في ذكرى البوعزيزي: كيف تحوّل الربيع إلى حريق مدمّر؟

في ذكرى البوعزيزي: كيف تحوّل الربيع إلى حريق مدمّر؟


17/12/2018

في 17 كانون الأول (ديسمير)، تتجدّد ذكرى محمد البوعزيزي، الشاب الذي أضرم النار في جسده فكانت تلك الواقعة هي الشرارة الأولى التي أشعلت سلسلة الانتفاضات والثورات العربية انطلاقاً من تونس. كان لا بدّ لهذا الغضب الشعبي أن ينفجر، فهذه نتيجة منطقية لما فعلته وتفعله عقود من الاستبداد والفساد والتهميش والإفقار.

اقرأ أيضاً: السفير الروسي يعيد الجدل بشأن قطر و"الربيع العربي"

في البداية سادت قراءات متفائلة في تقييم الحدث التاريخي الكبير، تذهب إلى الجزم بأنّ السيناريو المحتمل لتطوّر تحرّكات شعبية كهذه سيشبه التطورات التي شهدتها موجة المطالبة بالديمقراطية في العديد من بلدان أوروبا الشرقية أواخر ثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن العشرين، والتي انتهت إلى إسقاط أنظمة دكتاتورية عتيّة، وإحداث تغيير ديمقراطي وإصلاحات اقتصادية شاملة، حققت نقلة نوعية لتلك الدول وشعوبها ومجتمعاتها.

على العكس من ذلك جاءت نتائج التجربة العربية مخيّبة للآمال، بل إنها فاقت في كارثيتها أشدّ التوقعات تشاؤماً. فالربيع المأمول تحوّل إلى حريقٍ مدمّر امتدّ في الهشيم العربي المهيّأ للاشتعال، وتضافرت جملة من العوامل الإقليمية والدولية، ليس هذا مجال بحثها، أدّت إلى إحباط الثورات وإجهاضها. يمكن مع بعض التحفّظ الإشادة بالنجاح النسبي في حالة تونس الاستثنائية، لكنّ مصائر بقية دول الربيع العربي كانت مأساوية، حيث توزّعت على العودة مجدّداً إلى قبضة الاستبداد والفساد، أو السقوط في أتون الفوضى والاقتتال الداخلي، أو استمرار ذلك كله مضافاً إليه الوقوع تحت الاحتلال ولو بصورة جزئية.

ما حصل في الربيع العربي أنّ "التحرّر" لم يفضِ إلى "الحرية" بل استُبدل استبداد بآخر

ولمّا كانت الأسباب الموجبة للثورات لاتزال قائمة، وبما أنّ حركة التاريخ لا تعرف السكون مطلقاً، ولأنّ أحداً لن يمكنه أن يسلب شعباً ما إراده إلى الأبد، فإنّ احتمالات استئناف الموجة الثورية ستبقى قائمة، والحلم المشروع بالتغيير نحو حياة أفضل سيبقي على جذوة الأمل بتجدّد الحراك الشعبي مستقبلاً.

لكنّ ذلك يستدعي من طلاّب التغيير وممن تبقّى من شبّان وشابّات الربيع العربي التفكّر مليّاً في الظروف والأسباب التي أفضت إلى هذا الحصاد المرّ لكي لا يتكرّر فشل التجربة، وهو ما لا يكون عبر الاكتفاء بإلقاء اللوم على العوامل الخارجية والظروف الدولية أو قمع الأنظمة وجبروتها، فهذه جميعاً، وإن كانت تشكّل عوامل رئيسية ومؤثّرة، إلا أنّ نجاحها في التأثير يتطلّب أيضاً توفّر نقاط ضعف تخص الثورات نفسها.

اقرأ أيضاً: السلفيون إبان "الربيع العربي".. الأئمة على منابر السياسة

بالتالي، لا بدّ من البحث والتأمّل في العوامل الذاتية وتحديد مكامن الخلل، سواءً على صعيد الأفكار والرؤى والشعارات، وسواها من المستويات النظرية التي رافقت الحراك الشعبي وسادت في أوساط الجمهور المنتفض، أو الممارسات على أرض الواقع وأساليب العمل والتنظيم التي اتُبعت، ومعايير عقد التحالفات وترتيب الأولويات، وغير ذلك من المعطيات التي تخصّ أهل الثورات أنفسهم ولا شأن مباشراً بها لخصومهم.

جاءت نتائج التجربة العربية مخيّبة للآمال فالربيع المأمول تحوّل إلى حريق مدمّر امتدّ في الهشيم العربي المهيّأ للاشتعال

ولتكون عملية المراجعة النقدية شاملة وجدّية ينبغي ألا يقتصر عمل المعنيين بها على تناول الوقائع والأحداث فقط، وإنما عليهم العودة إلى ما تركه عددٌ من المفكّرين الذين أثروا الفكر السياسيّ والاستفادة منه. من أبرز هؤلاء حنة أرندت (1906 - 1975)، إذ يجدر عند نقاش موضوع الثورات ومراجعتها العودة إلى كتابها "في الثورة"، الذي يستحقّ أن يُصنّف من بين أهمّ المؤلّفات في الفكر السياسي المعاصر. ومما جاء في الكتاب تأكيد أرندت على ضرورة التمييز بين "التحرّر" و"الحرية"، فهما ليسا مثل بعضهما. صحيح أنّ الأول قد يكون شرطاً للثانية ولكنه لا يقود إليها آلياً. وهي رأت أنّ فكرة الحرية التي ينطوي عليها التحرر لا يمكن أن تكون إلا سلبية، لذا فحتى النية بالتحرر لا تتشابه مع الرغبة في الحرية، مشيرةً إلى "أنّ التحرر كان هو الطاغي دائماً وأنّ أساس الحرية كان دائماً يلفّه الغموض".

الغاية من استحضار هذه الفكرة بالذات هي إثارة التساؤل عن طبيعة ما جرى في معظم محطات الربيع العربي من منظور التمييز بين "التحرر" و"الحرية"، فهل اقتصر الأمر على السعي إلى التحرّر من الأنظمة القائمة أم أنّ الحرية كانت هي الهدف الحقيقي، بما تعنيه وتستدعيه من جملة مفاهيم وأفكار وعلاقات؟

اقرأ أيضاً: الربيع العربي بين فوضى مصر وعفريت تونس

في محاولة البحث عن الإجابة يمكن الانطلاق من الهتاف الذي مزّق جدار الصمت العربي وتردّد صداه في الشوارع والساحات: "الشعب يريد إسقاط النظام"، الذي كان شعاراً مشتركاً بين مختلف الثورات العربيّة. فإنّ منطوق الشعار ومضمونه يخبران بوضوح عن الهدف الرئيسي للثورة أي "إسقاط النظام"، فهي ثورة على نظام محدّد وتسعى إلى الخلاص منه بأي ثمن، وهذا ما يمكن تسميته "نفي" باستخدام مفردات ماركسية.

بما أنّ حركة التاريخ لا تعرف السكون فإنّ احتمالات استئناف الموجة الثورية ستبقى قائمة

غير أنّ التحدي الثوري الرئيس ليس في "النفي" وإنما في تخطّيه إلى مرحلة "نفي النفي" أو "الإثبات"، بمعنى الانتقال إلى النظام البديل المطلوب وتحديد شكل الدولة المُراد إقامتها. طبعاً الكلام هنا يقتصر على الحالات التي أُنجزت فيها المهمّة الثورية الأولى ممثلة في إسقاط النظام أو رأسه على الأقل. والذي حصل في الربيع العربي أنّ "التحرّر" لم يفض إلى "الحرية"، بل استُبدل استبداد بآخر، أو تقاسمت فئات متسلّطة متعددة تركة السلطة المستبدّة البائدة واحتربت فيما بينها، وكان لكل منها جمهوره وأنصاره من "الثوار" أنفسهم!

بهذا تعود إلى الواجهة مجدداً مسألة التأخّر التاريخي المزمن الذي يهيمن على المجتمعات العربية، والمتمثّل في بنى اجتماعية وأنماط علاقات وأيديولوجيات سائدة أقلّ ما يمكن أن توصف به أنها متخلّفة ولاعقلانية، حتى في أوساط "النخب" السياسية والثقافية. صحيح أنّ تكريسها وتجذّرها هو من نتائج الاستبداد المديد، لكنها تحوّلت إلى أحد مسبّباته الرئيسية، بوصفها التربة الخصبة لبذرته. في ظلّ شروط كهذه تراجعت قضيّة "الحرّية" وأصبحت شأناً هامشياً غير ذي أهمية أمام الرغبة بالخلاص من مستبدّ بعينه، ولو عبر التحالف مع مستبدّين آخرين والرهان عليهم لتحقيق خلاصٍ موهوم.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية