في ذكرى المذبحة: صبرا تُغطي صدرها العاري بأُغنية الوداع

في ذكرى المذبحة: صبرا تُغطي صدرها العاري بأُغنية الوداع


16/09/2021

لا يستطيع المرء أن يتذكر مجزرة صبرا وشاتيلا التي تمر ذكراها اليوم من دون أن يذرف النشيد والألم، ومن دون أن يتذكر قصيدة محمود درويش عن المأساة، وهل ثمة مأساة أشد فظاعة من تلك التي استتيقظ عليها سكان مخيمي صبرا وشاتيلا اللذين يقعان جنوب العاصمة اللبنانية بيروت. كانت رائحة الموت تملأ الأرجاء، فيما ظل الناجون يرددون: "صبرا تخافُ الليل. تسندهُ لرُكْبتها. تغطيهِ بكحلِ عيونها".

كاريكاتير للفنان الشهيد ناجي العلي

في ذلك اليوم، يقول درويش في "مديح الظل العالي":

"رحل الرجالُ إلى الرحيلْ
والحرب نامت ليلتين صغيرتين،
وقدَّمَتْ بيروتُ طاعتها وصارتْ عاصمَهْ....
ليلٌ طويلٌ
يرصدُ الأحلامَ في صبرا،
وصبرا نائمهْ
صبرا بقايا الكفِّ في جسدٍ قتيلٍ
ودِّعتْ فرسانها وزمانها
واستسلماْ للنوم من تعبٍ، ومن عَرَبٍ رَمَوْها خلفهم
صبرا – وما ينسى الجنودُ الراحلون من الجليلِ
لا تشتري وتبيعُ إلاَّ صمتها
من أجل وردٍ للضَّفيرهْ
صبرا تغني نصفَها المفقودَ بين البحرِ والحربِ الأخيرهْ:
لمَ ترحلونَ
وتتركون نساءَكم في بطنِ ليلٍ من حديدِ؟
لمَ ترحلونْ
وتعلِّقون مَسَاءَكُمْ
فوق المخَّيم والنشيدِ؟
صبرا تُغَطِّي صدرها العاري بأُغنية الوداعْ
وتَعُدُّ كفَّيها وتخطىءُ
حين لا تجد الذراعْ:
كَمْ مرةً ستسافرونْ
ولأيِّ حُلمْ؟
وإذا رجعتم ذات يومْ
فلأيِّ منفى ترجعونَ،
لأيِّ منفى ترجعونْ؟
صبرا – تُمَزِّق صدرها المكشوفَ:
كم مَرَّهْ
تتفتَّحُ الزهرهْ
كم مرَّةً
ستُسافر الثورهْ؟
صبرا تخافُ الليل. تسندهُ لرُكْبتها
تغطيهِ بكحلِ عيونها. تبكي لتُلْهيهِ:
رحلوا وما قالوا
شيئاً عن العودهْ
ذَبلوا وما مالوا
عن جمرةِ الوردهْ!
عادوا وما عادوا
لبداية الرحلهْ
والعمرُ أَولادُ
هربوا من القُبْلَهْ.
لا، ليس لي منفى
لأقول: لي وطنُ
الله، يا زَمَنُ....!
صبرا تنامُ. وخنجرُ الفاشيِّ يصحو
صبرا تنادي ... مَنْ تنادي
كُلُّ هذا الليلِ لي، والليلُ ملحُ
يقطع الفاشيُّ ثدييها – يقلُّ الليلُ
يرقص حول خنجرهِ ويلْعَقُهُ. يغني لانتصار الأرْزِ موالاً،
ويمحو
في هدوءٍ... في هدوءٍ لحمَها عن عَظْمِها
ويمدِّدُ الأعضاءَ فوق الطاولَهْ
ويواصل الفاشيُّ رقصَتَهُ ويضحك للعيون المائلَهْ
ويُجَنُّ من فرحٍ وصبرا لم تعد جسداً:
يُرَكِّبها كما شاءتْ غرائزهُ، وتصنعها مشيئتهُ
ويسرق خاتماً من لحمها، ويعودُ من دمها إلى مرآتِهِ
ويكون بحرُ
ويكون – برُّ
ويكون – غيمُ
ويكون دَمْ
ويكون – ليلُ
ويكون – قتلُ
ويكون – سبتُ
وتكون – صبرا
صبرا – تقاطُعُ شارعيْنِ على جَسَدْ
صبرا – نزولُ الروحِ في حَجَرٍ
وصبرا – لا أحدْ
صبرا هوية عصرنا حتى الأبدْ...".

كيف وقعت المذبحة؟

الأربعاء 15 أيلول (سبتمبر) 1982 حاصرت قوات الاحتلال الإسرائيلي صبرا وشاتيلا، وراحت تراقب كل حركة في المنطقة من فوق عمارة احتلتها، وفجر الخميس 16 أيلول، أخذت القوات التي تمركزت في بناية على مدخل شاتيلا تراقب كل لحظة ومتحرك في المخيم وتعطي الأوامر للقتلة، بينما راحت طائراتها وجيشها يلقون القنابل الضوئية، لينيروا عتمة المكان الآمن أمام أعين قتلة الأطفال والنساء والشيوخ.

العدد الأكبر من الشهداء وبينهم أطفال ارتقوا في الليلة الأولى للمذبحة

صباح الجمعة 17 أيلول، كما تذكر وكالة "وفا"، بدأت معالم المجزرة تتضح لمعظم سكان المنطقة، بعد أن شاهدوا الجثث والجرافات وهي تهدم المنازل فوق رؤوس أصحابها، وتدفنهم أمواتا وأحياء، فبدأت حالات فرار فردية وجماعية توجه معظمها الى مستشفيات عكا وغزة ومأوى العجزة، واستطاع عدد منهم الخروج إلى خارج المنطقة متسللاً من حرش ثابت، فيما بقيت عائلات وبيوت لا تعرف ما الذي يجري، وكان مصير بعضها القتل وهي مجتمعة حول مائدة الطعام، ذلك أنّ القتل كان يتم بصمت وسرعة.

في يوم الجمعة، بدأت حكايات حُفَر الموت، وازداد عدد المهاجمين، رغم أنّ الشهادات والوقائع تؤكد أنّ العدد الأكبر من الشهداء ارتقوا في الليلة الأولى للمجزرة، ليلة الخميس، لكن أساليب القتل تطورت وأضيف اليها القنابل الفوسفورية التي ألقيت في الملاجئ.

كما اقتحم المجرمون مستشفى عكا وقتلوا ممرضين وأطباء فلسطينيين، واختطفوا مرضى ومصابين وهاربين من المجزرة من داخل المستشفى.

وتميز اليوم الثاني بالقتل داخل البيوت بشكل أكبر، وفي بعض الأزقة وعلى مقربة من السفارة الكويتية والمدينة الرياضية، حيث كانت هناك حُفر جاهزة بفعل الصواريخ الإسرائيلية التي سقطت على المدينة الرياضية أثناء اجتياح بيروت في حزيران 1982، وبفعل وجود بعض الألغام وانفجارها تمكن بعض المخطوفين والمنساقين للموت من الهروب في ظل فوضى الأعداد الهائلة من المحتشدين وينتظرون دورهم في الإصابة بالرصاص أو حتى الدفن أحياء، من تمكن منهم من الهرب روى تفاصيل قاهرة لطريقة التعامل مع الأهالي وطرق قتلهم التي تفنن فيها القاتل وهو يضحك ويشتم ويرتوي من المشروبات الروحية.

شهد اليوم الثالث للمذبحة عمليات الموت الجماعية العلنية، وبدأ التحقيق مع أهالي المنطقة، وجرى اعتقال واختطاف العشرات، معظمهم لم يعد ولم يُعرف مصيره

وفي اليوم الثالث، السبت 18 أيلول، استمرت عمليات القتل والذبح والخطف، رغم أنّ التعليمات كما قالت مصادر اسرائيلية صدرت للمهاجمين بالانسحاب في العاشرة صباحاً، لكن عشرات الشهادات للسكان أكدت استمرار المجزرة لحدود الساعة الواحدة بعد الظهر، وتميز بعمليات الموت الجماعية العلنية، وبدأ التحقيق مع أهالي المنطقة في المدينة الرياضية من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي والميليشيات الموالية لها، وجرى اعتقال واختطاف العشرات، معظمهم لم يعد ولم يُعرف مصيره.

لم يكتفِ الاحتلال بتغطية إبادة البشر وتهيئة كافة الظروف لسحق الفلسطيني الذي هزمه في حصار بيروت، لينتقم يوم الأحد 19-9-1982 بسرقة وثائق مركز الابحاث الفلسطيني وحمل الأرشيف في شاحنات.

وكان دخول القوات الإسرائيلية إلى بيروت في حد ذاته بمنزلة انتهاك للاتفاق الذي رعته الولايات المتحدة الأمريكية والذي خرجت بمقتضاه المقاومة الفلسطينية من المدينة، كما تقول موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية" للدكتور عبد الوهاب المسيري.

صبرا وشاتيلا مأساة لم يُسدل الستار عليها بعد

وقد هيأت القوات الإسرائيلية الأجواء بعناية لارتكاب المذبحة التي نفَّذها مقاتلو الكتائب اللبنانية اليمينية؛ انتقاماً من الفلسطينيين وحلفائهم اللبنانيين. وأدخلت هذه القوات مقاتلي الكتائب المتعطشين لسفك الدماء بعد اغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل.

وبينما استمرت المذبحة، أيقظ المحرر العسكري الإسرائيلي رون بن يشاي إرييل شارون وزير الدفاع في حكومة مناحم بيغين ليبلغه بوقوع المذبحة في صبرا وشاتيلا فأجابه شارون ببرود "عام سعيد". وفيما بعد وقف بيغين أمام الكنيست ليعلن باستهانة "جوييم قتلوا جوييم... فماذا نفعل؟" أي "غرباء قتلوا غرباء... فماذا نفعل؟".

اقرأ أيضاً: ناجون من صبرا وشاتيلا: بقروا بطن الحامل بالسكاكين ووضعوا الجنين على يدها

اعترف تقرير لجنة كاهان الإسرائيلية بمسؤولية بيغين وأعضاء حكومته وقادة جيشه عن هذه المذبحة استناداً إلى اتخاذهم قرار دخول قوات الكتائب إلى صبرا وشاتيلا ومساعدتهم هذه القوات على دخول المخيم. إلا أنّ اللجنة اكتفت بتحميل النخبة الصهيونية الإسرائيلية المسؤولية غير المباشرة. واكتفت بطلب إقالة شارون وعدم التمديد لروفائيل إيتان رئيس الأركان بعد انتهاء مدة خدمته في نيسان (أبريل) 1983.

ماذا قال تقرير مسرب للبنتاغون؟

ولكنّ مسؤولاً في الأسطول الأمريكي الذي كان راسياً قبالة بيروت أكد (في تقرير مرفق إلى البنتاغون تسرب إلى خارجها) المسؤولية المباشرة للنخبة السياسية والعسكرية الإسرائيلية وتساءل: "إذا لم تكن هذه هي جرائم الحرب، فما الذي يكون؟". وللأسف فإنّ هذا التقرير لم يحظ باهتمام مماثل لتقرير لجنة كاهان، رغم أنّ الضابط الأمريكي ويُدعَى وستون بيرنيت قد سجل بدقة وساعة بساعة ملابسات وتفاصيل المذبحة والاجتماعات المكثفة التي دارت بين قادة الكتائب المنفذين المباشرين لها (إيلي حبيقة على نحو خاص) وكبار القادة والسياسيين الإسرائيليين للإعداد لها.

عدد الضحايا

راح ضحية مذبحة صبرا وشاتيلا 1500 شهيد من الفلسطينيين واللبنانيين العزل بينهم الأطفال والنساء. قدرت بيان نويهض الحوت، في كتابها "صبرا وشاتيلا أيلول 1982"، عدد القتلى ب1300 نسمة على الأقل حسب مقارنة بين 17 قائمة تفصل أسماء الضحايا ومصادر أخرى.

تقول الحوت "مجزرة صبرا وشاتيلا ليست واحدة من أبشع مجازر القرن العشرين، فحسب، وليست مجرد رقم على لائحة المجازر الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والعرب؛ سرها في أنها مأساة لم يُسدل الستار عليها بعد، وهو لن يُسدل ما دام الأحياء من أبنائها يعيشون كوابيسها، يتنقلون ويسافرون ويعملون ويتزوجون وينجبون، لكنهم -بوعي منهم أو بلا وعي- يكتشفون أنّ مجزرة صبرا وشاتيلا هي التي تقود حياتهم، بعد أن ظنوا أنّ بعض النجاح هنا أو هناك، أو أنّ الإقامة في بلد يبعد آلاف الأميال عن أرض المجزرة، قد تنسيهم عذاباتهم؛ هؤلاء هم الضحايا الأحياء".

وبخصوص ضحايا المذبحة، أفاد الصحافي البريطاني روبرت فيسك أنّ أحد ضباط الميليشيا المارونية الذي رفض كشف هويته قال إن أفراد الميليشيا قتلوا 2000 فلسطيني.

بخصوص ضحايا المذبحة، أفاد الصحافي البريطاني روبرت فيسك أنّ أحد ضباط الميليشيا المارونية الذي رفض كشف هويته قال إن أفراد الميليشيا قتلوا 2000 فلسطيني

 أما الصحفي الإسرائيلي الفرنسي أمنون كابليوك فقال في كتاب نشر عن المذبحة إنّ الصليب الأحمر جمع 3000 جثة بينما جمع أفراد الميليشيا 2000 جثة إضافية مما يشير إلى 3000 قتيل في المذبحة على الأقل.

كما تركت قوات الكتائب وراءها مئات من أشباه الأحياء. كما تعرَّضت بعض النساء للاغتصاب المتكرر. وتمت المذبحة في غيبة السلاح والمقاتلين عن المخيم وفي ظل الالتزامات الأمريكية المشددة بحماية الفلسطينيين وحلفائهم اللبنانيين من المدنيين العزل بعد خروج المقاومة من لبنان.

كانت مذبحة صبرا وشاتيلا تهدف إلى تحقيق هدفين، كما تقول موسوعة المسيري: الأول الإجهاز على معنويات الفلسطينيين وحلفائهم اللبنانيين، والثاني المساهمة في تأجيج نيران العداوات الطائفية بين اللبنانيين أنفسهم.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية