كتاب "الإنسان والمقدّس".. هل نبحث عن استقرار المتناقضات؟

كتاب "الإنسان والمقدّس".. هل نبحث عن استقرار المتناقضات؟


16/11/2019

لست متأكداً إن كنت بهذا العرض سأقدم فكرة تعكس بدقة وأمانة محتوى هذا الكتاب الذي نحن بصدده "الإنسان والمقدّس"، تأليف روجيه كايوا، بترجمة سميرة ريشا، المنظمة العربية للترجمة، ولست متأكداً أيضاً أنّ الترجمة العربية قد استوعبته كما ينبغي، لكن يجب أن نقدّر أيضاً أنّ الدين، بما هو ابتداءً إجابة للأسئلة التي عجزت الفلسفة، ومن قبلها العلم، عن إجابتها، وفي ذلك فإنّ الغموض العميق الذي يلفّ الكون والحياة جرى استيعابه على نحو ما بمنظومة من الأفكار والطقوس والرموز والتصورات التي تشعر بالغموض، وتحاول في الوقت نفسه أن تديره وتنظمه، وتدبّر شأن الإنسان في عبوره.

اقرأ أيضاً: وبَطُل السِّحر "المقدس"!
سأقدّم بعض أفكار الكتاب، التي وإن لم تستوعبه بكفاءة؛ فإنّها تمنح القارئ (ربما) قدراً من التصور لعلاقة الإنسان بالمقدس؛ إذ يفترض أيّ تصور ديني للعالم التمييز بين المقدس والدنيوي، والإنسان المتدين هو من يعتقد بوجود وسطين متكاملين، أحدهما يستطيع الإنسان أن يتحرك فيه بعيداً عن القلق، والآخر يضبط فيه كلّ ميل من ميوله ويحتويه ويوجهه شعور حميم بالتبعية، ويتحدّد العالمان، المقدس والدنيوي، كلّ بالآخر، حتى يستحيل بمعزل عن هذه المقارنة إعطاء تعريف دقيق لأيّ منهما.

الدين ابتداءً إجابة للأسئلة التي عجزت الفلسفة ومن قبلها العلم عن إجابتها

يبدو المقدس إحدى مقولات الإحساس، بل هو في الحقيقة المقولة التي يبنى عليها السلوك الديني، تلك التي تمنحه خاصته النوعية، وتفرض على المؤمن شعوراً مميزاً بالاحترام، يحصّن إيمانه ضدّ روح النقد، كما تجعله بمنأى عن الجدل العقيم بوضعها إياه خارج نطاق العقل وما وراءه.
يقول هنري هوبير: "الدين تدبير المقدس، إنّه الفكرة الأم التي يتمحور حولها الدين، على حدّ قول هنري هوبير، فالأساطير والمعتقدات تحلّل مضمونه على طريقتها والطقوس تستخدم خصائصه، والكهنة يجسدونه والمعابد والأماكن المقدسة والصروح الدينية توطده، وتجذره في الأرض، ومنه تنشأ الأخلاقية الدينية، الدين هو تدبير المقدس".
ليس المقدس صفة تملكها الأشياء في حدّ ذاتها، بل هو عطية سرية متى فاضت على الأشياء أو الكائنات أسبغت عليها تلك الصفة، والمقدس، كما يقول هرتز: "عَدَمٌ فاعل"؛ إذ يشكّل المقدس في صورته الأولية البسيطة طاقة خطرة، خفية على الفهم، عصية على الترويض، شديدة الفاعلية.

اقرأ أيضاً: رواية آلموت.. رحلة أدبية في مجاهل الإرهاب المقدس
ما من نظام ديني، حتى بالمفهوم الأعم، إلا وتمارس فيه مقولتا الطاهر والنجس دوراً أساسياً، ومع تمايز مظاهر الحياة الجماعية وتشكيلها ميادين مستقلة نسبياً (سياسة، علوم، فنّ، ..إلخ)، تكتسب كلمتا الطاهر والنجس معاني جيدة، لئن كانت تفوق المعنى القديم دقة ووضوحاً، فإنّها بالفعل عينه تقصر عنه غنى واكتنازاً، ومن المفترض أن يرسو المجتمع والطبيعة على نظام شامل تصونه عدد من المحظورات التي تؤمن سلامة المؤسسات العامة وانتظام الظواهر، فكل ما يبدو ضامناً لصحتهما وثباتهما يعتبر مقدساً.

يعكس تناقض المقدس والدنيوي النظام الكوني الذي يؤلف بين الاستقرار والتغيير

وتمثل الطقوس استعادة للنظام، كما تمثل "الطواطم" في الميثولوجيا العناصر المنظمة للحياة، وهي المحظورات التي يتقيد الأتباع بها، ويخضعون لنظام ضروري من أجل إرضائها، وهذا النظام يساعدهم على حسن إدارة الازدهار العام والحفاظ التام على الطبيعة والمجتمع ودوام الدفق الحيوي للخير، وتمثل الآلهة النماذج المجيدة التي تولد في نفوس الأتباع الثقة والطموح.
المؤمنون يخصّون المقدس بثمن كبير؛ بإعلاننا (نحن المؤمنين) أنّنا نتخلى لأجله عما يعتبره أغلب الناس أجزل الخيرات نفعاً، فيجدّون في طلبه بضراوة ويذودون عنه بأظفارهم، في هذه الحالة لا يظلّ تقسيم المقدس والدنيوي مرتبطاً بتصور نظام العالم، وهكذا يبقى المقدس ما يثير الخشية ويبعث على الثقة والاحترام، إنّه ينفح بالقوة، لكنّه يورط الحياة، وهو يظهر دائماً بصورة حاجز يعزل الإنسان عن سائر البشر، بصرفه إيّاه عن الاهتمامات المبتذلة ويجعله يستهين بالصعوبات والمخاطر التي يحجم عنها معظم الناس.

اقرأ أيضاً: التاريخ إذ يتعالى على الزمكان فيغدو مقدساً!
يعكس تناقض المقدس والدنيوي النظام الكوني الذي يؤلف بين الاستقرار والتغيير، والجمود والحركة، والمادة والطاقة، والثقل الذي يشدّ إلى أسفل والاندفاع الذي يحثّ إلى الأمام، كي تجعل من هذا التعارض صيرورة أو تاريخاً، أو بالأحرى كي تبث الحياة في الوجود، إنّ قوانين البيولوجيا والكيمياء والفيزياء تقدم على اختلاف مراتب الوجود ما طاب من الشواهد على هذا النظام، ويمكن استخدامهما كمفتاح حقيقي من أجل فهم المسائل الرئيسة المتعلقة بستاتيكا المقدس وديناميكيته.

ليس المقدس صفة تملكها الأشياء بذاتها بل عطية سرية متى فاضت على الأشياء أو الكائنات أسبغت عليها تلك الصفة

يتحدّد الدنيوي كونه بحثاً مستمراً عن التوازن؛ أي عن موقف وسطي يسمح بالعيش في المخافة والحكمة من دون تجاوز حدود المسموح أبداً، مرتضياً وسطية ذهبية تظهر التوفيق المؤقت بين قوتين نقيضتين لا يضمن ديمومة الكون إلا إبطال إحداهما مفعول الأخرى على التوالي، إنّ الكائن، جماداً كان أو متعضياً، شعوراً أو مجتمعاً، ببحثه عن مبادئ الحياة وطاقات المقدس الخالصة، التي يمدّ تداخلاً في أجله يبتعد عن الحياة أكثر مما يقترب منها.
المقدس هو ما يهب الحياة ويسلبها في آن؛ إنّه الينبوع الذي تتدفق منه، والمصبّ الذي فيه تضيع، لكنّه أيضاً ما لا يسعنا في أي حال من الأحوال امتلاكه معها بالكامل، فالحياة تلف وضياع، وعبثاً تناضل من أجل الاستمرار في كينونتها والامتناع عن كلّ إسراف وقاية لذاتها؛ لأنّ الموت يقف لها دوماً بالمرصاد؛ فلا مفرّ من الموت الذي لا ينجع فيه دواء، ذلك ما يدركه أو يحدس به كلّ كائن حيّ، إنّه يدرك الخيار المتاح له، وإذا كان يخشى أن يبذل ذاته ويضحي بنفسه، فذلك لإدراكه أنّه بهذا التصرف يبدّد كيانه ويقضي عليه، غير أنّ احتفاظ المرء بمواهبه وطاقاته وممتلكاته، واستخدامه إياها برويّة من أجل أهداف عملية ونفعية، وبالتالي دنيوية، لا ينجّي أبداً، في النهاية، من عجز الشيخوخة ونومة اللحد، كل ما لا يستهلك يفسد، لذا كانت حقيقة المقدس تكمن في سحر الجمر المتوقد، وهول التعفّن والنتن على السواء.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية