كأنما قدر الجاحظ أن يموت مرتين وينبعث من جديد

الأردن

كأنما قدر الجاحظ أن يموت مرتين وينبعث من جديد


04/02/2018

أن يقترن اسم الجاحظ بمأساة الكتب، فتلك إحدى مفارقات الزمن الثقافي رغم تباعد القرون. فمثلما سقطت الكتب على عمرو بن بحر، الملقب بـ"الجاحظ" وتسبّبت في موته عام 869 ميلادية، فإنّ قطة شاءت أن تلهو فأسقطت كتباً فوق مدفأة أشعلت مكتبة هي الأشهر والأعرق في الأردن وفلسطين. في الحالتين احترق الجاحظ مرتين، ومنيت الثقافة بنكبتين، كأنما "هولاكو الصدفة" ينبعث من جديد.

تحمل المكتبة في رفوف مخزنها طبعاتٍ نادرة يصل عمرها لمئتي عام؛ من مجلاتٍ ودورياتٍ وكتب بنسخها الأصلية

الشعور بالفقدان، كان جماعياً، مساء الأربعاء الماضي، الذي جرى خلاله الإعلان عن حريق مكتبة الجاحظ بوسط العاصمة عمّان التي تعد من أقدم المكتبات في الأردن وتأسست في القدس عام  1922. أكلت النيران كتباً تشتمل على طبعاتٍ نادرة يصل عمرها لمئتي عام؛ من مجلاتٍ ودورياتٍ وكتب بنسخها الأصلية، تشكل شاهداً على تطور حركة الطباعة في الأردن وفلسطين والعراق ولبنان، كما إنها تعد مراجع وسجلات، قلبتها أيدي الكثير من القراء والباحثين والطلاب.

احترقت لسبب إنساني؛ حيث آوى صاحبها قطة من البرد، وتركها قرب المدفأة، وذهب باحثاً لها عن طعام، فعاد، ليجد النيران تلتهم الكتب

المكتبات العامة ذاكرة القراء

وبدا الحزن غالباً على تعليقات متصفحي مواقع السوشيال ميديا، وبخاصة "الفيسبوك" الذين اعتبروا الحريق كأنّه التهم شيئاً خاصاً بهم، فالمكتبات العامة تشكل ذاكرة القراء، وبصمات عقولهم، لاسيما أن مكتبة الجاحظ، كانت تعير الكتب، وتسمح لروادها بتبادلها مقابل مبلغٍ مالي بسيط، مما جعل من الكثيرين شركاء فيها، وإذ طال الحريق مخزن المكتبة، فإنه لم يطل المكتبة وحدها، بل طال كل هؤلاء.

كثيرون اعتبروا المكتبة شاهداً على تاريخ مدينة عمان، وهي الواقفة وسط مرور الناس وانشغالاتهم وحياتهم اليومية

التضامن الواسع مع مكتبة الجاحظ، ظهرت أصداؤه من خلال منشوراتٍ مختلفة دعت إلى حملة تضامن مع المكتبة كتلك التي قادها الشاب محمد الفاعوري الذي أعلن من خلال صفحته الشخصية بموقع "فيسبوك" عن حملة تبرعاتٍ وجمع كتب لأجل دعم المكتبة. فيما تحدث آخرون عن كون المكتبة "شاهداً على تاريخ مدينة عمان، وهي الواقفة وسط مرور الناس وانشغالاتهم وحياتهم اليومية كمعلمٍ ثقافي وحضاري وتاريخي يشهد على المدينة".

ما جرى في مكتبة الجاحظ كان باعثاً على الألم. "تحولت الكتب إلى وقودٍ للنار"

ما جرى في مكتبة الجاحظ كان باعثاً على الألم. "تحولت الكتب إلى وقودٍ للنار" يعلق محمد المعايطة، أحد أصحاب المكتبة الذي يتولى بيع الكتب فيها، مردفاً "خسرت المكتبة جزءاً يسيراً من مخطوطاتها، وكتباً قديمة بطبعاتها الأولى، بالغ الإعلام ربما في أرقامها، غير أنها تظل خسارة؛ إذ يعود الكثير منها لما يزيد عن مئتي عام".

وأشار المعايطة خلال تصريحه لـ"حفريات" إلى أنّ "جزءاً لا بأس به من هذه المخطوطات، تم عرضها من قبل على وسائل الإعلام، واستفادت منها جامعات كالجامعة الأردنية وجامعة آل البيت، وحصلت على بعضٍ منها، حيث تم حفظها هناك بطريقة الميكروفيلم".

احتراق 10000 رواية

وبسؤاله عن حجم الخسارة من الناحية المادية، أكد المعايطة أنّ ما لا يقل عن 10000 رواية تنتمي للمرحلة الحديثة احترقت جميعها، وهي الأكثر مبيعاً في المكتبة، كما احترق كذلك "3000 آلاف مصحف وعدد من المخطوطات والكتب الأخرى التي كانت ترفد المعرض القابع في وسط البلد بالعاصمة عمان".

وبنبرةٍ حزينة، أشار المعايطة إلى أنّ المعرض الواقع في وسط البلد، "يفتح بابه للقراء طوال 24 ساعة وكل يوم، وأنّ الكتب معروضة للجميع، فهي كتب المارّين، الفقراء منهم قبل الجميع، كما إن أي شخصٍ يستطيع وضع الكتب وأخذ كتبٍ أخرى بدلاً عنها، إضافة إلى الاستعارة التي لا تكلف سوى دينار واحد، وتسمح لأي كان أن يقرأ أكثر".

المعايطة: أي شخصٍ يستطيع وضع الكتب وأخذ أخرى بدلاً عنها، إضافة إلى الاستعارة التي لا تكلف سوى دينار

في غضون ذلك، نقلت وكالات أنباء محلية أردنية، أمراً ملكياً أردنياً بتقديم الدعم اللازم للمكتبة لمساعدتها على النهوض من آثار الحريق.  واعتبر المعايطة، أنّ اللفتة الملكية دفعته إلى "التفاؤل، والاطمئنان على قيمة الكتاب ومكانة بائعه، خصوصاً أنّ القائمين على الجاحظ، هم ورّاقون أيضاً؛ يحفظون المخطوطات والكتب وتعد مكتبتهم مرجعاً للوثائق". وأضاف: "نحن نرفض أية مساعدة مالية من الناس، فالمكتبة أصلاً مكتبة الفقراء والأصدقاء، وهي ملك الجميع، كما إنني سعدت جداً بحجم التعاطف والمحبة اللذين لم أتوقعهما بهذا القدر".

 ما لا يقل عن 10000 رواية تنتمي للمرحلة الحديثة احترقت جميعها

معرض الجاحظ في مرمى الأحداث

وكشف المعايطة لـ"حفريات" أنّ المعرض أيضاً، "تعرض كونه يقع على قارعةِ الطريق في "كشك" بسيط، لنكباتٍ مختلفة، منها فيضان قبل عامين. واصطدمت سيارةٌ به قبل عام، إلا أنه يعود دوماً للعمل متجاوزاً ما يحلّ به".

مكتبة الجاحظ، التي لمعت في ذهن مؤسسها "ممدوح المعايطة"، ثم توارثها الأحفاد "هشام المعايطة" ومحمد المعايطة، ليست أول مكتبةٍ تتعرض للحريق، فالحروب والدمار والعنف طاولت مكتباتٍ شهيرة في العقد الأخير، كمكتبة الموصل في العراق، ومكتبة حلب الوقفية في سوريا، وغيرهما، تسببت في تلف أو ضياع الكثير من ذاكرةِ المكان والزمان، وسجلاتِ الفكر والتاريخ العربيين، أما مكتبة الجاحظ، فاحترقت لسبب إنساني؛ حيث آوى صاحبها قطة من البرد، وتركها قرب المدفأة، وذهب باحثاً لها عن طعام، فعاد، ليجد النيران التي لا تقرأ، تلتهم الكتب. لكن هذه ليست النهاية بالتأكيد، فمعرض المكتبة لا زال يفتح أبوابه، ودائماً، يوجد ما يمكن إنقاذه، للبدء من جديد، وغالباً ما تنهض العنقاء من تحت الرماد، واعدةً ببداية نضرة جديدة، خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بغذاء الروح (الكتب)، الذي ينير الأرواح بشعلة من نور، لا من نار.

الصفحة الرئيسية