في التفسير العقلاني للنبوة والمعجزات

في التفسير العقلاني للنبوة والمعجزات


28/02/2022

هذا مقال طويل (نسبياً)، ولم يكن هناك مناص من إطالته لصعوبة الموضوع ووحدته وصعوبة تجزئته، ولأجل الاستعانة ببعض ما نشرته من قبل فيكون التكرار في قدره متفقاً مع الجديد والإضافة في المقال، والله المستعان.

يعرض المقال بشكل أساسي فكرتين لفيلسوفين يهوديين؛ أحدهما ابن كمونة، سعد بن منصور بن كمونة، وقد عاش ومات في بغداد في حدود العام 1300م، والآخر هو سبينوزا، باروخ سبينوزا 1632 ـ 1670 وقد ولد ونشأ في هولندا، لكنّه ينتمي إلى عائلة يهودية هاجرت من إسبانيا بسبب الاضطهاد المسيحي لليهود بعد نهاية الحكم العربي فيها.

يُعتبر كتاب سبينوزا "رسالة في اللّاهوت والسياسة" حتى اليوم مرجعاً مهمّاً في التفسير العقلي والفلسفي للدين

يُعتبر كتاب سبينوزا "رسالة في اللّاهوت والسياسة" من أهّم الدراسات العقلانية للدين، وما زال كتابه هذا حتى اليوم مرجعاً مهمّاً في التفسير العقلي والفلسفي للدين، وقدّم فيه دراسة نقدية للتوراة والأسفار اللاحقة بها (التناخ) والإنجيل.

يركّز سبينوزا على التوراة، ويوظف معرفته الواسعة باللغة العبرية ليقوم بدراسة فلسفية تاريخية معتمداً على فقه اللغة وتاريخها ليصل إلى نتائج جريئة، مع تأكيده على الإيمان بالله وعدم عدائه للدين والكتب الدينية.

اقرأ أيضاً: المعجزات في الدين: هل يحتاج الإيمان إلى معجزات إلهية؟

يقول الدكتور حسن حنفي: إنّ سبينوزا هو الديكارتي الوحيد الذي استطاع أن يُطبِّق المنهج الديكارتي تطبيقاً جذريّاً في المجالات التي استبعدها ديكارت من منهجه، خاصة في مجال الدين، وأعني الكتُب المقدّسة والكنيسة والعقائد والتاريخ المقدّس؛ لذلك كانت هناك مُحاولات لاغتياله، في حين أنّ ديكارت كان صديقاً لرجال الدين الذين كانوا يجِدون في منهجه، باعتراف ديكارت نفسه، دعامةً للدِّين، ونُصرة لعقائده. ويكفي لذلك الاطلاع على إهداء التأمُّلات لعُلماء أصول الدين، وكيف أنَّ ديكارت كان مُتفقاً معهم في الغاية، وهي إثبات العقائد، وإن اختلفَ معهم في الوسيلة مُؤقّتاً.

يحاول ديكارت أن يُقدّم أدلة عقلية وعلمية لإثبات الدين والعقائد، وأمّا سبينوزا فهو، كما يقول حنفي، طبَّق منهج الأفكار الواضحة والمُتميزة في ميدان الدين والعقائد، فليس العقل فقط هو أعدَلُ الأشياء قسمةً بين الناس، بل هو أيضاً أفضل شيء في وجودنا، ويكون في كماله خيرُنا الأقصى.

اقرأ أيضاً: الخوف والتأمل بما هما المكون المؤسس للفكر الديني

وإذا كانت الأفكار الواضحة والمتميزة هي المثَل الأعلى لليقين، فإنَّ سبينوزا يُحلِّل النبوّة ويُخرجها من نطاق الأفكار الواضحة والتصوُّرات الغامضة، ويرفُض وضع الآيات الواضحة مع الأشياء الغامِضة، ثمّ تفسير الآيات الواضحة تفسيراً خياليّاً حسب هوى المُفسِّر، ويستعمِل الوضوح والتميُّز كجدَلٍ في براهينه العقلية، فما دام كلُّ ما تعلَمُه بوضوح وتميُّز إمّا أن يكون معروفاً بذاته، وإمّا بغَيره، تعلَمُه بوضوحٍ وتميُّز، فإنّ المُعجزة لا تستطيع أن تدُلّنا على وجود الله، أو على ماهيته وطبيعته؛ لأنَّنا لا نعلمها بوضوح وتميُّز، أمّا الله، فإنّه فكرة واضحة ومُتميِّزة، ولا تحتاج إلى بُرهان.

يؤكد سبينوزا في عنوان توضيحي بعد العنوان الأوّلي "وفيها تتمُّ البرهَنة على أنَّ حرّية التفلسُف لا تُمثل خطراً على التقوى أو على السَّلام"، ويؤكد أيضاً على أنّ حرّية الفكر لا تُمثل خطراً على الإيمان، أو بتعبيرٍ آخر: إنَّ العقل هو أساس الإيمان. والثاني: إثبات أنَّ حُرّية الفكر لا تُمثل خطراً على سلامة الدولة؛ أي إنَّ العقل أيضاً هو أساس كلّ نظام سياسي تتَّبِعُه الدولة.

اقرأ أيضاً: المسلمون والعالم بين رفاعة الطهطاوي وسيد قطب: مشاركة وتفاعل أم رفض ووصاية؟

يُعرّف سبينوزا النبوّة أو الوحي بأنّها المعرفة اليقينية التي يُوحي الله بها إلى البشر عن شيء ما، والنبي هو مُفسِّر ما يُوحي الله به لأمثاله من الناس الذين لا يَقدِرون على الحصول على معرفة يقينية. ويقول: إنّ النبوّة تتطابق تماماً مع المعرفة الفطرية؛ لأنَّ ما تعرفه بالنُّور الفطري يعتمد على معرفة الله وحدَها، وعلى أوامره الأزلية.

يلاحظ سبينوزا أنّ الوحي الذي أرسله الله كان يتغيَّر وفقاً لفهم الأنبياء وآرائهم

ويقول: إنّ المعرفة الفطرية معرفة إلهية بمعنى الكلمة، فإنَّنا لا يُمكن أن نُسمِّي من يقومون بنشرها أنبياء؛ إذ يستطيع كلُّ فردٍ أن يُدرك تعاليم المعرفة الفِطرية ويفهمها باليقين نفسه، دون الاعتماد على الإيمان وحده. ويجِب ألّا نعتقِد عندما نقرأ في الكتاب عبارة قال الله إنَّ هناك نبوَّةً أو معرفة تعلو على الطبيعة إلّا عندما يؤكد الكتاب ذلك بصريح العبارة، أو عندما تؤكد ظروف الرواية أنَّ نبوّةً أو وحياً قد حدَث بالفعل. وعندما نفحص الكتب المُقدَّسة نجد أنَّ الله قد أوحى للأنبياء بالكلام أو بالمظاهر الحِسِّية أو بالطريقتَين معاً، وفي بعض الأحيان يكون الكلام والمظهر الحِسِّي حادثاً بالفعل، لم يَتخيَّله النبيُّ لحظة سماعه أو رؤيته، وأحياناً أخرى يكون مُجرَّد خيالات، بحيث تكون مُخيَّلة النبي مُهيَّأة، حتى وهو في اليقظة، على نحوٍ يجعله يتخيَّل أنّه يسمع صوتاً أو يرى شيئاً بوضوح.

يقول سبينوزا: "ولمَّا كان الأنبياء قد أدركوا الوحيَ الإلهي بالاستعانة بالخيال، فلا شكَّ أنَّ كثيراً من تعاليمهم قد تعدَّت حدود الذهن؛ لأنّنا بالكلمات والصور نستطيع أن نُكوِّن أفكاراً تزيد عن تلك التي نُكوِّنها بالمبادئ والمفاهيم الذِّهنية التي تقوم عليها معرفتنا الطبيعية".

اقرأ أيضاً: التعصب والاستعلاء الديني: تزيين التطرف بالأدلة

ويقول: "النبوَّة لا تتضمَّن بذاتها اليقين، ما دامت تعتمد، كما بَيَّنا، على الخيال وحدَه، وإذن فالأنبياء لم يَكونوا على يقين من الوحي الذي وهَبَهُم الله إيَّاه عن طريق الوحي نفسه، بل اعتماداً على آية (أي علامة) ما. ويتَّضِح ذلك عند إبراهيم عندما طلَب آيةً بعد سماعه وعدَ الله، فقد كان مُؤمناً بالله ولم يَطلب آيةً (سفر التكوين، ٨ :١٥) تُثبت اعتقاده، بل لِيعلَمَ أنَّ الله أعطاه هذا الوعد، كما يَتَّضِح ذلك بصورة أوضح فيما يقوله (سفر القضاة، ١٧): "اجعل لي آية (حتى أعلَم) على أنّك أنت الذي كلَّمني".

وهكذا، فإنّ اليقين النبوي، كما يقول سبينوزا، يقوم على هذه الأسُس الـ(3):

1-  تَخيُّل الأنبياء للأشياء المُوحى بها كأنَّها ماثِلة أمامهم، كما يحدُث لنا عادةً في حالة اليقظة عندما نتأثَّر بالأشياء.

2-  الآية.

3-   مَيل قلوبهم إلى العدْل والخير، وهذا أهمُّ شيء. ومع أنَّ الكتاب لا يذكُر الآية دائماً، فيجِب أن نعتَقِد أنَّ كلَّ نبيٍّ كانت له آية. فالواقع أنَّ الكتاب (كما لحظ الكثيرون من قبل) لا يذكُر في الرواية عادةً جميع الظروف والملابسات، بل يفترِض أنَّ الأمور معروفة، فما نالَهُ الأنبياء من ثناءٍ وتقدير عظيمَين لا يرجِع إلى مزايا رُوحية عالية، بل إلى تقواهم ورسوخ إيمانهم.

ويلاحظ سبينوزا أنّه لا يوجد في العهد القديم حديث عن الله بطريقة عقلية، إلّا ما كتبه سُليمان في سفر الجامعة "لأنّ الشريعة وُضِعت للذين لا يتمتَّعون بالعقل وبتعاليم النُّور الفطري"، لقد استطاع سليمان، كما يقول سبينوزا، أن يتفوَّق بالنُّور الفطري على عصره كله؛ ولم يعبأ بكلِّ القوانين الخاصَّة بالملك.

ويلاحظ سبينوزا أنّ "الوحي الذي أرسله الله كان يتغيَّر وفقاً لفهم الأنبياء وآرائهم. والأنبياء كانوا يَجهلون الموضوعات النظرية الخالِصة التي لا تتعلَّق بالإحسان وبالحياة العملية. وآراء الأنبياء كانت مُتعارِضة فيما بينها؛ لذلك فلا جدوى على الإطلاق من أن نلتمس لدَيهم معرفة بالأشياء الطبيعية والرُّوحية".

اقرأ أيضاً: ما البشري وما الربّاني في فكر سيد قطب؟

ويختم بالقول: إنّ قوانين الطبيعة الشاملة التي يَحدُث كلُّ شيءٍ ويتحدَّد طبقاً لها، ليست سوى أوامر الله الأزلية التي تنطوي على حقيقة وضرورة أزلية. وإذن فلو قُلنا إنّ كلَّ شيء يحدُث طبقًا لقوانين الطبيعة أو يَنتظِم بحكم الله أو بأمره، فإنّنا نقول الشيء نفسه. فجميع الأشياء الطبيعية هي في ذاتها قُدرة الله نفسها التي يحدُث بها كلُّ شيء ويتحدَّد، فيترتَّب على ذلك أنّ كلّ ما يَستعين به الإنسان ـ وهو نفسه جُزء من الطبيعة ـ في عمله للمُحافظة على وجوده، وكلَّ ما تُقدِّمه الطبيعة له ـ دون أن تتطلَّب منه جهداًـ قد قدَّمته له في الحقيقة القُدرة الإلهية وحدَها، من حيث هي فاعِلة من خلال طبيعة الإنسان نفسها، أو من خلال أشياء خارجة عن طبيعة الإنسان ذاتها. وإذن يُمكننا أن نُسمِّي كلّ ما تستطيع الطبيعة الإنسانية أن تُنتِجه بقُدرتها الخاصة للمُحافظة على وُجودها عَون لله الداخلي.

إنّ كلّ ما يُمكن أن يكون موضوعاً لرغبة صادقة منّا يَرتدُّ إلى واحد من الموضوعات الرئيسة الـ(3): معرفة الأشياء بِعِلَلها الأولى، والسيطرة على انفعالاتنا؛ أي الحصول على الفضيلة، وأخيراً العَيش في سلام مع جسم سليم".

اقرأ أيضاً: كيف تغيّر سيد قطب وغيّر الإخوان معه؟

ويعرض ابن كمونة في كتابه "تنقيح الأبحاث للملل الثلاث" كما يقول في مقدمته لأحوال النبوات في الملل اليهودية، والنصرانية والإسلامية، وأصول معتقدها وأدلة أربابها على صحة النبي الآتي بها، والردود والطعون الموجهة إليها.

يقول ابن الفوطي في كتابه "تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب" عن ابن كمونة: "الإسرائيلي البغدادي الحكيم الأديب، كان عالماً بالقواعد الحكمية، والقوانين المنطقية، مبرزاً في فنون الآداب، وعيون النكت الرياضية والحساب، وشرح كتاب الإشارات لابن سينا"، وكان يهودياً معروفاً بيهوديته، ويقصده الناس طلباً للحكمة، ومن كتبه: الجديد في الحكمة، وشرح الإشارات والتنبيهات لابن سينا، وشرح التحصيلات للسهروردي، ورسالة في خلود النفس، وتعاليق على المعالم لفخر الدين الرازي، وتذكرة في الكيميا، والفروق بين الربانيين والقرّائين، وتقريب المحجة وتهذيب الحجة، والمطالب المتمّمة من علم الحكمة، والكافي، ورسالة في العقليات، واللمعة.

اقرأ أيضاً: الراديكالية الإسلامية: مقدمات صحيحة ونتائج خاطئة

ومؤكد أنّ الكتاب يعكس الحالة الفكرية المتطورة في القرن الـ13 الميلادي، ومستوى التسامح والتعددية الثقافية والدينية والفكرية في العالم العربي والإسلامي، ولكنّ أهمية الكتاب تكمن في الفكر الديني العقلي المتقدّم، القائم على أسس عقلية وفلسفية، والنظر إلى السياق الديني والجدل العقلي والفكري حول مسائله وقضاياه من تفكير علمي نقدي، وهو ما يبدو اليوم محرّماً في المشهد الإسلامي الفكري القائم، ويبدو أنّ فترة ابن كمونة كانت بداية النهاية للتسامح الديني والتفكير النقدي، فقد هاجت الجماهير مطالبة بقتله، وأخفي ونُقل من بغداد إلى الحلّة لأجل حمايته، ودخل العالم الإسلامي في مرحلة من الجمود والتعصّب!

يقول ابن كمونة: إنّ "النبوّة" طور وراء العقل، تنفتح للعقل فيه عين أخرى يبصر بها الغيب، وما سيكون في المستقبل، وما قد كان في الماضي، هذه هي النبوّة، ولها خواص (3): في قوة النفس وجوهرها المؤثر، وفي القوة النظرية بأن تصفو نفس النبي صفاء بحيث تكون شديدة الاستعداد لقبول العلوم من مفيضها وواهبها، وأن يطّلع على المغيبات في النوم واليقظة اطلاعاً لا يشكّ فيه بوجه، ولا يخالطه في الحكم بصحة وقوع ما أدركه ظنّ أو وهم.

اقرأ أيضاً: ثغرات المتطرفين في جدار المعتدلين

والمعترفون بالنبوّة على (3) آراء: من لا يشترط في النبي أن يكون عالماً، بل يقول الله يختار للنبوّة من يشاء، ومن يقول إنّ النبوّة كمال في طبيعة الإنسان، ومن يرى أنّ النبوّة لا تحصل إلّا لشخص فاضل كامل، ولكن أيضاً بمشيئة الله وإرادته.

ومراتب النبوة: الرؤية في المنام، يسمع كلاماً في المنام مشروحاً بيّناً ولايرى قائله، وأن يكلمه إنسان في المنام، أو يكلمه ملك في المنام، أو أن يرى في المنام كأنّ الله يخاطبه، أو يأتيه وحي في اليقظة ويرى أمثالاً، ويسمع كلاماً في اليقظة، أو يرى في اليقظة كأنّ إنساناً يخاطبه، أو يرى ملكاً يخاطبه في اليقظة، أو يرى الله يخاطبه في حال يقظته، ويدلّ على صدق المدّعين بالنبوّة المعجزات، ممّا يعجز البشر عن إتيانه.

ومن الشكوك على المعجزات أنّ خرق العادات أمر ممتنع، وربما حصل المدّعي على أمر معجز من غير نبوّة، وليس مسلماً أنّ الله خلق المعجز لأجل التصديق، فإنّ أفعاله منزهة عن الأغراض، وليس للبشر قدرة على الاطلاع على جميع حكم الله تعالى.

وإذا كانت الأشياء يخلقها الله، فلا يدلّ ذلك على تصديق الله للنبي على كونه صادقاً، ويجوز حصول سبب مستقل لما يدّعي بأنّه معجزة بأن يفعل ذلك الفعل في ذلك الوقت، وليس الفعل المعجزة دليلاً على تصديق الله للنبي، فحكم الله في أفعاله وأقواله ومخلوقاته ليس لأحد سبيل إلى معرفتها والاطلاع عليها.

اقرأ أيضاً: الحقيقة الدينية والأخلاقية في الفضاء العام.. أين هي من الفردانية؟

وذكروا في بعثة الأنبياء (15) فائدة: بيان العبادات، وإمداد الإنسان في مواجهة الهوى والإغواء، ولأنّنا نعلم بعقولنا ثواب الفعل الحسن، وإن كنّا ندرك اللذة العاجلة في فعل القبيح، ولا نعلم سائر صفات الله إلّا بخبر النبوة، وإن كنّا نستدلّ على بعضها بعقولنا، وفي البعثة يزول الخوف عن المكلف، وللتمييز بين القبيح والحسن، ومعرفة طبائع الأشياء من غير تجربة، ومعرفة ما يقع إلّا في مدد متطاولة، والهداية إلى الصناعات النافعة التي لا يهتدى إليها بمجّرد العقل، ولتعليم حسن الأخلاق وتحسين المعيشة بها، ولا بدّ من شريعة يفرضها شارع هو النبي، ولأجل وضع شريعة واحدة جامعة لكلّ المدن، ولمعرفة العبادات التي تتجاوز العادات، وللوصول إلى الكمال في معرفة الأسرار الإلهية التي تتفاوت العقول في إدراكها.

ولمنكري النبوّة شبهات (3): إنّ تكليف العباد باطل، فبعثة الأنبياء باطلة، فالعبد لو كان مكلفاً فعلاً أو تركاً لكان مجبوراً غير قادر على الفعل أو الترك، والله يعلم كلّ شيء، فالتكليف بما هو معلوم عبث، وإن كان معلوم اللّاوقوع فالتكليف به ظلم، وفائدة التكليف حصول الثواب، فذلك الثواب إن علم وقوعه، فلا حاجة إلى فعل الطاعة، وإن علم عدم وقوعه، فلا فائدة في فعلها، والتكليف لا فائدة فيه، فلو صحّ لكان عبثاً، وذلك لا يلتقي بالحكم، وفوائد العبد في التكليف يقدر الله أن يحصلها للعبد من غير واسطة التكليف، وتكليف من علم أن يكفر أو يفسق غير لائق بالحكمة؛ لأنّ ما وقع التكليف به إن دخل في الوجود، لزم تجهيل المعبود، والأفعال التي يكلف بها العبد تشغله عن الاستغراق في معرفة الله ومحبته، وكلّ ما كان مانعاً من ذلك فتركه أوجب الواجبات.

والشبهة الثانية أنّ ما جاء به النبي، إن علم حسنه بالعقل، كان مقبولاً سواء ورد به الرسول أو لم يرد، فلا فائدة في الرسالة، والشبهة الثالثة أنّنا نشاهد في الشرائع أفعالاً غير لائقة بالحكمة، مثل التعبدات الغريبة، ولا منفعة فيها للمعبود، وهي مضار ومتاعب في حقّ العباد.

والردّ على الشبهات في أنّه ليس لأحد الاعتراض على الله، وكما أنّ ذاته غير معللة، فكذلك أفعاله، وأنّ الغرض من البعثة تعليم ما لا سبيل إلى معرفته بمجرّد العقل، ولا يبعد أن يكون في البعثة كلمة لا نعلمها، فلا سبيل للبشر للإحاطة بحكم الله في خلقه.

اقرأ أيضاً: ما الفرق بين القسوة والتطرف؟

ثمّ يعرض الأدلة والشبهات والردود حول نبوّة موسى وعيسى ومحمّد، عليهم السلام، في إحاطة واسعة مدهشة بالفلسفة والعلوم والتوراة والإنجيل والقرآن، والجدل الديني بين أتباع الديانات الـ(3)، والجدل مع غير المؤمنين بها، وما يجمع بين هذه الملل الـ(3)؛ التوحيد.

يقول ابن كمونة إنّ النبوّة طور وراء العقل تنفتح للعقل فيه عين أخرى يبصر بها الغيب

يجد ابن كمونة أنّ التوراة متواترة وكاملة، وأنّ وصف القرآن بالقول: "وكيف يحكّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله" يعني أنّها كانت في زمن النبي موجودة وكاملة، وقد اعتنى اليهود بها عناية فائقة على نحو عناية المسلمين بالقرآن، والتشابه الحاصل في التوراة عند النصارى المؤمنين بها والذين يتلونها، والسامرة المختلفين عن اليهود، والتوراة التي عند اليهود يؤكد أنّها محفوظة على التواتر، ويقول: إنّ الاختلاف بين نسخ التوراة ليس أكثر من الاختلاف بين القراءات والأحرف المتعددة للقرآن، ويناقش أيضاً مقولات النصارى في التوحيد والتثليث والردود والشبهات، ويتأوّل لهم، ويجيب عن الأسئلة والشبهات حول معتقداتهم ونبوّة عيسى، إلى أن يخلص إلى القول: "وأمّا سائر ما ذكر من المخالفين، فبعضه مجرّد تشنيع واستبعاد، وبعضه لا يخفى على المحصل وجه دفعه ولو بتكلف، وأكثر هذه الأجوبة لم أجدها في كلام النصارى، ولكنّي أجبت نيابة عنهم، وتتميماً للنظر في معتقدهم".

ثم يناقش الشبهات والأقوال في نبوّة محمّد، والمعجزات، وما بين القرآن والتوراة والإنجيل من التعارض، وما يمكن التأول فيه والتوفيق، والشبهات المثارة حول القرآن، ونبوّة محمّد، والردّ عليها.

اقرأ أيضاً: كيف يمكن مواجهة العنف والكراهية؟

ويبدو لي، وإن لم أجد دليلاً صريحاً على ذلك، أنّ ابن كمونة يؤمن بالدين الواحد الممتد على نحو عام، مستمدّ من الحكمة والضرورات، والتأوّل للتناقضات وغير المعقولات إلى السياق العام، وإن كان ثمّة مجال لإنكار ما لا يقبله العقل ينكره ويردّه، وإن لم يجد، فيعلقه إلى مظنة أنّ حكمته أو تأويله لم تُعرف بعد.

ولكنّ المدهش في الكتاب هو الإحاطة الواسعة بالأديان، ونصوصها وتراثها، وبالفلسفة والحكمة والعلوم المتصلة بها، ثمّ ما يكشف عنه الكتاب من مستوى متقدّم في النقد، والردّ، والحرّيات الواسعة التي كان يمتلكها العلماء والناس.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية