كورونا والخوف الغزيزي: مؤمنون يدعون بالتوفيق للعلماء والأطباء

كورونا

كورونا والخوف الغزيزي: مؤمنون يدعون بالتوفيق للعلماء والأطباء


04/05/2020

أحدث المتغير الذي أوجده الانتشار السريع لفيروس كورونا حول العالم، وإغلاق دور العبادة، لتجنب العدوى، صدمة عنيفة للعقلية الإيمانيّة التقليديّة، التي نشأت على التسليم بقدرة الله وعنايته الفائقة، التي قد تقطع خط التاريخ في أيّ لحظة، لتُغير مساره لصالح المؤمنين، وهو ما أحدث نوبة من الرفض والاستنكار؛ بلغت ذروتها بمحاولات اقتحام مرقد الإمام علي في إيران، وإصرار أتباع الكنيسة الأرثوذكسية في مصر على استمرار طقس التناول، ورفض قرار تعليق الصلاة في المساجد، ولجوء البعض إلى الزراعات والأماكن غير المأهولة لقضاء فرض الجماعة، وكانت الصدمة الكبرى إغلاق الحرمين الشريفين، وتساءل المؤمنون في غضب: أليس ماء زمزم لما شرب له، فلمَ تغلقون أمامنا أبواب النجاة؟

كورونا وتفكيك السردية المتوارثة
بين إمام خرج ليقول إنّ الوضوء يضمن عدم تسلل الفيروس إلى الجسم، وطبيب يؤكد أنّ حبة البركة فيها الدواء الناجز، جاءت المقولات التي تعبر عن محنة حقيقيّة يمر بها الإيمان المتوارث، ما دفع الجموع الممانعة في طنجة وفاس والإسكندرية وغيرها، إلى الخروج وترديد التكبيرات والأدعية الدينية، من أجل رفع البلاء!! استجابة للطرح الأصولي الذي أحال حياة البشر إلى سيناريو مقدر سلفاً، وبما أنّ الأمر كله بيد الله عاجله وآجله، فلنتضرع إليه إذاً طلباً للنجاة.

الخوف هو المحرك الغريزي الأول الذي دفع الإنسان نحو البحث عن خلاص، لذا سيبقى الإيمان في قلب المؤمن كالنور

يقول الفيلسوف الفرنسي هالبواش إنّ القناعات الفردية، لا يمكن أن تنشأ إلا في سياق حاضنة اجتماعية، بفعل تأثير الاحتياجات المادية، والعلاقات الشخصية الفاعلة في الاجتماع، وعليه فإنّ تنحية سماوية الخلاص، واعتباره فعلاً بشريّاً يعتمد على آليات علميّة محضة، أمرٌ يمكن اختباره دوماً في كل إنجاز علمي، وهو بالضرورة لا ينفي الإيمان أو يتعارض معه، وإن كان بالطبع ينسف البنية التقليدية، لكنّ نجاح العلم في التخفيف من أثر الجائحة، وربط ذلك بشكل مباشر بالاحتياجات المباشرة للأفراد، يحقق رؤية هالبواش، في تشكيل سردية جديدة تقوم على تفكيك الرؤى الاعتمادية، التي تعودت الإحالة دوماً على السماء، دون اتخاذ أيّ تدابير وقائية.
في البدء، كان الخوف هو المحرك الغريزي الأول، الذي دفع الإنسان نحو البحث عن خلاص، وكانت السماء بوصفها ذلك الفضاء الغامض الذي تطل منه الأجرام على دنيا البشر فتضيء الظلام، وتنشر الطمأنينة، أو ترسل الأمطار والرعود، فتثير الفزع والرعب، موطناً اتخذه الإنسان لآلهته، لكونها ذلك المكان الذي يأتي منه الخير والشر على حد سواء، ومنذ تموضعت آلهة الأولمب فوق الكابيتول، تقاطعت مسارات الآلهة بأقدار البشر، قبل أن يغلق المسيح الهوة الفاصلة بين العالمين، متجسداً في هيئة إنسان، مقرراً أن يفدي الإنسانية بدمه المسفوك على الصليب.

اقرأ أيضاً: أكاذيب الإسلامويين في زمن كورونا
أدى هذا التقاطع الحاد بين الإلهي والبشري إلى ظهور مؤسسات كهنوتية، فرضت وصايتها، واعتمدت رؤية واحدة للإيمان، بحيث فقدت السرديّة الخلاصيّة الأولى أهم سماتها، وهي أن تكون حرة، لكنّ المحنة الحالية فككت السردية الخلاصية التقليدية لصالح إيمان واحد مطلق، ما حتم على كل المؤمنين أداء صلاة واحدة، بعدما أصبح طريق الخلاص مشتركاً، صلاة ربما تعكس روحها تلك الكلمات التي اختص بها "حفريات" الأب وليم سيدهم اليسوعي، بقوله:
"يا الله رب الكون تطلّع من السماء، وانظر إلى ضعفنا وذلنا أمام وباء الكورونا، نحن أبناؤك وبناتك من كل جنس ولون، اشملنا برحمتك وحنانك، خذ بيدنا واشفنا واملأنا من روحك القدوس، حتى نهزم خوفنا، ونرجع لروح الأخوة التي تجمعنا في حبك" .

انزياح سلطة القداسة لصالح وعي الإنسان
الأزمة أكدت أنّ الإيمان القائم على المعرفة، وتدبر قدرة الله التي وضعها في العقل البشري، واكتشاف الجديد منها باستمرار، يعني المضي قدماً نحو خلاص حقيقي يتسم بالديمومة.
وبحسب هابرماس، فإنّ سلطة القداسة يتم استبدالها تدريجيّاً بسلطة أخرى لإجماع منجز، كالعقد القانوني مثلاً، وعليه فإنّ عملية انتقال القداسة من اللاوعي إلى الوعي، ستؤدي بالضرورة إلى عدة مزايحات، تنسحب فيها الوصاية الدينية التقليدية، التي سلبت الإنسان وعيه، من ميادين متعددة أقحمت فيها نفسها بلا حق، لصالح منظومة إنسانية تتسق وملكات الوعي التي غرسها الإعجاز الإلهي في العقل البشري، فالعيب أبداً لم يكن في الإيمان، وإنّما في الكيفية التي تم بها تمرير أنماط التدين الزائف، والترويج الاستسلامي للمفهوم. 

أدى التقاطع الحاد بين الإلهي والبشري إلى ظهور مؤسسات كهنوتية فرضت وصايتها واعتمدت رؤية واحدة للإيمان

وعليه تؤكد المحنة على جماعية الخلاص، لا فارق بين الديانات الكبرى والصغرى، وهو ما يمكن رؤية مؤشراته على صعيد مبادرات الصلاة من أتباع جميع الديانات المختلفة، من أجل نجاة واحدة، تتعلق فيها قلوب المؤمنين بما يدور في أروقة المعامل والأكاديميات العلمية، وفي ذلك يقول هادي بابا شيخ، ممثل الزعيم الروحي للطائفة الأيزيدية في العراق لـ"حفريات"؛  لنبتهل إلى رب العالمين أن ينجّي الجميع من هذا الوباء، وندعو أبناء الديانة الأيزيدية إلى الدعاء بنجاح محاولات الأطباء والعلماء لإيجاد علاج لهذا الفيروس، ونبتهل إلى الله أن تنجح جهود المؤسسات ذات العلاقة والعلماء، إلى نجاح جهودهم في إيجاد العلاج، والمواطنين إلى الصبر والتكاتف ومساندة بعضهم البعض، ونثمن في الوقت نفسه جهود الخيّرين، الذين يخففون أعباء الحياة على الفقراء في هذه الأزمة.


يعكس هذا الطرح إيماناً حقيقيّاً بقدرة الله على إلهام الإنسان، وقدرة الأخير على توظيف هذا الإيمان بشكل عقلاني، يفصح عن إدراك طبيعة العلاقة بين العقل والدين، بعيداً عن الخلاصات الفردية؛ لأنّ النجاة ببساطة تعني أن يكون الخلاص للجميع، وفي ذلك يقول القس إكرام لمعي الأستاذ بكلية اللاهوت الإنجيلية لـ"حفريات"؛ ندعو أتباع جميع الأديان والمذاهب والطوائف أن يقفوا معاً أمام الله، سائلين أن يرفع عنا الوباء، بأن يرشد العلماء في معاملهم الذين يصلون الليل بالنهار للوصول إلى العلاج الناجح لوباء الكورونا.

اقرأ أيضاً: لماذا نحن خائفون جداً من فيروس كورونا؟
وفي هذا السياق يختص لمعي "حفريات" بهذه المناجاة: أيها الإله العظيم القدير، الواحد الأحد، الخالق المعتني بخليقته، نشكرك ونحمدك لأنك أوجدتنا على هذه المسكونة، لكي نعبدك ونمجدك بإعمار الأرض، ونحن نؤمن أنّك خلقت لنا كل ما هو جميل وطيب وممتع، وأعطيتنا القدرة على أن نفكر لأجل المستقبل الأفضل، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، وعلمتنا عن ذاتك الإلهية من خلال أنبيائك وكتبك، ومنطق عقولنا بأنّك تحب الإنسان لأنّه عمل يديك، ولأنّه يحقق أهدافك التي كانت أمامك، يوم قررت أن يكون هناك إنسان شبيه لك في العقل والإرادة مع الفارق- بالطبع- بين الكامل والنسبي، المطلق والمحدود، وأوصيته بالحب والعدل والخير والجمال، لكن البشر انقسموا إلى قسمين: الأول سار على دربك ووصاياك، فحقق المستحيل وصنع حضارة إنسانية عظمى، ومازال يستكمل المشوار إلى كل ما هو جليل ونافع وجميل، وهناك من الناحية الأخرى من استخدم نفس الامتيازات للشر والقتل والتدمير والكراهية، وكانت نتيجة ذلك التخريب والأمراض والأوبئة، ولقد وصل فساد هذا الجانب من خليقتك أنّهم أفسدوا حتى الدين، إذ اعتقد البعض منهم أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، والحقيقة المطلقة هو أنت يا الله جل جلالك، فأصبح النسبي يتحكم في المطلق.

اقرأ أيضاً: هكذا يستغل اليمين المتطرف في ألمانيا أزمة كورونا
ويعبر البيان الذي أصدره البهائيون في مصر، عن هذا الموقف الإنساني الجماعي، حيث أكدوا أنّ القوة الجماعية للمجتمع من مستوى القاعدة الشعبية، وحتى الصعيد العالمي منوطة بالوحدة والاتحاد، وأنّنا جميعاً متساوون، بغض النظر عن ثقافتنا وديننا ومهنتنا وقدرتنا الاقتصادية، تلك القوة تعتمد على مدى رعايتنا لبعضنا البعض، والاستفادة من تجارب الآخرين، والخدمة والعطاء والتحلي بالصبر. إنّ هذه الأزمة تسببت في الكثير من الأضرار، ولكنها كانت بمثابة صحوة تدعو إلى ضرورة ازدياد الشعور بالمحبة للجميع، والإحساس بالآخرين، كما أعطتنا الفرصة لتقييم حياتنا، وما كانت عليه من قبل، ومراجعة أساليب الحياة الاقتصادية الاستهلاكية، التي طغت على الجانب الروحي للإنسان.


ويواصل بيان الطائفة البهائية؛ من المفروض أنّ الحياة الاقتصادية ميدان لتطبيق قيم الأمانة والنزاهة والكرم، وغيرها من صفات الروح، وأنّ خير أيّ جزء من المجتمع ورخاءه يعتمد بشكل وثيق على خير ورخاء الكل، ومن ثم أصبحنا نرى اليوم بوادر اهتمام أكبر بأوضاع البشرية ومصالحها ككل، موقنين أنّنا لا نستطيع أن نعيش في عزلة عن الآخرين.
ودعا البهائيون إلى مبادرة دعاء جماعي يشارك فيها الجميع من مختلف الأديان والأعراق والطبقات، للخروج من هذه الأزمة، وقد اكتسبت البشرية رقيّاً روحانياً جديداً.
الإيمان في ضوء ذلك سيبقى في قلب المؤمن، كالنور يضيء دروب الخير، ويحفز العقل على الإبداع، ويوحد بين جميع البشر في صلاة جماعية للإله الواحد، صلاة تؤمن بالمحبة والضمير الأخلاقي، وسيبقى الإيمان ما بقيت السماء تطل على الأرض ببشائر الخلاص، وما بقي فضاء يسبح فيه وعي الإنسان، وما بقي قلب يبصر قوانينه في الوجود، فينبض بالحب المطلق لبني الإنسان، ذلك الإيمان وحده هو الذي يمنح العلماء في أروقة المعامل وحياً جديداً، يحمل الأمل في هذه الأوقات الصعبة.


انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية