فيلم "رايا والتنين الأخير".. أمل في وجه الكراهية

فيلم "رايا والتنين الأخير".. أمل في وجه الكراهية


13/09/2021

يتم اليوم استثمار عالمي لخطاب الكراهيّة على نطاقٍ غير مسبوق، ما دفع ويدفع الكثير من المجتمعات إلى تشريع قوانين تجرّم هذا الخطاب كونه يقوم على التمييز والإقصاء، بالاستناد إلى العرق أو الدين أو الثقافة أو الجنس أو أي شكل من أشكال الهوية؛ حيث اعتبرت هذه المجتمعات خطابَ الكراهيّة تحريضاً فرديّاً أو جماعيّاً اتجاه فرد أو جماعة، يهدف إلى تعبئة الجمهور أو الرأي العام ضدَّهم، ممّا يشرّع أبواب العنف ويسهّل وقوعه.

ولكن ما يغيب عن بال المشرّعين أنّ القوانين وإن كانت تحدّ من الجرائم ولكنها لا تمنع حدوثها، فما قد يمنع العنف ليس الخوف من القوانين، بل الإحساس بالوفرة والعدالة، على الأقل هذا ما يقوله فيلم الأنيميشن "رايا والتنين الأخير"، الذي صدر هذا العام، حيث يمكن من خلاله تقّصي الجذور التي تغذي خطاب الكراهية، وكشف الحُجب أمام الطريق المفضي إلى "كوماندرا".

في هذا الفيلم كما في الواقع الكل يشعر بالريبة والتهديد ما يجعل العنف مبرراً

 "كوماندرا" أرض السلام، هي ما كانت الأرض عليه، كما يروي الفيلم، عندما كانت القبائل الخمس مزدهرة، وكان الناس يعيشون في وئامٍ مع التنانين جالبة المطر والسلام، كانت الحياة جنةً، ولكن بعد ذلك جاء "الدرون"، وهُم وباءٌ فتاكٌ ينتشر كالنار في الهشيم، ويتكاثرون كلما أكلوا الحياة، محوّلين كلّ من يلمسوه إلى حجر، قاتلت التنانين من أجل البشر بكل ما ملكت من قوة، لكنّ هذا لم يكن كافياً، جمعوا سحرهم في جوهرة وسلموها لـ "سيسو" آخر تنينة بعدما تحول جميع التنانين إلى حجر، واستطاعت بجوهرتها سحق الدرون، وأعادت إلى الحياة كل من تحوّل إلى حجر ما عدا التنانين.

 "كان يجب أن تكون هذه لحظة ملهمة، يتحد فيها البشر تقديراً لتضحية التنانين، ولكن بدلاً من ذلك أخذ البشر يقاتلون بعضهم الآخر من أجل الاستحواذ على آخر ما تبقى من سحر التنانين وهو الجوهرة"، التي تحطمت بسبب تنازعهم عليها واستولت كل قبيلة على جزءٍ منها، هذا الجزء الذي كانوا يبتغون منه السلام جلب لهم الخوف، فرسم الحدود وقُسّم كوماندرا ، وأصبح الجميع أعداء، وكلٌّ من جهته يحرس خوفه من الآخر بعنايةٍ فائقة.

اقرأ أيضاً: الكراهية والانتقام أحد أسرار التوريث الإخواني

تُمثّل التنانين في هذه الحكاية قوى الحياة والازدهار، حيث ارتبطت قوتها بالقوى الفاعلة للوجود البشري لا العكس، لهذا كانت إجابة التنين الأخير (سيسو) على سؤال "من هم الدرون؟ بأنهم طاعون وُلد من فتنة البشر، لطالما كانوا هنا ينتظرون لحظة ضعفٍ لينقضّوا، إنهم عكس التنانين، بدلاً من جلب الماء والحياة إلى العالم، إنهم مثل نارٍ لا هوادة فيها، تستهلك كل شيء في طريقها، حتى لا يتبقى شيء سوى الرماد والحجر". إنّ الدرون هي القوى الشريرة الناتجة عن طمع وجشع الجميع المتمثل في رغبتهم بالاستحواذ والتملك، لقد نتجت الدرون من انعدام التواصل مع الآخر وانعدام الثقة به، بالمحصلة ما أوجد الدرون هو خطاب الكراهية الذي مارسه الجميع ضد الجميع.

اقرأ أيضاً: الحبّ في التاريخ الإسلامي شاهد ضد التشدد والكراهية

إنّ ما يشكل خطاب الكراهية، هو انحسار الوعي وتقليصه إلى الحدود التي تُبقي الآخر بعيداً ومسجوناً في تصوراتنا، وتحديداً عندما يتم بناء صورةٍ نمطيّة ونهائية عنه، فليس هذا الخطاب سوى اختزال شامل للفرد أو الجماعة، ومنحه أو منحهم هوية مطلقة، يعززها باستمرار سوء الفهم والتفاصل الاجتماعي، فما يحدث وما نعايشه في العالم الواقعي مثلته القبائل الخمس في تفاصلها وتشكل الصور النمطية عن بعضها البعض، "تيل" صحراء شديدة القسوة مليئة بالمرتزقة المتسترين الذين يقاتلون بشراسة، "تالون" سوق عائم يشتهر بالصفقات السريعة والمقاتلين البارعين، "سباين" غابة الخيزران المتجمدة التي يحرسها محاربون ضخام استثنائيون بفؤوسهم العملاقة، "فانغ" أمّة يحميها قتلة غاضبون وحتى قططهم الغاضبة، وأخيراً "هارت" المؤتمنة على جوهرة التنين، ولكنها قلبٌ لجمت قواه تفكك كوماندرا.

اقرأ أيضاً: لماذا لا ننجح في مواجهة الكراهية والتطرف؟

في هذا الفيلم كما في الواقع الكل يشعر بالريبة والتهديد ما يجعل العنف مبرراً، ففي عالمٍ يسوده القتلة يجب أن تكون قاتلاً، لتحظى بالبقاء، ولكن ماذا لو كان التفكير بمنطق: إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب، خاطئاً من أساسه؟ نحن نرى أنّ المشكلة تتشابك خيوطها وتزداد تعقيداً في كل مرةٍ نذهب فيها اتجاه العنف، ألا يدفعنا هذا للتفكير بالاتجاه الآخر؟ فحين بدأت رايا رحلتها للبحث عن التنين الأخير "سيسو" لاستعادة والدها الذي حوّله الدرون إلى حجر، تمكنت من بناء صداقات مع القبائل الأخرى، وبدأت تنزاح حجب الكراهيّة عن قلبها، لتكتشف أنّ الآخرين الذين تكنّ لهم الكراهية يمتلكون الهدف ذاته، فالأيدي التي مُدّت لمساعدتها في رحلتها للبحث عن أجزاء الجوهرة، ساعدتها أيضاً في استعادة ثقتها وتجفيف منابع غضبها.  

 "إذا لم نتوقف ونتعلم أن نثق ببعضنا البعض مرةً أخرى، فإنّ تدمير بعضنا البعض سيكون مجرد مسألة وقت"، "أجل العالم محطم لا يمكنك الوثوق بأيّ أحد يا سيسو/ أو ربما العالم محطم لأنك لا تثقين بأيّ أحد يا رايا/ انظري حولك نحن عالمٌ من الأيتام لأنّ الناس لم يستطيعوا التوقف عن القتال من أجل جوهرة/ سأُثبت لك أنك مخطئة/ كيف؟ من خلال سحقك من قبل السكان الغاضبين؟/ كلا من خلال الإثبات لك أنه إذا كنت تريدين الحصول على ثقة شخص ما، عليك أن تمنحي القليل من الثقة أولاً". يتكشّف هذا الحوار بين شخوص الفيلم عن أهميّة الجانب العقلاني في استعادة التواصل؛ إذ تعود إليه مهمة تجفيف خطاب الكراهيّة، وإعادة المنطق إلى العلاقات البشرية، فإذا أصبح الخطأ هو الأقوى فهذا لا يعني أنه أصبحَ صحيحاً.

  ما يشكل خطاب الكراهيّة انحسار الوعي وتقليصه إلى الحدود التي تُبقي الآخر بعيداً ومسجوناً في تصوراتنا

فخطاب الكراهيّة الذي يستند إلى تغييب الجوانب العقلانيّة وإثارة الغرائز والإعلاء من شأنها، وفيما يتفق الجميع على إدانته لكنّه يتبدى اليوم كقاعدة عامّة تبني المجتمعات البشريّة قرارتها بناءً عليها، وما لم يٌفهم ذلك على أنه خطأ فادح بحق وجودنا الفريد في هذا الكون، فالكل سيدفع ثمن الحياة في مقبرةٍ تفرَخ الموت، نحن نعيش في عالمٍ يحتضر، ويحلل ويتوقع ويعلن الكثير من جهابذته موعد وكيفيّة احتضاره، ومع ذلك مازلنا مستمرين في ممارسة الكراهية التي ندينها، ونلمسها في الجميع.

 رايا والتنين الأخير، هذا الفيلم الذي ينتمي لجغرافيا بشرية بعيدة في أقصى جنوب شرق آسيا، نتشارك مع شخوصه بجغرافيا نفسيّة واحدة وإن اختلفت الرموز أو اختلفت دلالاتها، فالتنين الأخير هو جوهر إنسانيتنا التي تقوم على الثقة والتعاون والمحبّة، والتي تنجم عن الوفرة، ممّا يعني أنه لا ينبغي أن نختصم على شيء، فالخصام الذي ولّد الدرون، سيجعل من الجميع حجارةً، "الأمر لا يتعلق بسحر الجوهرة يتعلق بالثقة، لنثق في بعضنا البعض ونصلح هذا، لكن علينا أن نتعاون"، "لدينا خياران إما أن نمزق بعضنا البعض أو نجتمع ونبني عالماً أفضل، لم يفت الأوان بعد، ما زلت أعتقد أننا يمكن أن نكون كوماندرا مرةً أخرى".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية