فيلم "The Lobster": هناك أسوأ من أن تكون وحيداً

فيلم "The Lobster": هناك أسوأ من أن تكون وحيداً


02/07/2019

ليس طبيعياً ما قدّمه المخرج اليوناني المرموق، يورغوس لانثيموس، عام ٢٠١٦، في فيلم "The "Lobster من إبداع وخلق عالم هائم في قراءة ما وراء المجتمع والنفس والذات، فيما يتعلّق بمسألة الارتباط.
نحن أمام صيغة غامضة جداً من مجتمع يبدو، للوهلةِ الأولى، غريباً ودخيلاً علينا، لكنّه، عند التأمّل في جوهره، قريبٌ جداً منّا، إنّه نحن، لكن نحن المضمرة والسفليّة جداً.

اقرأ أيضاً: "الممر" فيلم مغامرات تقليدي أم علامة بارزة في السينما المصرية؟
قام الممثّل (Colin Farrell) بدور البطل في هذا الفيلم (البطل الذي سيستمرّ مع فيلم لانثيموس التالي لهذا، أي "مقتل غزال مقدّس" الذي، بحسبه في مقابلة جميلة أُجريت معه عقب الفيلم، قال فيها: "إنّه لم يكن يعرف ما يدور في خَلد لانثيموس"، لقد كان، كما يقول، يمثّل عالماً لا يعرفُ النتيجة من ورائه تماماً، لقد سلّم نفسه للانثيموس للعب هذا الدور.

"الإنسان المُجبر على الارتباط" هو ما يسيطر على هذا العمل البديع
كان الفيلم العنيف رمزيّاً جداً، العنف آتٍ من كونه يفضحنا عن بكرة أبينا، يمثّل ديفيد مجتمعاً لا وجود لـ (Single) فيه، اختار لانثيموس قوّة المجتمع هنا كتمثيل أقصى لفكرة "التجانس"؛ أي لا بدّ من أن نكون متجانسين، كلّ ذكر يأخذ أنثى مشابهةً له في الصّفات، وبالتالي نخلق مجتمعاً موحّداً (نحنُ نعلم أنّ فكرة المجتمع المتجانس هي فكرة العنف في أقصى صورة له)، وبالتالي، مَن يفشلُ في الارتباط (لا في الحبّ؛ فالحبّ، كما سيتبيّن في الفيلم، وسأوضّحه لاحقاً، هو ضدّ المجتمع (anti- society) المُجنَّس)، عليه أن يكون نزيلاً في فندق لأربعين يوماً ويختار من الموجودين فيه؛ الحازمين بشكلٍ هستيريّ، والمنضبطن انضباطاً لم يتخيّل فوكو يوماً أن تصنعه الدولةُ برعاياها، وإلّا تحوّل إلى حيوان.

يرسم الفيلم فعلاً إنساناً لا إنسانيّاً بامتياز فديفيد رجل بملامح غير بشريّة لا يضحك ولا يبكي

يرسم الفيلم فعلاً "إنساناً لا إنسانيّاً" بامتياز. ديفيد رجلٌ، بملامح غير بشريّة لا يضحك ولا يبكي، تتركه امرأة في مدينة قائمة على فكرة الأسرة المتجانسة من ذكرٍ وأنثى متشابهين؛ بل يمكن القول متطابقين، إلى حدّ التماهي، في تلك المدينة، لا خيار لك أن تبقى وحيداً؛ أي (Single).
يصور الفيلم المدينة كنوع من الاستقاميّة الجنسيّة والمعيشيّة، خيار أن تكون وحيداً يعني الزجّ بك في فندق، هو شبيه بالسجن، وعليك خلال خمسة وأربعين يوماً أن تختار أنثى متطابقةً معك، لتتزوجا وتعودا إلى المدينة، بعد أن يتأكّد الإداريّون في الفندق من عدم وجود خلافات بينكما، أو أن تتحوّل إلى حيوان، أنت من تختاره.

اقرأ أيضاً: لماذا يُتهم فيلم "الآباء والأبناء" بالانحياز إلى النظام السوري؟
بعد أن تشرح مديرة الفندق التعاليم القاسية للبطل، تسأله: "لو فشلتَ، ما الحيوان الذي تودّ أن تصيره؟". يجيب: "السلطعون"، "لماذا؟"، تسأله مديرة الفندق، "لأنّه يعيش أكبر قدر ممكن".

الارتباط...أو الموت
"الإنسان المُجبر على الارتباط" هو ما يسيطر على هذا العمل البديع، يبدو أنّ استحضار كافكا مهمّ في هذا العمل. فأخو البطل، الذي فشل في اختيار شريك، تحوّل إلى كلب، ويتجوّل به ديفيد، بطل الفيلم، كلّ المشاهد؛ إلى أن يتعرّف على شبيهةٍ به، أنثى لا يعتريها أيّ شعور إنسانيّ بتاتاً لدرجة أنها اصطنعت الموت أمامه في حمّام السباحة شَرَقَاً، ولم يتحرّك له ساكن لإنقاذها، حينها قرّرت الارتباط به. وإمعاناً، بعد الزواج، في اختبار لا إنسانيّته، أو كونه مسخاً بالأحرى.. تصحو في صباح باكر لتقتل أخاه (الكلب)، لتختبر مشاعره نحوه، وعندما يبكي ويقول لها: "ليست دموعاً إنها من الماء"، تجرّه إلى إدارة الفندق لأنّه خانها، إنّه يبكي، ويتألم؛ أي لديه مشاعر.

شبحُ الوحدة مضاعف سواء من الذات أو من المجتمع وهو بالضبط ما سعى الفيلمُ إلى استشفافه

في محاولة هروبه منها، يقتلها، ويهرب إلى خارج الفندق، ليصل إلى الغابة التي يجد فيها مجتمعاً موازياً ممّا يمكن تسميتهم بـ "الطهوريين"، تلك الغابة التي تتسلّط عليها امرأة أيضاً تملي التعاليم المتعلّقة بالبقاء إلى الأبد صامتاً، بلا حبّ، ومن يحب، أو يمارس شهوةً يُقتل، فالكلّ يحفرُ قبره بيده، وفي فترة بقاء ديفيد في الغابة، يحبّ فتاةً، مما يجعل سيّدة الغابة تأخذها إلى طبيبة لتذهب ببصرها في مشهدٍ مؤلم وعنيف، وفي النهاية، يهرب معها ديفيد إلى مطعم في المدينة، ليفقأ عينه بيديه، وينتهي الفيلم بهذا المشهد المفتوح والقاسي.
حاول لانثيموس بذكاء توصيف نوعين من المجتمعات نحياهما طوال الوقت: مجتمع الفندق كمجتمع تمارسه الأسرة (ولكن في شكل أقصى)؛ أي عليك أن تتزوج بأيّ ثمن، لا يجب أن تبقى وحيداً، فهذا يعني كونك لست بشراً (أخذها لانثيموس إلى أقصاها وجعل الإنسان يختار أن يُقلب إلى حيوان)، أما المجتمع الثاني؛ فهو مجتمع "الطهوريين"، وهو مجتمع قلبَ رقابته وسيطرته، مستعيراً الأدوات نفسها من المجتمع الأوّل.

اقرأ أيضاً: فيلم "كتاب أخضر": صورتنا في مرآة العنصرية
والحال أنّ ثيمة الفيلم هي كشف السلطة وتعريتها وتوضيحها، وأيضاً مقاومتها، السّلطة مضاعفة في هذا الفيلم، يسعى لانثيموس إلى إخبارنا أنّ حتى "مقاومي السّلطة"، وفي تلك الحال هم جماعة الغابة، هم أيضاً واقعون في سلطةٍ مضادّة. فإذاً، هناك سلطة المدينة المعياريّة، والفندق، والغابة. فهل ينتصر الحبّ على السّلطة؟

التضحية قد تكون أن تفقأ عينيك لتكون كالحبيبة

ألّا نكون وحيدين بأيّ ثمن
في مقابلة سبقت الإشارة إليها مع البطل، أشار إلى فكرة غاية في الذكاء، يبتعدُ بالفيلم عن أيّ مضمون فكريّ أو أيديولوجيّ، إنّه يقول ببساطة: إنّ الفيلم لا يدور سوى على فكرة الوحدة، والوحدة لا شيء غيرها.

فاريل: هناك أسوأ من أن تكون وحيداً هو الإجبار على الارتباط، فكرة السلطة التي رسمت مجتمعاً متجانساً علينا مواكبته

ألا نبقى "single" بأيّ ثمن، هذا ما يقدّمه الفيلم؛ فنحن نقوم بأيّ شيء حتى لا نبقى وحيدين، شبحُ الوحدة هذا مضاعف، سواء من الذات أو من المجتمع الذي يخصّ على اللاوحدة، هو بالضبط ما سعى الفيلمُ إلى استشفافه.
لكن "هناك ما هو أسوأ من أن نكون وحيدين"، يقول البطلُ في المقابلة معه، ويبدو أنّ هذا "الأسوأ" هو الإجبار على الارتباط، فكرة السلطة التي رسمت مجتمعاً متجانساً علينا أن نواكبه لنشعر بالانتماء ونشوة الجماعة وعدم الخروج عن النّسق.
من الطريف؛ أنّ الفيلم يعرضُ أيضاً أننا نختارُ الارتباط على الوحدة، حتى على حساب ألا نكون، فما يجبُ أن يكون من الارتباط ثمنه التضحية بنا أيضاً.
تأويلان
في الحقيقة؛ يمكن تأويل الفيلم تأويليْن محتمليْن: تأويل سورياليّ بنهاية البطل، والفتاة المحبوبة التي أُفقدت البصر، وتأويل يسعى لإنتاج معنى متعلّق بمقاومة السلطة، والهرب، حتى ولو كانت بفقء العين. يتناصّ هذا بذهني مع المشهد الأخير للفتاة في فيلم لانثيموس السابق "ناب الكلب"؛ إذ تكسر نابها للهرب.

اقرأ أيضاً: فيلم "أولاد الفقراء".. عندما بشّر يوسف وهبي بثورة البسطاء
في هذا العمل، يكون فقء العين، هو نوعٌ من التضامن مع الحبيبة، لكن هناك سؤال مهمّ: أليس بفقئه عينه مثلاً هو نوع من الخضوع لسلطة المدينة التي لا تقبل إلّا بالمتماثلين؟
بيد أنّ هناك نوعاً من الالتفاتة إلى فكرة التضحية، لا بدّ من التضحية في سبيل أيّ ارتباط أو أيّ حبّ، حتى ولو عن قناعة، هذه التضحية قد تكون أن تفقأ عينيك لتكون كالحبيبة، هاربَيْن من المدينة، إلى أشباح العمى، خوفاً من الوحدة، ولو بأيّ ثمن.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية