثارة وليس إسقاط ضحايا وصناعة مأساة، فقد زادت حيرة سامانتار الذي لم يتمكن من تحديد هذه النوعية من الثوار الساعين لعمل ثورة في أرض مقفرة وجدباء تماماً وبلا سلطة مركزية تشجع على إثارة الشعور بغياب الحرية، وبلا موارد يمكن تقاسمها عبر تصعيد مطالب اجتماعية بصددها، ولا مصادر بترولية تجتذب وحوش الشركات الأجنبية، وهذا هو الجانب المضيء للحياة في الإمارة.

الفقر ونعيمه

التفكير في لغز التفجيرات وتقليب حقائب الذاكرة عمن يمكن أن يقعوا فريسةً لمثالية بائسة أو يشاركوا في عمل ثوري بغرض التسلية، حرم سامانتار من الانخراط في مباهج المعيشة مع عشيقته "جوهرة" وهي طالبة وسليلة عائلة محترمة ترتبط بعلاقة به دون علم أهلها؛ فالأحداث الأخيرة فاجأته على حين غرة، وهو المراقب الحصيف لكل ما يدور حوله والمُنصت الماهر لكل الإشاعات المنتشرة من قبل من لا يتورعون عن النمائم ونشر أسرار الآخرين في المقاهي. وقد كان يظن أنه لا يمكن لحركة مخربة أن تنمو في الإمارة دون علمه حتى لو اتخذت كل الاحتياطات اللازمة، لكن ذلك قد حدث.

ما كان لحيرته إلا أن تزداد كثافةً؛ فالناقمون على النظام نأوا بأنفسهم منذ زمن عن الانخراط في أية حركة عنيفة لا يمكن أن تفيد إمارة مزرية وستحطم الشيء الوحيد الذي تمتلكه بفضل البؤس نفسه: السلام الذي يريده سامانتار ويريدونه، واقتصاد فقير إلى هذا الحد يغري أعتى المجرمين للاستسلام للعوز، والقوة الإمبريالية الكبرى التي تبسط نفوذها السياسي على الخليج بأكمله استثنت هذا الجزء المعدم من استراتيجياتها منذ تيقنها أنّ أرضها ليس بها قطرة بترول، ومن ثمّ لا يمكن تفسير التفجيرات على أنها مؤامرة إمبريالية.

فقد آمن سامانتار أنّ فقر إمارته يمثل حماية لها من أطماع لا تُقهر لأرواح لا تنتظر إلا أن تجد في بلدٍ ما منفعة لكي تهم بغزوه وتقسيمه وإفساده، لذا يشكر السماء على أنه ولد على أرض صحراوية متجردة من كل المواد الأولية، أرض منفرة بما فيه الكفاية لكي تُثبط كل الأرواح التجارية الشرهة.

تدور أحداث رواية ألبير قصيري "طموح في الصحراء" في إمارة أسماها الدوفة

وبالنسبة إليه فإنّ فقراً يوفر سلاماً وسكنية أفضل من أي تقدم يوفر متع الحياة الحديثة المستوردة من الغرب؛ فكل تقدم هو تجسيد لـ "الخداع العالمي" الذي يستعبد من يؤمنون به، لذا فهو لا يتورع عن إظهار احتقاره الشامل لكل المؤسسات التي عرفها العالم، ومستعد لأن يقف بكل ما أوتي من صلابة ضد أي تفجير سياسي للوضع، كي يقي إمارته سالمة وحرة غير خاضعة لأية ترتيبات اخترعها الأقوياء كي يستنزفوا بها البشر ويصادرون على حريتهم وحياتهم بالتبعية.

أخلاقيات النبالة المُهدرة

لم يمتهن سامانتار عملاً في حياته؛ والمهنة في لغة العرب الأقحاح مأخوذة من امتهان النفس لكسب العيش؛ يحتاج الإنسان لروح ذليلة كي يعتنق عقيدة العمل في أخلاقيّات الرأسماليّة، وروح حقيرة كي يُربّي في داخله طموحاً من أي نوع في عالم غبي يستنزف نفسه بإصرار كي يحقق غاياتٍ فيها نهايته.

اقرأ أيضاً: أبو العلاء المعري يواجه أعداء الحرية والعقل والإنسان

لم يكن يتصور أن يكدح ويتألم في مصنع مُعتم بشكل يُثير الشفقة، وينام في مسكن قذر كقِنْ عصري، أو أن يُدجَّن في وظيفة روتينية بائسة ويستيقظ في موعد ثابت يذّكره به "المنبه"، أكثر الاختراعات خبثاً على مدار التاريخ البشري، من أجل مرتب تافه، وهو البدوي المعبأ بالكبرياء والمُتّوج بالنبالة، الذي نشأ على الانطلاق في آفاق لا حدود لها، والاستيقاظ المريح تحت الخيمة: الصحراء مملكته الخاصة والسماء سقفه الوحيد، وليس هناك تعويض عادل للتضحية بذلك مهما بلغت قيمة الرشوة.

فلسفة الهامش القصيريّة، كما يجسدها سامانتار، تستند على حقيقة بسيطة: يجب مكافحة محاولات الانخراط في نظام السوق ومقاومة تسليع البشر والقتال للحفاظ على الكرامة الإنسانية: الأكثر جدارة بتنافس البشر على حمايتها، بدلاً من التناحر على الفوز برضا الأسياد (أحقر عصابة أوغاد دنست حتى الآن كوكب الأرض) بتعبير قصيري، وعلى هذا الأساس سيكون رفض أخذ العالم بجدية أكثر أشكال المقاومة نجاعةً؛ فهم لا يحلمون بأكثر من أخذ الناس عالمَهم بجدية.

ومحاولة خلق عالم بديل جديرة بالازدراء الكلي أيضاً، فهي تعتمد على خلق سلطة مضادة، وأيديولوجيا مضادة ومن ثّم تديم حجج "الخداع العالمي" ولن يكون هناك حل للمأساة البشرية، التي يدور حولها التاريخ كله، إلا برفض الخطاب السياسي واحتقاره واللجوء إلى الهامش والتفاهة والمناورات الصغيرة لتحقيق المتع البسيطة والسخرية، وإلا سيظل الخضوع للمؤسسات الراسخة وللزيف المهيب السائد، قائماً.

فلسفة الهامش لدى ألبير قصيري تستند على حقيقة بسيطة: يجب مكافحة محاولات الانخراط في نظام السوق ومقاومة تسليع البشر

رهان التحديث هو الكارثة في أوضح تجلياتها، وأن تحافظ على بقعة نقيّة من الصحراء (كما يسعى سامانتار) بعيداً عن موجات تدميرية عانت منها قارات بأكملها هو أكثر الأشياء قداسة على وجه الأرض؛ فالطبيعة في معظم بلاد المعمورة أضحت ذكرى لا تُستدعى إلا في أيام الراحة المعدودة.

كان سامانتار يدافع عن مفهوم للحياة لم يستوعبه أغلب البشر؛ وكان مُحصناً تماماً من الخداع القتّال الذي أرسى مبادئه المستعمرون الأوائل أثناء سعيهم لتخليد نهبهم وإدامته عبر إفساد شعوبٍ سليمة الطوية بعقيدة الاستهلاك، وتمثيل دور أولياء نعم الأمم غير المتطورة لسرقتها بشكل ماكر ومهذّب.

تمرد وبلادة

منظمة غامضة أطلقت على نفسها "قوة تحرير الخليج" تبنت التفجيرات ووزعت منشورات سيئة الطباعة وذات لغة ثورية عفا عليها الزمن مما يعطي انطباعاً بأنّ أعضاءها على حداثة عهد بالأفكار الثورية، إلى درجة أنه لولا أن تلك المجموعة تهدد عالم سامانتار الهادئ لكان انفجر ضحكاً من نثرها السياسي ذي الطابع الملحمي والركيك.

لم يعر سامانتار التفجيرات انتباهاً في البداية على اعتبار أن هناك دائماً ثُلّة من البشر تكره السلام وتتمنى ثورة حمقاء، آملاً بأن يصيبهم الإعياء جراء عمل بالغ المشقة كتصميم ثورة، فتتوقف عجلة العنف عديم الفائدة والتافه، لكن ظنه، بأنّ وراء تفجيرات الإمارة ثوريين هواة وستنتهي حتماً، قد خاب واستمرت التفجيرات واتسعت نطاقاتها، وأثارت سخرية الدهماء المتعطشين للابتهاج حتى ولو كان دموياً، لكنهم لم يتفاعلوا معها إطلاقاً كما أَمِلَ بن كادم.

اقرأ أيضاً: غسّان كنفاني.. رواية لم تكتمل

"طموح في الصحراء" تكشف إلى أبعد حد عن الجمود الاجتماعي والاقتصادي والنفسي للجماهير التي تبدو وقد انغمست في حالة تبلد كلي وقد سحقها بؤس مضنٍ إلى حد أنّ إعلان أي فكرة مهما كانت أهميتها وتدشين أي ثورة مهما كانت جاذبيتها يتجاوزان قدرتها على الاستيعاب والتفهم والمشاركة ويعجزان عن تبديد جنوحها الأبدي للصمت والسلام، كما يذهب استبصار باسم شاهين بصدد أدب ألبير قصيري في كتابه "ألبير قصيري: التهميش إجابة على الحداثة".

في القلب من ذاك الجمود المُنفِّر تشتعل الرغبة في التمرد، كما يجسدها هشام المغني وهو راديكالي حقيقي، روحٌ حُرّة، متمرد على طريقته، فنان متعلق بالعمال ومُلهم بعمق، يسكن وابنته في بيتٍ بزقاق ضيق بالجزء القديم من المدينة ناحية الميناء وعماله الكسالى والبؤساء والصعاليك حتى النخاع والذين يحبون هشام ويسكرون من أغانيه ويلتفون حوله كملاك حارس، وهو إذ يتحمس لمعرفة المسؤولين عن انفجارات المدينة يعاني انقساماً داخلياً مؤلماً وبلا حل.

لكن رغبة هشام الحارقة في التمرد لا تقف، فقط، على النقيض من رغبته في سلام الإمارة وحمايتها من التدخل الإمبريالي للقضاء على ثورة محتمل أن تهدد مصالحها، بل هي مجهضة تماماً؛ فالشعب لم يصنع ثورة لكن الحاكم أراد اختلاق واحدة لم تجتذب أي جماهير.

اقرأ أيضاً: "سارة" عبّاس محمود العقاد: رواية الفتنة والغموض والأسرار

تنتهي الأحداث بمحاولة تفجير محيي، وهو ابن رئيس الوزراء الذي لم يعترف به وتركه لأمه كي تعتني به، قصرَ رئيس الوزراء نفسه، كان محيي ثائراً حقيقياً ينتظر إشارة كي يهدم كل مباني المدينة التي توحي بالثراء، لم يلتزم بتفجير البنايات التي حددتها اللجنة الثورية لتكون هدفاً للاعتداءات، ونفذ انشقاقاً عن رئيسه في الخلية الثورية شحات.

وشحات (صديق سامانتار) صعلوك بحق، متهكم دائماً، ولا يأخذ شيئاً في الحياة بجدية سوى الهزل، ويؤمن بأنّ أكبر إهانة يمكن أن تُوجه إلى الذكاء البشري هو أخذ هذا العالم المثير للسخرية على محمل الجد، كان يصنع القنابل كتجربة مثيرة تستدعي المغامرة، وهو اللغز الذي طالما سعى سامانتار لحله، بينما كشفه طارق المجنون المزيف ليبني على أنقاض الثورة المحدودة ثورة مضادة حقيقية جداً وليست تحت السيطرة كما كان بن كادم يأمل، فشرارة الثورة المزيفة التي أشعلها خرجت عن سيطرته وكسرته، مثلما كسرت طموحه السياسي الكبير.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية