"كورونا" يقلب المعادلات ويخلط الأوراق

"كورونا" يقلب المعادلات ويخلط الأوراق


18/03/2020

عرفان نظام الدين

من كان يصدق أن كائناً مجهرياً دقيقاً لا يرى بالعين المجردة يغزو الكرة الأرضية ليمسك بخناق العالم، لا فرق بين غني وفقير وكبير وصغير... ومن كان يتوقع أن يتمكن فيروس ما من قلب المعادلات في العالم وتهديد الأوضاع العامة وشل الحياة وخلط الأوراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية في كل مناحي الحياة العامة والخاصة.

حصل كل هذا من فيروس كورونا لينسف نظرية العالم قرية صغيرة واحدة من الناحية السلبية، حيث أغلقت الدول حدودها ومنافذها والتزمت حجراً صحياً والتفتت كل واحدة منها إلى محاولة حل المعضلة وحصر الداء وإيجاد الدواء لتأخذ بطريقتها العولمة التي تغنينا بها في مطلع القرن، فأصبحت عولمة الأمراض والمصائب بدلاً من عولمة التضامن والثورة التكنولوجية.

هذا من حيث المبدأين، أما بالنسبة لتداعيات هذا الفيروس المرعب على السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية فحدث عنها ولا حرج بانتظار جلاء الأوضاع مع التأكيد على مقولة "ما بعد كورونا لن يكون مثل ما قبله".

نبدأ بالصين مركز انطلاق الوباء الجائحة الذي ضرب العالم وهز أركان التنين المرعب الذي كان مدار تنبؤات وتوقعات بأن تصبح هذه الدولة القوى العظمى الأولى في العالم اقتصادياً وعلمياً وحتى عسكرياً وتقنياً،  فقد أشارت التقارير إلى أن الخسائر المادية لا تقدر حتى يومنا هذا، بل ستصل إلى أكثر من تريليون دولار عدا عن الخسائر البشرية وتعطل الإنتاج ووقف المصانع وتعطل عمليات التصدير التي كانت تذهل العالم كله.

وعند ذكر الصين، لا بد من التركيز على العلاقات مع الولايات المتحدة التي شهدت في عهد الرئيس دونالد ترامب أزمات وهزات وعقوبات ومفاوضات عسيرة، إلى أن بدأت العقد تتفكك، فجاء الوباء ليجمد كل شيء ويعطي الولايات المتحدة ورقة قوة في المفاوضات المقبلة، إلا أن الترابط بين الدولتين لا حدود له، خصوصا أن كثيرا من المصانع والإنتاج الإلكتروني يعود لمستثمرين أمريكيين تقدر استثماراتهم بأكثر من تربليون دولار في المقابل.

تعيش الولايات المتحدة أياماً عصيبة بعد تفشي الوبا وانهيار البورصات وتعطل عجلة الاقتصاد، وهو ما يثير القلق بالنسبة لترامب وحملته الانتخابية، فقد كان يضمن الفوز في انتخابات الرئاسة للتجديد لولاية ثانية، معتمداً على النمو وازدهار الاقتصاد وإيجاد آلاف فرص العمل، لكن هذه الأزمة قد تقلب الموازين في حال استمرارها لفترة طويلة لولا تحرك الرئيس الأمريكي بإصدار قرارات مهمة لاستيعاب خسائر الأزمة وخفض معدل الفائدة وضخ مليارات الدولارات لوقف مسيرة الركود.

أما الاتحاد الأوروبي فقد كان يعيش فترة نقاهة بعد ضربة خروج بريطانيا (بريكست) ومحاولة إعادة رص الصفوف، وبدأ مرحلة التعافي، لكن كورونا ضرب ضربته وطال معظم الدول، وأنهك اقتصادها ودفعت إيطاليا الثمن الأكبر الذي سيرهق ميزانية الاتحاد.

أما بريطانيا الخارجة حديثاً من الاتحاد، فقد كانت ضربتها أشد إيلاماً، لأنها جاءت في وقت كانت تستعد فيه للصمود وتجاوز تداعيات الخروج، لكن كورونا أقعدها وخفف من انطلاقتها وقلل من احتمالات الحصول على مكاسب كبرى من اتفاق موعود مع الولايات المتحدة.

وباختصار، فإن كل دول العالم تعاني بشكل مباشر أو غير مباشر من مصائب الآخرين، إلا أن روسيا التي أعلنت عن إصابات عديدة لم يظهر عليها أي إشارات قلق أو تعطل عجلة الحياة، وذلك الأمر بالنسبة لدول آسيا وأمريكا اللاتينية التي تعيش معاناة قديمة، أما إيران فقد زاد كورونا من أزمتها ومشاكلها وما بقي من اقتصادها، فشل قدراتها وخفف من دورها الإقليمي، ما زاد من معاناة الشعب الذي يعيش في حالة حصار.

أما بالنسبة للدول العربية، فإن آثار تداعيات الأزمة متباينة التأثير والأضرار، أما بالنسبة لدول الخليج فبقيت الأمور في حدود المعقول بعد إجراءات الحجر وإغلاق المنافذ، ولكن آثار الأزمة أدت إلى انحفاض أسعار البترول على أمل ألا تستمر الأزمة طويلاً. كانت دولة الإمارات العربية المتحدة سباقة في صد التداعيات وضخت أموالاً كافية لإنعاش الأسواق وإعادة التوازن للبورصة، وهو ما فعلته السعودية وباقي دول الخليج.

أما الدول العربية الأخرى فقد أصاب كورونا مفاصلها بشكل أو بآخر لتضعف مسيرة الاقتصاد وتجمد خطط التنمية، إلا أن المتضرر الأكبر كان لبنان الذي يعيش في نفق أزمات متكررة بعد المظاهرات واستقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة وضعت عليها آمال بأن تحل مشكلة التعثر في تسديد استحقاقات الديون المتراكمة، إلا أن كورونا نسف الآمال، وزاد الطين بلة، خصوصا أن الدول القادرة على المساعدة تعاني بدورها، ولا تملك المال الكافي لتلبية مطالب لبنان.

ولم تمر الأزمة دون الحديث عن نظرية المؤامرة وتبادل الاتهامات بين الدول المعنية، خصوصا إيران والصين والولايات المتحدة، وكثرت الشائعات عن المستفيد من المصيبة والجهة التي نشرت الفيروس وغيرها من التخيلات، مثل دور معامل الأدوية الأمريكية أو عن مسارعة الصين لشراء أسهم الشركات الأمريكية بأسعار بخسة بعد انهيارها نتيجة للجائحة.

باختصار شديد، نحن لا نعيش في عصر كورونا فحسب، بل نعيش في عصر ما بعد بعد كورونا، وما علينا إلا الدعاء والتوكل على الله.

عن "العين" الإخبارية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية