كيف أصبحت الإمامة الكبرى من صلاحيات "الولي الفقيه"؟

كيف أصبحت الإمامة الكبرى من صلاحيات "الولي الفقيه"؟


04/08/2019

تعدّ "الإمامة" أحد أركان المذهب الشيعي، وأصلاً من أصوله، ومن أجل ذلك سمّي الشيعة "الإمامية"، وهذا المحور ولوازمه مرتكز الخلاف بينهم وبين "أهل السنّة" كبرى المذاهب الإسلامية.

اقرأ أيضاً: أبو بكر الأصم.. المعتزلي الذي أنكر وجوب الإمامة
وتكاد تجمع طوائف الشيعة على علوية الإمامة، وأنّ ذلك بنصّ ووحي صريح، مع اختلاف بينهم في تسلسل الأئمة، إلا أنّ الشيعة الإثني عشرية تميزوا بمنهج أكثر تقعيداً ورسوخاً في هذه المسألة؛ حيث لم تكن هذه النقطة، على أهميتها، واضحة في المذهب في البدايات؛ بل بدأ تشكلها مع الزمن، انطلاقاً من تحديد أسماء "الأئمة المعصومين"، مروراً بالمهدي، إلى أن وصل الأمر في العصر الحاضر لنظرية ولاية الفقيه الحاكمة في إيران، معقل الجعفرية، التي جعلت من هذا الركن الاعتقادي مسألة شكلية أفرغته من مضمونه الولائي والسلطاني.

طوال سبعة قرون من حدوث الغيبة لم تحصل اجتهادات لخرق قدسية الإمامة التي يجب أن تكون من صلاحية الإمام الغائب

لا يمكن الحديث عن الشيعة والإمامة دون أن تكون الطائفة الإثني عشرية هي موضوع النقاش؛ فهي الأكثر عدداً وتأثيراً، إضافة إلى تراثها الضخم في التأصيل للمذهب، وحضورها الدائم منذ اكتمال ملامحها كفرقة أو مذهب له أصوله المعروفة،  في كلّ مجالات العقائد والفروع، وهي غالباً المقصودة عند ذكر مصطلح الشيعة، ولأنّ الإمامة عندهم أمر نصّي، لا يحتمل الخلاف؛ فقد جعلوا أول الأئمة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ثم ابنه الحسن، ثم الحسين، رضي الله عنهما، ثم استمرت في ذرية الأخير حتى الحادي عشر، وهنا يظهر بوضوح تفضيل الفرع الحسيني في البيت الفاطمي لدى الشيعة عامة، وفي مقدمتهم "الإمامية".

اقرأ أيضاً: ثنائية طائفية يسوقها الولي الفقيه
بعد الغيبة الصغرى، منتصف القرن الثالث الهجري، كان لزاماً على مجتهدي الشيعة نظم قاعدتهم في الإمامة، التي تستلزم وجوده؛ سواء في الحضرة، أو الغيبة "العينية" لا الحقيقية، بناء على أصول المذهب الجعفري في أنّ الأرض لا تخلو من حجة وإمام، وهذا ما جعل أئمة الشيعة يقولون باختفاء الإمام الثاني عشر، بأمر إلهي، ويقولون إنّه سيظهر ليحقق العدالة لجميع سكان الأرض، وكون الإمامة ركناً عند الشيعة؛ سبّب هذا الاختفاء مشكلة في الحكم، جعلت أتباع المذهب الشيعي أمام إشكالية في تسيير أحوال البلاد والعباد، خاصة أنّه مع الغيبة الكبرى لم يعد يوجد مبلّغون عن الإمام، وهذا ما أحدث جدلاً فقهياً وعقدياً.

اقرأ أيضاً: "ولاية الفقيه".. حين انقلب الخميني على الفقه السياسي الشيعي
وإزاء هذه المشكلة في أهم ركن ديني عند الشيعة الإمامية؛ ظهرت بعض الاجتهادات التي تحاول تطويع النصّ القطعي عند الجعفرية، في شخوص الإمامة وشروطها؛ من أجل محاولة التغلب على شرعية السلطان، والخروج من دور الإرجاء الخفي، وتعطيل كثير من الأحكام الجوهرية في الإسلام؛ كصلاة الجمعة والجهاد، فضلاً عن الأدوار السلطانية وقيام الدولة.
وكانت الإرهاصات الأولى عن طريق المدرسة البغدادية؛ من أمثال الشيخ المفيد والطوسي، إلا أنّ مدرسة الحلة تبقى هي الأكثر تأثيراً في تفسير النصوص وتكييفها، لمحاولة إيجاد مخارج لأهل الشوكة من الإمامية، دون الاصطدام بحصر شرعية الإمام في المهدي المنتظَر، الذي دخل في غيبة كبرى طال وقتها، رغم حيوية الأدوار التي يقوم بها، ويكفي مثالاً على ذلك؛ تعريف ابن المطهر الحلي لوظائف الإمام: "الإمام هو الإنسان الذي له الرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا بالنيابة عن النبي".

اقرأ أيضاً: دموية ولاية الفقيه في العراق
ونلاحظ في هذا التعريف الصرامة والقدسية اللتين يجب أن تكونا في شخص الإمام، ومع هذا ساهم مع فقهاء عصره في ترسيخ نظرية التفويض، التي تخوّل بعض صلاحيات الإمام الغائب للفقهاء العدول.
ويكاد ينحصر ذلك في أمور مالية، أو في حدود دون الدماء، مع اجتهادات من قبل بعض علماء الحلة الشيعة (محمد بن إدريس) تجيز التفويض في الحدود، بما في ذلك الدماء، إلّا أنّها لم تصل للسلطانيات والأمور العامة.
طوال سبعة قرون من حدوث الغيبة، لم تحصل أيّة محاولات أو اجتهادات لخرق قدسية الإمامة، التي يجب أن تكون حصراً من صلاحية الإمام الغائب "المهدي المنتظَر" رغم بعض الاجتهادات  فيما يتعلق بالتفويض، بحجة  تدبير شؤون أتباع المذهب، دون أن يصل ذلك لأيّ دور سلطاني، إلا أنّ هذا المسار طرأ عليه بعض التغيير على الراجح؛ بسبب الأثر السياسي الناتج عن الخلاف بين  طهماسب، ابن مؤسس الدولة الصفوية، والمجموعة القزلباشية، في ثلاثينيات القرن العاشر الهجري.

اقرأ أيضاً: كيف يمكن وصف نظام الولي الفقيه بالعلمانية؟
وهذا ما جعل نجل الشاه يستنجد بالفقيه الجعفري الكبير، علي الكركي، بصفته نائباً عن المهدي الغائب، وهذا ما أثار مشكلة عقدية وفقهية كبيرة لمعارضة ذلك  لأصول الاعتقاد لدى الشيعة الإمامية، وكانت مراسلات إبراهيم القطيفي مع الفقيه الكركي من أبرز هذه السجالات.
وفي النهاية؛ أدّى موقف الكركي إلى وجود ما سمِّي "نيابة الإمام" من قبل الفقيه دون السلطة التنفيذية.
وتعزّز هذا الدور مع الدولة القاجارية، وأصبح الفقهاء بمثابة المستشارين للسلطان، كما هي النتيجة الفعلية لموقف الشيرازي من اتفاقية التنباك التي أبرمها الشاه مع البريطانيين.
وبقيت أدوار الفقهاء، رغم كلّ ذلك، في حدود الشأن الجماهيري، ودائماً تحت عباءة السلطان أو بتوافق معه.

اقرأ أيضاً: 6 معارضين من علماء الشيعة لولاية الفقيه.. لماذا رفضوها؟
نظرية "ولاية الفقيه"، كما قدمها الخميني في مصنفاته، تتعارض بشكل كبير مع الدور المنوط بـ "الإمام الغائب المهدي"؛ حيث يمكن القول (وبدون تحفّظ): إنّ الحاجة إليه انتفت ولم تعد قائمة، وباتت مهام الإمامة الكبرى من صلاحيات "الولي الفقيه"، ولعلّ هذه النتيجة هي التي جعلت مراجع إمامية جعفرية كبيرة ومعتبرة ترفض اجتهادات الخميني.
فقد أنكر هذا التفسير لدور الفقيه زعيم الحوزة العلمية بالنجف، آية الله الخوئي، والمرجع الشامي، محمد جواد مغنية، وشيخ الخميني آية الله شريعتمداري، الذي توفي في ظروف غامضة.
وانطلاقاً من هذا التفسير، الذي أصبح مطبقاً بعد الثورة الإيرانية، التي قادها الفقيه نفسه، صاحب النظرية، أصبح هناك خلل في ركن الدين الإسلامي الأعظم عند الشيعة الجعفرية؛ وهو "الإمامة"، ولا سيما أنّ الخميني لم يترك أيّ مجال للتأويل فيما يخصّ الصلاحيات المهدوية التي جعلها في يده، وهنا تحضر واقعة معروفة، حصلت عام ١٩٨٨؛ عندما اعترض رئيس الجمهورية "المرشد الحالي"، في خطبة الجمعة، على تمرير وزير العمل لقانون دون أن يحظى بموافقة الهيئات الافتراضية، وذلك بدعم من الخميني، والذي وجه رسالة قوية لخلفه لاحقاً، جاء فيها: "كان يبدو من حديثكم في صلاة الجمعة، ويظهر أنكم لا تؤمنون بأنّ الحكومة تعني الولاية المخوَّلة من قبل الله للنبي الأكرم، صلّى الله عليه وسلّم، مقدمة على جميع الأحكام الفرعية الإلهية، لا بدّ أن أوضِّح أنّ الحكومة شعبة من ولاية رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، المطلقة".

نظرية ولاية الفقيه كما قدمها الخميني في مصنفاته تتعارض بشكل كبير مع الدور المنوط بالإمام الغائب المهدي

فهذا الخطاب ليس إلا تخلياً عن ركن "الإمامة" بشروطه المعروفة عند فقهاء الإمامية وإفراغه من محتواه، ولم يقف الموضوع عند النطاق الإيراني فقط؛ بل تجاوزه ليشمل معظم مناطق التواجد الشيعي، خاصّة في العالم العربي، وهذا ما نراه في الأحزاب نصف دينية سياسية، التي استنسخت النموذج الإيراني وولاية الفقيه، تاركة خلفها مدارس عتيقة في المذهب؛ كالحوزة النجفية، والمدرسة العاملية؛ لذا من حقّ سائل أن يسأل، وهو سؤال وجيه في تقديري، عن ماهية هذا الشرخ الذي أحدثته نظرية "ولاية الفقيه" وتطبيقاتها في جمهورية الثورة على أصول المذهب الشيعي الجعفري، ومدى ملاءمة هذا التعليل لدور المرشد الفقيه لروح المذهب الشيعي؛ بل ونصّيته فيما يخصّ الإمام شروطاً وأدواراً.


إنّ هذا الالتباس الحاصل في مفهوم ركنية "الإمام"، بعد اجتهادات الخميني وتطبيقات إيران لفقهه ونظريته في الحكم، تحتم على فقهاء الشيعة الجعفرية القيام بدورهم في تصحيح المسار العقدي للمذهب، وتماسكه مع قواعده وأصوله، وتوضيح ذلك للعامة، كما هو حاصل مع نظرائهم من السنّة، الذين نقدوا، وينقدون، أيّ فكر لا يتوافق مع أصول منهجهم.
وهذا ما نراه صريحاً وواضحاً في التعامل مع بعض الأحزاب والجماعات التي تزعم الانتساب لأهل السنّة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية