قونيا: أي هوية كانت ستختار لولا الرومي؟

الصوفية

قونيا: أي هوية كانت ستختار لولا الرومي؟


28/08/2018

بون شاسع ذاك الفاصل بين مشهدين: قونيا، قبل ثمانمئة عام، حين ضاقت بمولانا جلال الدين الرومي وخطّه الذي دشّنه اجتماعياً وفكرياً، وقونيا، حالياً؛ إذتحتضن في ذكرى رحيله سنوياً، مهرجان المولوية الذي يفِد إليه الصوفيون من بقاع عدة.

حال لا يستمر؛ ذلك أنّ الإقصاء الذي لقيه الرومي آنذاك، واتهامه بالفسق والجنون، وملاحقة معلّمه الروحي شمس الدين التبريزي، حدَّ شبهة قتله، انقلب لنقيضه تماماً؛ إذيزور ضريح الرومي ما يزيد على مليونيّ شخص سنوياً.

روح واحدة مهيمنة

بمجرد أن تطأ قدم الزائر المدينة، المستقى اسمها من كلمة بيزنطية هي "أكونيوم"،والتي تربض في وسط الأناضول، بمساحة تزيد على 40 كم²، فإنّ الرومي سيطالعه في كل مكان: المطار والميادين العامة والجامعات والمعاهد والأسواق الشعبية والزوايا الصوفية.

بمجرد أن تطأ قدما الزائر أرض مدينة قونيا حتى يطالعه جلال الدين الرومي في كل مكان

لا يمكن فصل قونيا عن الرومي، إلى حد قد يتساءل فيه الزائر: ترى لو لم تكن هذه مدينة الصوفي، الأفغاني الأصل والمولود في بلخ العام 1207م، ترى أي ثيمة أخرى كانت ستختار لتدور في فلكها؟

إيسن تشيلبي، إحدى سليلات الرومي، اللاتي يتواجدن بشكل شبه سنوي إلى جانب الضريح، في ذكرى الوفاة، الذي يصادف في الرابع والعشرين من كانون الأول (ديسمبر)، تقولإنّه لا يمكن ذِكر قونيا من دون الرومي؛ ذلك أنّها احتضنته، "ليمنح البشرية إرثاً فكرياً مستمداً من القرآن الكريم، مُسهّلاً علينا فهمه وتلقّيه".

إيسين تشيلبي (تصوير: رشا سلامة)

تركّز تشيلبي على فكرة أن تعرف الشيء قبل أن تحبه؛ إذ تقول في لقاء جمعها بمعدة التقرير بقونيا، إنّ الرومي "أمرنا بمعرفة الله ومن ثم حبه، ومعرفة أنفسنا جيداً؛ كمفتاح لمعرفة الآخر وتقبّله".

ثمة خطب يقضّ مضاجع الصوفيين في الأعوام الأخيرة، بحسب تشيلبي، وهو تحطيم أتباع تنظيم "داعش" قبور أوليائهم في الشام والعراق، ما يجعلها تقول "نحن بأمسّ الحاجة للحب حالياً.. إنّه مفتقَد هذه الأيام".

في رحاب الضريح

يلحظ الكاتب المصري، المتخصّص في الشأن الإسلامي، فريد إبراهيم، ملامح العمارة السلجوقية في كل ركن من المدينة، بحسبه، موضحاً "أكثر ما تتجلّى هذه العمارة، التي تمتاز بالمقرنصات، في مدرسة قراطاي ومسجد علاء الدين".

في قاعات الضريح الداخلية الذي حُوّل لمتحف منذ عهد أتاتورك ترقد أضرحة الصوفيين المقرّبين من الرومي

المدرسة والمسجد هما المميّز الأبرز للهوية السلجوقية، وليس العمران فحسب، كما يقول، مكملاً إنها تكاد تتطابق مع مدن عدة شهدت وجود السلاجقة مثل بغداد ودمشق وأصفهان.

ويضيف في حديثه لـ"حفريات": "بوسع زائر مدرسة قراطاي، التي شُيّدت في عهد السلطان كيكاوس الثاني في مطلع القرن الثالث عشر، أن يلحظ الصحن الذي تتفرّع عنه قاعات الدروس، والتي تحتضن أضرحة صوفيين حتى يومنا هذا"، مؤكداً أنّهم على رأس من جعلوا التعليم والثقافة بموازاة العمل الحربي، آنذاك.

اللمسة السلجوقية تتجلّى كذلك في ضريح الرومي، المُقام مكان التكية التي أسّسها في حياته، والذي تعتلي واجهته، المصنوعة من خشب الأرابيسك، لوحة مذهبة مخطوط عليها "يا حضرت مولانا"، ليأتي توصيف "كعبة العشاق" في العبارة المكتوبة بخط أصغر.

اقرأ أيضاً: التصوف وعلاج ظاهرة العنف الديني

يلج الزائر لقاعات الضريح الداخلية، الذي حُوّل لمتحف منذ عهد مصطفى كمال أتاتورك،لتطالعه أضرحة الصوفيين المقرّبين من الرومي، والتي تأخذ جميعها مظهراً قريباً من الهودج المرتفع، وإن كان ضريحه أعلاها وأضخمها، والمكسو بقماش منقوش، تعتليه عمامة صوفيي المولوية المسمّاة بـ"القلبة"، والمميزة بارتفاعها اللافت، لترمز للقبر، فيما ترمز الجبّة للكفن، بحسب الموروث المولوي.

ضريح الرومي من الخارج بمآذنه الرفيعة وقبته المخروطية التركوازية -(تصوير: رشا سلامة)

الطراز العام للضريح، الذي تتوسّط ساحاته المسطحات الخضراء والبازارات السياحية، يمتاز بمآذنه الرفيعة مدبّبة الأطراف، وقبته الفيروزية المخروطية، التي تجعل معظم تحف قونيا تتخذ شكلها، بالإضافة لتحف تجسّد رقصة الصوفيين "سما" وتفاصيل ملابسهم.

عرس الرومي

أشهر ما يُدعى إليه زائر قونيا، عرض المولوية، الذي يتزامن وذكرى الوفاة، وهو اليوم الذي يُطلِق عليه الصوفيون "العرس"؛ ذلك أن الرومي أوصاهم بعدم الحزن على فراقه؛ إذ سيُزفّ عند وفاته للقاء المحبوب؛ لذا، فإن طابع إحياء الذكرى يتخذ شكل الرقص، وإن كان تهجداً وتسبيحاً.

ضريح الرومي من الداخل -(تصوير: رشا سلامة)

يلتئم الصوفيون منذ ما بعد صلاة العصر حتى منتصف الليل؛ ليبتهلوا إلى جانب الضريح ومن ثم يتوجّهون لعرض المولوية، التي يُمنع مرتادها من التصفيق في نهايتها؛ ذلك أنّها تُعامَل كعبادة، برقصة الدوران التي تتميّز بها، والتي تأتي عكس عقارب الساعة وبحركات معينة يرمز كل منها لمعنى صوفي، وعلى صوت الناي الذي يرمز للحزن، لدى أتباع المولوية.

صوفيون إلى جانب ضريح الرومي -(تصوير: رشا سلامة)

ريف قونيا، هو الآخر، يحمل لمحات صوفية؛ إذ إنّ طبائع أهالي منطقة "سيللي" التي تقع في ضواحي المدينة، سمحة متدينة ومحتضِنة للضيف القادم من أي بقعة كانت، وإن كان ملمح التديّن والطقوس الإسلامية والطباع المحافِظة هو المهيمن الأكبر على المدينة ككلّ؛ إذ لا تُقدَّم المشروبات الكحولية في المطاعم  كما ترتدي جلّ النسوة الحجاب.

اقرأ أيضاً: هل يصلح التصوف ما أفسده الفقهاء؟

ما يزال أهالي "سيللي" يُعدّون الفواكه المجففة والدبس ويُحمّصون المكسرات ويجفّفون الأعشاب العطرية، ويصنعون في الأفران الحجرية في "حواكير" البيوت الأكلة الأشهر في المدينة وهي "أتلي أكمك" التي تعني ترجمتها الحرفية الخبز باللحم؛ ليقدّموها للسيّاح بعفوية بالغة، فما يكون من نسوة البلدة،اللاتي يعصمن مناديلهن الملّونة بعقدة في منتصف الرقبة، إلا أن يحتضنّ الزائرات لتوجيه الدعوة لهن،حين تعجز اللغة.

يحضّر أهالي قرية "سيللي" طبق "أتلي أكمك" والبوريك للزائرين-(تصوير: رشا سلامة)

على الرغم من ذلك، فإنّ الطابع الصناعي لقونيا يمشي بالتوازي مع الروحاني، بل يتغوّل عليه في مرات، وهو ما يحاول القائمون على المدينة، التي تضم ما يزيد على مليون نسمة من أتراك وأكراد وتتار وعرب والتي يعود تاريخها لسبعة آلاف عام قبل الميلاد، تكريسه وتعريف الضيف به بإصرار.

تنافر معماري

يقول الصحافي اللبناني السويدي قاسم حمادة إن مدينة قونيا، التي تبعد عن العاصمة أنقرة 225 كم، تعاني أزمة تشبه أزمة مدن عربية عدة، تتمثل في "غياب الهوية؛ بسبب الانقطاع الزمني عن الماضي".

ويتابع في حديثه لـ"حفريات": "إذا ما عقدنا مقارنة مع مدينة برشلونة مثلاً، فلن نلحظ هوة شاسعة بين نمطها المعماري منذ قرون خلت،وصولاً للزمن الحالي؛ حتى الأبنية الحديثة تأتي بمزاج متساوق مع ما سبقه، أما المدن العربية والإسلامية عموماً، فإن النشاز فيها ظاهر بشكل سافر؛ لأنّ القطيعة حادة مع الموروث".

حمادة: لو ركّزالقائمون على الثيمة الصوفية في كل المنشآت الجديدة لاستقطبوا أعداداً هائلة من السيّاح

يقول حمادة إنه لم يلبث أن سَعِدَ بعدم وجود أبنية عالية في محيط مقام الرومي، حتى صُدِمَ بناطحات السحاب وما اصطلح عليه "علب السردين" على بُعد كيلومترات بسيطة منه متسائلاً "ماذا كان يضير القائمين على المدينة لو أنهم بقوا مخلصين لثيمة الصوفية ولو أنّهم وضعوا الجديد كله ضمن هذا السياق المعماري الفريد من نوعه؟".

يرى حمادة أنّ هذا النشاز الذي تشهده مدن إسلامية وعربية "تتمدّد بالطول لا بالعرض بعكس مدن عريقة مثل باريس ولندن وغيرها"، إنما يشير إلى "عدم الارتياح والتصالح النفسي لدى الأهالي، الذين غالباً ما يعانون إشكالات في الهوية؛ إذ هم يريدون الحداثة ويستميتون في تطبيقها من دون تطويعها مع إرثهم القديم الذي يزعمون دوماً أنهم ينطلقون منه".

اقرأ أيضاً: الطرق الصوفية في تركيا.. عبادة أم سياسة؟

"لو أن القائمين على المدينة ركّزوا على الثيمة الصوفية في كل جديد اجترحوه فيها؛ لاستقطبوا أعداداً هائلة من السيّاح والمهتمّين بالشأن الصوفي"،يؤكد حمادة، معللاً ذلك أنّ العالم يُشاهد حالياً صورة مشوّهة عن الدين الإسلامي؛ بسبب ما أُلصِق به من إرهاب، "فيما بقيت الصوفية نقطة مشرقة في عين العالم، ولعلها مفتاح إسلامي لاستعادة الصورة الإيجابية".

مجسّمات شمعية لصوفيين يؤدون رقصة "سما" في متحف الرومي - (تصوير: رشا سلامة)

لعلّ الهدية الأجمل، التي بوسع زائر قونيا ابتياعها من المدينة، التي تضمّ أجناساً من شتى بقاع العالم، كتاب المثنوي للرومي، والمعروض في مكتبات وبازارات عدة، والمؤلف من ستة أجزاء، بالإضافة لمجسّمات الجبّة والقلبة ورقصة سما، التي ترمز لمدينة تجمع بين ثيمات عدة، منها: التديّن والشِعر والاحتفاء بالآخر وقبوله.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية