كيف احتكر الخميني "الولاية" لحساب السياسة واعتزل الفقه؟

الخميني

كيف احتكر الخميني "الولاية" لحساب السياسة واعتزل الفقه؟


27/08/2019

ثمّة تفاوت واختلاف شديدان بين نظرية الولي الفقيه، غير تلك التي تعمل الجمهورية الإسلامية في إيران، على الترويج لها، وتصديرها باعتبارها المرجعية الأبدية، والممثل الوحيد للحالة الشيعية، بوجه عام، وذلك من خلال أجهزتها الأيديولوجية، ودعايتها السياسية، التي تقوم بتمريرها عن عمد، بوسائط عديدة، بينما تنفي باقي الاجتهادات والمرجعيات الأخرى، والتي من بينها المرجعية العربية، ناهيك عن أفكار الإصلاحيين، في طهران وغيرها، كما هو الحال في لبنان مثلاً؛ حيث يلعب حزب الله بقوته العسكرية ونفوذه السياسي، دوراً مؤثراً في فرض الهيمنة على جملة القيم المطلوبة، والوصاية على الأفكار المخالفة.

نبذ ولاية الفقيه في المرجعية العربية
الأمر الذي يمكن تعيينه بدقه في التغطية والتعمية على أفكار فقهاء شيعة عديدين، من بينهم جواد مغنية، أحد أكبر فقهاء النجف في لبنان، والذي رفض مسألة ولاية الفقيه، وقدّم اعتراضاته في كتابه: "الخميني والدولة الإسلامية".

ويقول مغنية: إنّ الدولة الإسلامية "لا تعني سيطرة الشيوخ على الحكم، واحتكارهم لسلطان السياسة، إنما تعني أنّ الشريعة الإسلامية هي الإطار والمعيار لقوانين الدولة وتصرفاتها، فكل ما يتفق وهذه الشريعة يجب تنفيذه، ولا يجوز الطعن فيه، وما ثبت تعارضه يحكم ببطلانه، وإلغاء آثاره".

لم يكن الخميني الأول في التراتبية الهرمية للحوزة الشيعية سواء في قُم أو النجف وهو ما تبدّل إثر صعوده السياسي

وبينما تنصّ ولاية الفقيه، بحسب القراءة الخمينية، على أنّ للفقيه ولاية على الفقه ذاته، ومن ثم، بمقدوره أن "يغير نصوص الشريعة، وينسفها ويكتب مكانها شرعاً جديداً"، تتأتى صورة مغايرة لهذا الفقه السلطوي، من خلال قراءة ومرجعية مختلفة، نتبيّنها في نظرية ولاية الفقيه السيستانية في العراق، والتي تنصّ على أنّ الفقيه هو مجرد "مفسّر للفقه ومحلّل للموقف الشرعي".
لذا، فإنّ ما يمكن تأكيده أنّه في ظلّ تعدّد النظريات الفقهية وتباينها، واختلاف فلسفة الحكم السياسي، في الحالة الشيعية، وتفاوتها بين المرجعيتن العربية والإيرانية، تعكس نظرية ولاية الفقيه، عبر تأويلها الخاص، الذي صنعه الإمام الخميني، إبان لحظة وصوله للحكم، قدرته على الحسم الأيديولوجي للمرتكزات والمنطلقات والأسس التي ستقوم عليها رؤيته للدولة، بعد تبنيها لنظريته، وحيازته للسلطة والقوة.
وترتب على ذلك فرض أيديولوجيته الدينية والسياسية، من خلال الأجهزة الدعائية، بهدف خدمة مصالحها المحلية والإقليمية، وبالتالي؛ إجهاض باقي الاستدلالات المنهجية والفقهية للنظريات المغايرة، والحدّ من تمثيلها في المجتمع، ناهيك عن تصدير مرجعية واحدة، لمختلف الدول في المنطقة.

مأسسة الفقه وبناء الأيديولوجيا السلطوية
لخّص الإمام والمفكّر الشيعي، هاني فحص، في كتابه: "النجف تحت خيمة المرجعية" آلية مأسسة الفقه وبناء الأيديولوجيا السلطوية، في عبارته الموجزة: "قد يحقق أيّ شيعي موقعاً من خلال قطيعته مع إيران، ولكنّه لا يستطيع أن يحتفظ بهذا الموقع؛ لأنّه يحتاج إلى شرعية شيعية".

اقرأ أيضاً: فرح بهلوي: الخمينية جاءت مع أشرطة الكاسيت وستختفي مع الإنترنت
بيد أنّه، رغم مأسسة نظرية الولي الفقيه في إيران، وتحويلها إلى أداة للسلطة، من خلال صناعة قوانين ودساتير، تحتشد داخل إطاراتها الدينية، شكلت المرجعية العربية منافساً حاول الخروج من الهيمنة الإيرانية، رغم التضييقات والتهميش المفروضين من وكلاء الأخيرة المحليين، وميليشياتهم المذهبية.
اتخذت المرجعية العربية في جبل عامل، في لبنان، مواقف على النقيض من تلك التي يبرزها حزب الله، وفق تبعيته لطهران؛ إذ وضعت نظرية "ولاية الأمة" في مقابل نظرية "ولاية الفقيه"، وقدمت حقوق الجماهير والمواطنين، وإراداتهم السياسية في انتخاب من يحكم، على كلّ المرجعيات والقيم التي تحاول أن تفرض هيمنتها ووصايتها.

اقرأ أيضاً: بين مصدّق والخميني.. كيف خان الملالي ثورة الإيرانيين مرتين؟

وفي إطار معارضتها للمرجعية الخمينية؛ رأت أنّ نظرية الولي الفقيه هي محض "اجتهاد سياسي"، بحسب تعبيرها، ووصفتها بأنّها "عامل متغير وظنّي، وليست أصلاً من الأصول والثوابت القطعية".
وإلى ذلك، رأت المرجعية العربية في لبنان، أنّ الطرح الفقهي للخميني، ينبذ فكرة تعايش الشيعة في أوطانهم، على أساس قيم المواطنة، كما يفرض عليهم الولاءات العابرة للحدود، وتفتيت هوياتهم، لتصبّ في مصلحة إيران، التي تصبح الوطن الأمّ لكلّ الشيعة، فكرياً ومذهبياً.

الصراع على الحكم وصناعة هويات طائفية
وبحسب الدكتور محمد بن صقر السلمي، في دراسته المنشورة "جدلية الفكر السياسي الشيعي بين المرجعيتين العربية والإيرانية"؛ فإنّ الجيوب الموالية لإيران سعت لإقامة نظام الولي الفقيه، في دول المنطقة، ولم تكتفِ بتشكيل ولاءات مذهبية فقط، بل عملت على تغيير أيديولوجيا الأنظمة لصالح النظام الفارسي".

رأت المرجعية العربية في لبنان أنّ الطرح الفقهي للخميني ينبذ فكرة تعايش الشيعة في أوطانهم على أساس قيم المواطنة

وهنا، يرصد السلمي أثر المتغيرات السياسية، التي ساهمت في بلورة نظرية الخميني لولاية الفقيه، وتشكيل قوامها الأساسي، ومن ثم دورها في فهم سياسة اللاعب الإيراني وإستراتيجيته في العمل بالمنطقة والإقليم، ويفصل الهوة التي راكمتها تلك الخلافات والصراعات، التي هي في الأساس سياسية بين المرجعيتين العربية والفارسية، خاصة أنّه يؤكد أنّ السلوك السياسي الإيراني ليس عفوياً، ولا يمكن اعتباره عشوائياً، بل هو قائم على الأيديولوجيا والفكر، وصانعو القرارات والسياسات ما يزالون من داخل المدرسة الفقهية الأيديولوجية.
وعليه، تعتمد السلطة على مشروعيتها الدينية في ممارسة الحكم والإدارة والتشريع؛ فيما ما تزال نظرية الولي الفقيه هي الأيديولوجيا الصلبة للنظام الحاكم في إيران، ومتجذرة في البيئة والمؤسسات الثقافية والتربوية والتعليمية، كما تشكّل حيزاً إستراتيجياً قوياً في العلاقات الايرانية مع الآخر الشيعي العربي.

الخميني ليس فقيهاً
ومن ناحيته، يبين الدكتور محمد السيد الصياد، في كتابه "فقه الانتظار"، الذي يتطرق فيه إلى التيارات الدينية الإيرانية، قبل الثورة الإيرانية؛ إذ لم يكن الخميني الأول في التراتبية الهرمية للحوزة الشيعية، سواء في قُم أو النجف، الأمر الذي تبدل إثر صعوده السياسي ووصوله للحكم؛ حيث كانت تتقدم عليه مرجعيات أخرى في قُم، مثل: آية الله كلبايكاني، وآية الله شريعتمداري، وآية الله مرعشي، في النجف.

اقرأ أيضاً: تكتيك الخميني في حرب أردوغان الخفية ضد الولايات المتحدة
ويوضح الصياد؛ أنّ الإمام محسن الحكيم في النجف، كان المرجعية العليا بالنسبة إلى الشيعة، في حين كان الخميني بمثابة رجل دين عادي، وحظي بشهرة داخل الأوساط الفقهية وعلماء الحوزة، باعتباره قائداً سياسياً، أكثر منه فقيهاً في الدين؛ لذا كانت منطلقات معظم تابعيه سياسية، لا عقيدية، فلم يقلّدوه فقهياً، حتى أنّ مدينة أصفهان التي كانت أكثر المدن تأييداً للثورة، ظلت مرجعية غالبية أهلها للإمام الخوئي في النجف.
ويضيف: "حتى اليوم، أكثر الشعب الإيراني يقلّد مرجعية السيستاني في العراق، مما يؤكد أنّ الشعب يميز بين الزعيم السياسي والزعيم الديني.

اقرأ أيضاً: أي إرث للخميني بعد ثلاثين عاماً على رحيله؟
وإدراك تلك التراتبية مهم جداً لمعرفة مدى التحول الذي طرأ على الميراث الحوزوي الشيعي، والدرس الفقهي المستقر؛ حيث ألغى الخميني ثنائية "الفقيه والسلطان"، المتوارثة منذ عهد الكركي، وصارت الصيغة الجديدة "الفقيه السلطان والسلطان الفقيه"، بما يعني أنّ الدين دخل في أحشاء السلطة، فلا وجه لمعارضة رجل الدين للسلطة السياسية، على الوجه الذي كان معروفاً في زمن الشاه؛ لأنّها صارت متحدثة باسم الإمام الغائب".
وحين رفضت بعض مرجعيات قُم، وعلى رأسهم كلبايكاني وشريعتمداري، التماهي مع نظرية الخميني السياسية، والقبول بمخرجاتها ونتائجها في الفقه والسياسة، قام بتصفيتهم والتخلص من نفوذهم، واحداً تلو الآخر، بالإعدام والمحاكمات الصورية، وغيرها من الوسائل القمعية، للقضاء على مراكز القوى داخل المرجعية الدينية في قُم، والانفراد بالسلطة، وعدم منافسة الآخرين له أو معارضته، وتهديد سلطته ونفوذه.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية