كلّ هذه الصراعات الدينية.. لصالح من؟

كلّ هذه الصراعات الدينية.. لصالح من؟

كلّ هذه الصراعات الدينية.. لصالح من؟


15/10/2023

ليس الهدف تعريف الأيديولوجيا بما هي نسق كلي لأفكار وظيفتها تحدد الاتجاهات للسلوك فردياً كان أم جماعياً، وبما أنّ الإسلام ليس أيديولوجيا بحسب كل الأطروحات الفكروية، وبما أنّ الأيديولوجيا هي صيغة مفيدة لتبرير السلوك وتفسير أخلاقيات الفعل اليومي للإنسان، فإنّ الإسلام لم يكن من أجل تبرير أي سلوك، ولم يكن من أجل مصلحة أحد لكنه حتماً من أجل مصلحة أي أحد؛ لأنّ الفرق الجوهري بين "أحد" وبين "أي أحد" هو في الإحالة الدالة على الفرد أو الجماعة أو التيار أو الحزب، أو في الإحالة الدالة على الكل بغض النظر عن الإطار المرجعي الذي يتمثله أعضاء أو أفراد الكل.

حين أنتج "ديستوت دي تراسي" مفهوم الأيديولوجيا في زمن التنوير الفرنسي كان يريد إيجاد وحدة قياس مفهومية في عالم الأفكار والمعتقدات من حيث قدرتها على احتمال الصح والخطأ، وحين جاء الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالإسلام كدين كان يريد بناء نموذج للأسس الأخلاقية، باعتبارها حاسة سادسة للإنسان، بمعزل عن العرق والدين وطبيعة المجتمع وشكل علاقاته، فهذه الأسس ذات طبيعة إنسانوية عمومية، لا تقبل التجزيء والتشظي، وهي ما تأسست عليه فيما بعد، نظرية الأسس الأخلاقية بما هي نظرية نفسية ثقافية اجتماعية معنيّة بشرح أصول التفكير العقلي الأخلاقي لدى البشر عموماً، وتنوعاته على أساس الأسس الفطرية المعيارية. وقد طرحها لأول مرة بحسب التعريف "الويكيبيدي" علماء النفس جوناثان هايدت وكريغ جوزيف وجيسي غراهام وبنوها على أعمال أنثروبولوجيا الثقافية لريتشارد شويدر، واشتهرت في كتاب هايدت بعنوان "العقل الصالح".

  وضع الإسلام أسساً كلية للأخلاق لكنه لم يكن معنياً بأن تتحول أفكاره إلى أيديولوجيات

صحيح أنّ هذه النظرية جاءت كرد على نظرية العقلانية التطورية الأخلاقية، التي تعتمد على أنّ التفكير الأخلاقي يتغير عبر الزمن، لكن تلك الأسس متعلقة بالصيغة الكلية للأخلاق المعيارية، لديها قدرة على الثبات عبر الزمن والتحولات وتنوع الأفكار ومرجعياتها.

لقد وضع الإسلام هذه الأسس الكلية للأخلاق، ثم لم يكن معنياً بأن تتحول أفكاره إلى أيديولوجيات، فهو وإن لم يكن يوماً أيديولوجيا، لكنه لم يكن يوماً بفعل العقل الإسلاموي القابل للتحول والانشطار إلا منتجاً للأيديولوجيات، لكنه أيضا يبقى بعيداً عن أي شبهة تجاه خلق أيديولوجيات ذات طابع صراعي،  لكن المصالح الأيديولوجية حولته إلى حالة قصدية للصراع من أجل إضفاء أو إثبات الشرعيات المتباينة التي ساهمت بشكل عميق في إدخال الإسلام في حيز الأيديولوجيا ونقله من فكرة العالمية إلى الخصوصيات القاتلة.

اقرأ أيضاً: الصراعات الدينية.. كيف تستنزف جماعات الإسلام السياسي المجتمعات؟

لقد تعرض الإسلام كدين، إلى حالة قاسية من التجريف والتحريف، وتقزيم الأهداف والرؤى والتصورات، ومضى في أزمنته المتعاقبة، داخل قوالب احتكارية، احتكرت نصوصه وتفسيراته ورموزه، وارتكبت جناية مزدوجة أولاً على يقينياته، وثانياً على طبيعته القابلة للتطور تبعاً للأحوال والظروف والشكل الثقافي للزمن وتحولاته.

 المصالح الأيديولوجية حوّلت الإسلام إلى حالة قصدية للصراع من أجل إضفاء أو إثبات الشرعيات المتباينة

ثمة يقينيات في الدين لا يمكن إنكارها، وثمة أسس معيارية أخلاقية لا تتقادم، لكنها تأتي إلى جانب ظنّيات كثيرة وديناميكيات دينية تستطيع استيعاب أشكال التحولات، إلا أنّ ما نتج من خلال المتدينين وعنهم من أفكار مكتظة بأيديولوجيات حاولت عزل الدين عن سياق الحياة التطورية، وحلّت محل الدين في إعادة تدشين اليقينيات والقطعيات، ومحاكمة العالم بناء على تصورات متمترسة خلف انغلاقات فقهية حادة.

اقرأ أيضاً: الصراعات الدينية في أفريقيا

الذين حولوا الدين إلى أيديولوجيا كانوا قد اقتحموا الأسس العليا للدين باعتباره عالمياً، وتحويله إلى خصوصية ثقافية صراعية، وبقيت متون الدين متاحة أو مستباحة لاختراقها أيديولوجيا يسهل تطويعها وتسويقها عبرت تمظهرات دعائية، وتحديداً كما يقول مارسيل جبريل في كتابه "البشر ضد الإنسان" بأن الأيديولوجيا تسعى لأن تصبح دعائية- أي انتقالاً آلياً إلى صيغ مغناطيسية بواسطة هدي يشكل في جوهره كراهية، وهذا ما يفسر فكرة صناعة الكراهية العابرة للأديان محمول على متون الأيديولوجيا.

تعرض الإسلام كدين إلى حالة قاسية من التجريف والتحريف وتقزيم الأهداف والرؤى والتصورات

العالمية التي ناضل الإسلام من أجل تحقيقها كمنهج أخلاقي تأسيساً على مبدأ "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" لا يمكن فهمها أو حتى تكريسها إلا في سياق التكاملية الدينية مع أديان العالم والأمم الأخرى، حيث جاءت الشرائع السماوية مكمّلة لبعضها البعض.

إذن، الإسلام لمصلحة من..؟

إنه بلا شك لمصلحة العالم، والعالمية، وهو يشكل مع أديان العالم ورسالات السماء إلى الإنسان فكرة الخيرية والمصلحة العليا والأسس المعيارية للأخلاق الإنسانية عموماً، إلا أنّ ما أفسد كل ذلك هو سيولة الأيديولوجيات التي سالت عبر أقنية مشوهة داخل مسارات دينية، إسلاموية متطرفة، وأرثوذوكسية يهودية متطرفة ويمين راديكالي غربي متطرف.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية