كيف أصبحت الدولة الأولى عالمياً في جودة الحياة موطناً للمتشددين؟

كيف أصبحت الدولة الأولى عالمياً في جودة الحياة موطناً للمتشددين؟


23/11/2020

ترجمة: محمد الدخاخني

رغم مأساويّته، لم يكن الهجوم الإرهابيّ الذي وقع في فيينا، في 2 تشرين الثاني (نوفمبر)، مفاجأة كبرى لخبراء مكافحة الإرهاب في أوروبا، لقد أعادت الأحداث التي وقعت في فيينا، وتلك التي وقعت قبلها بأسبوع في مدينة نيس الفرنسيّة، إلى رادار عامّة النّاس ظاهرةً يعرفها مجتمع مكافحة الإرهاب في أوروبا جيّداً: التّهديد لم يختف قطّ.

من المؤكّد أنّ التّهديد الإرهابيّ أقلّ حدّة ممّا كان عليه في الأعوام 2014-2017، عندما ضرب الجهاديّون الأوروبيّون القارّة بانتظام، وأحياناً بهجمات مدمّرة بتحريض من داعش، لكنّ المشهد الجهاديّ الأوروبيّ لم يتبخّر بالتّأكيد.

عدد المقاتلين الأجانب الذين غادروا النّمسا للانضمام إلى داعش (وصل إلى 300). إنّها موطن لمشهدٍ جهادي كبيرٍ ومعقّد، أنشأه تاريخيّاً متشدّدون عرب

التّهديد له وجوهه المتعدّدة: ثمّة ذئاب وحيدة، إضافة إلى خلايا صغيرة من المتعاطفين الذين "ردكلوا" أنفسهم بأنفسهم، والجهاديّين القادمين من خارج أوروبا لمهاجمتها (كان مهاجم فيينا مزيجاً من الديناميكيّتين، لأنّه جاء من بيئةٍ عابرة للحدود، من المتعاطفين مع داعش، لكنّه تصرّف بمفرده عندما نفّذ الهجوم).

في حالة فيينا؛ يبدو أنّه ثمّة ديناميكيّة مُحبِطة إضافيّة شوهدت غير مرّةٍ في كافّة أنحاء أوروبا على مرّ السنين؛ كان الجاني قد أدين مؤخّراً في النّمسا بمحاولة الانضمام إلى داعش، وقضى جزءاً فقط من عقوبةٍ قصيرة، وأُطلِق سراحه مبكّراً. 

إنّ إطلاق سراحه المبكر والمراقبة الفضفاضة الّلاحقة لإطلاق سراحه ستخضع للتّدقيق بلا شكّ في الأسابيع القادمة (وقد أدّى الحادث بالفعل إلى تنحّي رئيس المخابرات النّمساويّة)، لكنّ ذلك من أعراض الصّعوبات الّتي تواجهها السّلطات الأوروبيّة في مراقبة الأفراد المردكلين، الّذين يُحتمل أن يكونوا خطرين، وذلك بسبب العدد الكبير من المشتبه بهم والعديد من التّحدّيات القانونيّة والبيروقراطيّة التي تُقيّد السّلطات.

 أيضاً، ليس من المفاجئ أن تتعرّض النّمسا للضّرب، فإلى جانب الصّور الكليشيهيّة الّتي تروّج لها كبلدٍ هادئٍ في جبال الألب، يمتلك عاصمةً تحتلّ المرتبة الأولى بانتظامٍ في تصنيف جودة الحياة في العالم.

 واجهت النّمسا في الأعوام الأخيرة مستويات عالية من الرّدكلة الجهادية، ومن الجدير بالذّكر؛ أنّ عدد المقاتلين الأجانب الذين غادروا النّمسا للانضمام إلى داعش (وصل إلى 300) يُعدّ واحداً من أعلى المعدّلات في أوروبا، إنّها موطن لمشهدٍ جهادي كبيرٍ ومعقّد، أنشأه تاريخيّاً متشدّدون عرب، وجدوا ملاذاً في النّمسا منذ الثّمانينيّات من القرن العشرين، وكان محمّد محمود أحد أبرز نتائج هذا المشهد، وهو نجل لاجئ مصري من جماعة الإخوان المسلمين في فيينا. 

اقرأ أيضاً: تجريم "الإسلام السياسي" في النمسا

وكان محمّد محمود قد دشّن بعض المنصّات الجهاديّة الأولى على الإنترنت، باللّغة الألمانيّة، قبل الانضمام إلى داعش في سوريا والموت جرّاء غارةٍ جوية أمريكية.

بمرور الوقت، وفي تدفّق معاكس للنمساويين، سيطر متشدّدون من البلقان والشّيشان على المشهد الجهاديّ في البلاد؛ ففي غراتس، بوابة النّمسا إلى أوروبا الشّرقية، وفي مدنٍ نمساوية أخرى؛ أثار مشهدٌ سلفيّ يُهيمن عليه بوسنيّون وكوسوفيّون وألبان ومقدونيّون، قلق السّلطات لأعوام، وأنتج عدداً كبيراً من الأفراد المردكلين.

إنّ التّدفق بين النّمسا والبلقان مستمرّ، ويشمل متشدّدين ودعاة راديكاليّين وأدبيّات متطرّفة وأموالاً وأسلحة، وثمّة، أيضاً، روابط في كثيرٍ من الأحيان مع شبكات جريمةٍ منظّمةٍ ألبانية، كذلك ممّا يثير القلق مشكلة ردكلة بعض شرائح الشّتات الشّيشاني، الّتي تحظى بصلات واسعة بكلّ من الجريمة المنظّمة وصالات الفنون القتاليّة المختلطة (وذاك شغف يتقاسمه الشّاب الشيشاني الذي قطع رأس المدرّس الفرنسيّ، صمويل باتي، في تشرين الأوّل (أكتوبر)).

رغم بعض النّجاحات الملحوظة؛ فقد كانت سياسة مكافحة الإرهاب النمساوية تاريخيّاً بلا فائدةٍ في مواجهة هذا التّهديد الكبير والمعقّد نسبيّاً، وتشمل المشكلات قلّة الموارد من الموظّفين، والصّعوبات القانونيّة في ترحيل المتشدّدين الأجانب، وحلّ المنظّمات المتطرّفة، كما أظهرت حالة مهاجم فيينا فرض أحكام قصيرة جدّاً على أعضاء الجماعات الإرهابيّة المدانين.

لا يعني هذا أنّ الحكومة النّمساويّة الحالية، بقيادة المستشار سيباستيان كورتز، لم تكن على علمٍ بمشكلة الرّدكلة، وبشكل أوسع الإسلامويّة، على الضّدّ من ذلك، على مدى الأعوام القليلة الماضية، جعل كورتز وحزبه من مواجهة الإسلامويّة، في مظاهرها العنيفة وغير العنيفة، التي يرون أنّها مترابطة بشكلٍ صارم، إحدى أولويّات سياستهم.

من نواحٍ عديدة، كان كورتز سبّاقاً عند مقارنته بالرّئيس الفرنسيّ، إيمانويل ماكرون، فقد أعلن كورتز، منذ أعوام، ما جذب به الرّئيس الفرنسي الانتباه عند حديثه حول "الانفصاليّة الإسلاميّة" في الأشهر الأخيرة؛ من الرّؤية العامّة للإسلاموية، باعتبارها تهديداً مميتاً للحياة الديمقراطية والاندماج والتماسك الاجتماعي للبلاد، وصولاً إلى مخاوف محدّدة بشأن التّمويل الأجنبي للشبكات الإسلامويّة المحلّية، وتأثير الإسلامويّين في النّظام التّعليمي.

 يغنّي ماكرون وكورتز التّرنيمة نفسها؛ الفارق هو أنّ كورتز، وهو في السّلطة منذ فترةٍ أطول، قد اتّخذ بالفعل بعض الإجراءات الملموسة.

عام 2015، على سبيل المثال؛ أقرّت النّمسا مراجعات مهمّة لقانون "إسلام جيستز"، قانون عام 1912، الّذي ينظّم العلاقة بين الدّولة النمساوية والمجتمع المسلم.

نفّذت أجهزة الأمن النّمساويّة عمليّةً واسعة النّطاق ضدّ أكثر من 70 فرداً وعدّة منظّمات، يُزعَم أنّها على صلةٍ بجماعة الإخوان المسلمين في البلاد

 لقد أعاد النصّ الذي صاغته إلى حدّ كبير وزارة أوروبا والاندماج والشّؤون الخارجية، والتي ترأّسها كورتز في ذلك الوقت، تنظيم معايير تعيين الأئمة وحظرَ التمويل الأجنبي للمؤسّسات الإسلامية، وتحت قيادة كورتز، أصدرت النّمسا قانوناً يحظر رموز جماعة الإخوان المسلمين، وبدأت الإجراءات لإغلاق العديد من المساجد المتطرّفة، وطرد عددٍ من الأئمة، وأنشأت مرصداً دائماً للإسلام السياسي.

على هذه الخلفيّة؛ في السّاعات الأولى من صباح الإثنين، نفّذت أجهزة الأمن النّمساويّة عمليّةً واسعة النّطاق ضدّ أكثر من 70 فرداً وعدّة منظّمات، يُزعَم أنّها على صلةٍ بجماعة الإخوان المسلمين في البلاد، وفي هذه العمليّة، غير المرتبطة بهجوم فيينا، تطارد السّلطات النّمساويّة الجزء الأكبر من البنية التّحتيّة الإسلامويّة في البلاد، مدّعية سلسلة من المخالفات التي تتراوح بين مخالفاتٍ ماليّةٍ ودعمٍ للإرهاب.

إنّ السّلطات النّمساويّة، شأنها شأن ماكرون، واضحة في التّمييز بين الجهاديّة والإسلام السياسيّ، اللذين تعدّهما ظاهرتَين إشكاليّتَين، لكن متمايزتين.

 لكن، في الوقت نفسه، الافتراض القائل إنّ الأخير، بسرده المستقطِب والمركّز على "التضحويّة"، يخلق بيئةً خصبةً للأوّل، ويلقى قبولاً متزايداً من جانب صانعي السّياسات والممارسين في كلا البلدين.

لقد صدم هجوم فيينا النّمساويين، الذين لم يعتادوا على الهجمات الإرهابيّة الوحشيّة، كما اعتاد عليها، للأسف، الفرنسيّون، لكن من المحتمل أن تقوّي الأحداث في فيينا وفرنسا فقط تصميم قادة البلدين على تحدّي كافّة أشكال الإسلامويّة، بغضّ النّظر عن ردّ الفعل العنيف الّذي يتسبّب فيه هذا الأمر حتماً. 

ومع ذلك، فهذه أكبر عقبة يواجهها كلّ من كورتز وماكرون في مضيّهما قدماً، وقد حظي موقفهما الجريء بدعمٍ واسع النّطاق ومتعدّد الأحزاب في بلدانهما، وينظر إليهم القادة الأوروبيّون الآخرون باهتمامٍ على نحوٍ متزايد. لكن، كما هو متوقّع، جذبت مواقفهما الانتقادات أيضاً.

بعض الاعتراضات، التي تأتي من فاعلين ومؤيّدين إسلامويّين معروفين، يمكن رفضها بسهولةٍ وعن حقّ، لكن ثمّة مخاوف أوسع، وأكثر تبريراً، تتمثّل في أنّ المسلمين العاديّين في النّمسا، كما في فرنسا، قد يرون أنّ كلمات كورتز وماكرون ليست ضدّ الجهاديّة والإسلامويّة، كما يصرّ الزّعيمان، وإنّما ضدّ الإسلام والهويّة الإسلاميّة.

لا يمكن تحقيق هدف تقويض المتطرّفين، سواء كانوا عنيفين أم لا، إلّا إذا دعمت الأغلبيّة الصّامتة من المسلمين هذا الجهد، ولم يروا أنفسهم أهدافاً.

المصدر: لورينزو فيدينو، "فورين بوليسي"

https://foreignpolicy.com/2020/11/11/austria-not-france-is-the-model-for-europes-crackdown-on-islamists/

الصفحة الرئيسية