كيف أخرس نظام أردوغان صوت المطربة الشابة هيلين بولاك؟

كيف أخرس نظام أردوغان صوت المطربة الشابة هيلين بولاك؟


12/04/2020

في حكايا المقاومة وقصص الثوار، كانت الشعوب إذا ما غُلبت على أمرها، واستبد بها الظلم والقهر، لجأت إلى المقاومة بالفن والغناء، وسرعان ما تنتشر أغاني المقاومة كالنار في الهشيم، فتؤرق الطغاة وتقضُّ مضاجعهم، وتعزي المهمشين، وتمنحهم القدرة على الحياة في ظل ما يكابدونه من شقاء، وربما كانت قصة فرقة "يوروم" الغنائية التركية، واحدة من قصص المقاومة بالفن، والثورة عن طريق الغناء.

سردية الفقر حاضنة لفن المقاومة

في العام 1985، كان التفاوت الطبقي الفج، وتوحش آليات الاستغلال الرأسمالي، دافعاً لأربعة من الطلاب الجامعيين في تركيا، لتأسيس فرقة "يوروم" الموسيقية ذات الميول اليسارية، والتي انطلقت بين أحياء الفقراء والمعدمين، تستلهم من سردية الفقر الحزينة كلمات وألحان، تشتبك فيها مع الواقع الأليم، وتحاكي أمنيات البسطاء، فتبعث الأمل في غد قد تنتهي معه كل عذابات الأيام الثقيلة.

خرجت هيلين من المعتقل، أشدّ إصراراً على مواصلة المقاومة، لا تملك سوى صوتها كأداة وحيدة للمقاومة

ولأنها انطلقت من انكسارات الواقع وأحلام المهمشين، حققت "يوروم" نجاحاً شعبياً كاسحاً، ورغم محاولات التضييق والحصار والملاحقات الأمنية، أصدرت الفرقة نحو عشرين ألبوماً غنائياً، وانتشرت أعمالها خارج الحدود التركية؛ بل وأقامت حفلاتها الثورية في معاقل العالم الرأسمالي، بإنجلترا وفرنسا وألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية، وتعددت مجالات عملها؛ حيث صدرت عنها مجلة "تافير"، المختصة بنشر ثقافة المقاومة ضد الاستغلال الرأسمالي، بالفن والأدب وشتى أشكال الثقافة.

في العام 2010، كان المشهد في استاد بشكتاش الرياضي يبعث على التأمل، وقد أحيت "يوروم" حفلاً موسيقيّاً صاخباً بمناسبة مرور ربع قرن على تأسيسها، وامتلأت المدرجات بعشرات الآلاف من الجماهير التي تفاعلت بشكل غير مسبوق مع ما يقدمه الفريق الغنائي من أغنيات، حملت مضموناً متعاطفاً مع أحلامهم ومدافعاً عنها، وهاجمت الرأسمالية بعنف، فأدرك النظام أنّه بات في خطر قد يفقده المزيد من شعبيته.

أردوغان وإسكات صوت الحرية

مع صعود حزب العدالة والتنمية، وتبني رجب طيب أردوغان سياسات قمعيّة منقطعة النظير تجاه المعارضة، أيّ معارضة، عاشت "يوروم" أوقاتاً عصيبة، مع اتهامها بالارتباط بحزب التحرير الشعبي الثوري المحظور, وعلى الرغم من أنّ الفرقة لا تنتمي إلى أيّ حزب سياسي، إلا أنّ طبيعة ميولها اليسارية، منحت نظام أردوغان ذريعة للتنكيل بأعضائها والزج بهم في السجون، وسط تقارير حقوقيّة تشير إلى تعرض المعتقلين للتعذيب، للإدلاء باعترافات تؤكد الرواية الحكومية.

قررت هيلين بولاك أن تطلق صرختها الأخيرة، وقد احتبس الصوت الصادح بأغنية الحياة، واختنق اللحن المبشر بنور الحرية

شددّت الحكومة التركية من اجراءات الحظر على فرقة "يوروم"، وزجت بالمزيد من أعضائها في السجون، مع استمرار حملات المداهمة والملاحقة، وهو الأمر الذي أزعج نجمة الفرقة، المطربة الشابة هيلين بولاك، والتي صعدت هي الأخرى من نغمة المقاومة، فما كان من النظام إلا أن اعتقلها في العام 2016، لكنّه فشل في إخماد صوتها؛ فالأغنيات تنتشر أكثر وأكثر، حتى وإن كان صوت صاحبها حبيساً في معتقلات الطغاة.

خرجت هيلين من المعتقل، أشدّ إصراراً على مواصلة المقاومة، لا تملك سوى صوتها كأداة وحيدة للمقاومة، لكن التعديلات الدستورية التي أُقرت في العام 2017م، والتي اعتمدت نظام الرئاسة التنفيذية التي تحل محل نظام الحكم البرلماني، منحت آلة القمع الأردوغانيّة مزيداً من الصلاحيات، لتصل إلى مرحلة التوحش، والانتقام المفرط من المعارضة، لتنال فرقة "يوروم" قدراً فائقاً من التنكيل، مع تخصيص سجون بنظام خاص لأعضائها والموالين لها، حيث أصبح الاستماع لأغنياتها جريمة يعاقب عليها قانون أردوغان، ولأول مرحلة في التاريخ، تصبح الأغنية جريمة!

معركة البطون الخاوية صيحة في وجه زبانية أردوغان

قررت هيلين بولاك أن تطلق صرختها الأخيرة، وقد احتبس الصوت الصادح بأغنية الحياة، واختنق اللحن المبشر بنور الحرية، لتدخل فيما يعرف بصيام الموت، وهو إضراب كلي عن الطعام، تضامناً مع رفاقها المعتقلين، ورغم ترنح الجسد النحيل، وشحوب الوجه الجميل، رفضت هيلين كل محاولات إثنائها عن الإضراب، واشترطت أن تقوم السلطات الأمنية بالإفراج الفوري عن أعضاء الفريق الغنائي، والكف عن سياسات الحظر والملاحقة وسحب التراخيص ومنع الحفلات، وهو ما تجاهله النظام تماماً، رغم محاولات الضغط التي مارستها منظمات حقوقيّة، في ظل التدهور الحاد في حالة هيلين الصحية، مع مواصلتها الإضراب لشهور متتالية، وقد أظهرت الصور الأخيرة الملتقطة لها نحولاً جسدياً هائلاً بات ينذر بموت وشيك.

لم يعد أمام الآلاف من سجناء الرأي في زنازين أردوغان، غير صيام الموت، كوسيلة أخيرة للمقاومة

وفي يوم الجمعة، الرابع من نيسا (أبريل) الجاري، كان العالم على موعد مع تلك التغريدة الحزينة والمتوقعة لفرقة "يوروم": "استشهدت هيلين بولاك التي كانت تخوض إضرابا عن الطعام منذ 288 يوماً".

وهكذا، ماتت صاحبة الثمانية وعشرين عاماً في معركة البطون الخاوية، لتوجه صفعة رمزية لنظام قمعي، افتقد الحد الأدنى من الإنسانية، نظام اعتاد التنكيل بمعارضيه؛ لأنّه ببساطة نظام مذعور، يتوقع السقوط في كل لحظة.

في وداع هيلين، كان زميلها إبراهيم جوكشيك، والذي بدأ معها الإضراب عن الطعام، يبدو هزيلا مترنحاً وقد فقد أكثر من نصف وزنه، واقترب من مصير صديقته، لكنّه لم يفقد إرادته، مودعاً إياها، مع توقع اللقاء بها بعد أيام قليلة في ظل حالته المتأخرة، وتحولت جنازة هيلين إلى مظاهرة غاضبة ضد خليفة القمع وحزبه، فما كان من الشرطة إلا أن اقتحمت الجنازة، واعتدت على المشيعين، واعتقلت البعض منهم.

اقرأ أيضاً: كيف يحارب أردوغان الأكراد بورقة النفط السوري؟

وعليه، لم يعد أمام الآلاف من سجناء الرأي في زنازين أردوغان، غير صيام الموت، كوسيلة أخيرة للمقاومة، بعد أن سقطت كل الأقنعة عن النظام التركي والمتواطئين معه بموت هيلين بولاك، ففي الوقت الذي تمارس فيه جماعة الإخوان المسلمين، كل أشكال الضغط للإفراج عن معتقليها، تغض الطرف عما يجري في السجون التركية من تعذيب وتنكيل وقتل صريح.

اقرأ أيضاً: أردوغان واغتيال حرية التعبير

ربما تصبح هيلين بولاك أيقونة جديدة من أيقونات المقاومة والتحرر، وربما يخلدها التاريخ ورفاقها، بعد أن ضربت المثل في التضيحة والإيمان بقضيتها، وربما يردد العالم أغنياتها ذات يوم بشيء من الفخر، بعد أن يدرك الجميع حجم المأساة التركية، لكن المؤكد أنّ لعنتها سوف تطارد أردوغان وزبانيته إلى الأبد.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية