كيف استعاد الجزائريون الفضاءَ العام من قبضة الدولة العميقة؟

الجزائر

كيف استعاد الجزائريون الفضاءَ العام من قبضة الدولة العميقة؟


01/07/2019

ظلّت الفضاءات العامة، السياسية منها والثقافية والفكرية، في الجزائر محتكرة من قبل السلطة، سيما بعد دخول البلاد في أزمة متعددة الأوجه، مطلع التسعينيات، وحتى بدايات الألفية الثالثة، فيما يعرف بسنوات "العشرية السوداء"، حيث تم تشميع أغلب أدوار العرض السينمائي،  وأضحى المسرح بشكل شبه كلي مملوكاً للدولة التي سيطرت عليها الهواجس الأمنية، كما أضحت الندوات ذات الطابع السياسي أو الثقافي والفكري، تحتاج إلى "رعاية رسمية" وفي حدود ضيقة جداً، مما ساهم في عزل النخب السياسية والثقافية والفنية عن ممارسة دورها الطليعي في المجتمع، عدا تلك الأسماء القليلة المكرّسة إعلامياً والمرتبطة فكرياً وسياسياً بالسلطة الحاكمة.

اقرأ أيضاً: هكذا تسعى جماعة "الجزأرة" لركوب الحراك الجزائري
كل ذلك ظل يجري تحت مبررات "قانون الطوارئ"، وحجج الأمن القومي، التي تستدعي حسب رؤية السلطة إلى التحكم في "الفضاء العام"، لأكثر من عقد ونيف من الزمن!

مصالحة في غياب نقاش عام!

ومع دعوات "المصالحة الوطنية" ومشروع "الوئام المدني" الذي أطلقه الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، بداية الألفية الجديدة، باشرت عدة شخصيات وجهات مستقلة، إلى التحرر من قيود "الرعاية الرسمية" عبر إطلاق عدة مبادرات، إلا أنّ تلك المحاولات في الأغلب وئدت مبكراً، عبر سبل مختلفة، تقتات حججها بالأساس من "قانون الطوارئ" كما هو الحال بالنسبة لمبادرة "فضاء ألف نيوز ونيوز" الذي أطلقه الصحفي أحميدة العياشي، مدير "جريدة الجزائر نيوز"، الذي اُتهم بدعم حركة "بركات" (تعني كفاية) والتي تأسست لمعارضة ترشح الرئيس بوتفليقة للعهدة الرابعة عام 2014، حيث تم إيقاف نشاط المبادرة، بالاضافة إلى إغلاق الجريدة عبر حجب الإعلانات عنها وتكبيدها فاتورة باهظة للمطابع الرسمية.

الفضاءات الجزائرية أفردت المساحة للنقاش حول الديموقراطية ومدنية الدولة والمرأة والدين والعلمانية وغيرها من المسائل التي ظلت شبه محظورة

ومع بداية إرهاصات "الحراك الشعبي" الذي ظل ينضج على نار هادئة، وقبل اندلاعه بالشكل الصارخ القائم الآن، سيما بعد إعلان ترشح بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة، أطلق الروائي عبدالرزاق بوكبة عدة مبادرات على شكل "مقاهٍ ثقافية"، في عدد من الولايات، تسعى إلى عقد ندوات ثقافية وأدبية تمثل إرهاصاً ناعماً للفعل الشعبي المتنامي والرافض لسياسات "الرعاية الرسمية" كما تشكلت نواة أولى لتلك الإرهاصات في عدة قرى بمنطقة القبائل (الأمازيغ) التي ظلت تعمل بشكل مستقل، يتم فيها تنظيم ندوات نقاش مفتوح، فضلاً عن تقديم عروض مسرحية وسينمائية، بعيداً عن إشراف الحكومة متمثلة في وزارة الثقافة!

الصحفي أحميدة العياشي مدير "جريدة الجزائر نيوز"

أول الحراك.. استعادة الفضاء العام

ومع انطلاق شرارة "الحراك الشعبي" في 22 شباط (فبراير) الماضي، سعى الحراكيون -خاصة المثقفين منهم- إلى استغلال واقع تراجع السيطرة الأمنية للنظام، لاستعادة الفضاء العام، وإطلاق عدة مبادرات مستقلة، أهمها "فضاء سلالم المسرح الوطني" بوسط العاصمة، لعقد ندوات أسبوعية (كل ثلاثاء)، حيث تحولت سلالم مبنى المسرح الوطني، إلى فضاء حر للنقاش العام، يشترك فيه المارة، والمختصون في نقاشات تجري على الهواء الطلق، يتم فيها استضافة شخصيات فاعلة في الحراك، وأكاديميين يشخصون الحالة الراهنة ومآلات النظام السياسي، فيما يشارك الجمهور بطرح الأسئلة وتقديم تصورات مختلفة.
كما انتظمت عدة مبادرات أخرى في أكثر من ولاية جزائرية، منها مبادرة "الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية" في مدينة برج بوعريريج، ومبادرة "جلسات الحرية" في مدينة باتنة (شرق البلاد)، ومسرح "الشارع الحراكي" في مدينة معسكر (غرب البلاد). 

فضاءات موازية للرعاية السامية

وحسب رأي متابعي هذه المبادرات المستقلة، الذين قابلتهم "حفريات" فإنّ هذه الفعاليات قد تحولت، إلى مؤسسات وفضاءات موازية،  لتلك التي ترعاها الدولة، بل يذهب البعض إلى اعتبارها أحد المكاسب الأساسية التي انتزعها الحراك حتى الآن من الدولة العميقة، في حين لم يفلح في سعيه إلى حل المؤسسات الرسمية.

يقول الصحفي أحميدة العياشي لـ "حفريات"، إنّ "الحراك الشعبي، أفرز ظاهرة إعادة امتلاك الفضاء العمومي، وكان ذلك من الأسابيع الأولى التي حررت الطاقات الثقافية التي كانت تحاصر تارة بالردع وتوظيف القوانين للحد من كل مباردة كانت تسعى إلى تحرير الفضاء النقاشي، الذي تم تأميمه من قبل السلطة بعد إيقاف المسار الانتخابي في بداية التسعينيات بذرائع الأمن، وتحت يافطة قوانين حالة الطوارئ التي استعملت في فترة مكافحة الإرهاب، لكنها ظلت سارية المفعول حتى بعد أن أعلنت السلطة أنّها هزمت الإرهاب على الأرض عسكرياً".

الحراك السياسي يجب أن يوازيه حراك ثقافي فنجاح السياسة في الجزائر مرهون بالثقافة بمختلف أوجهها وأنماطها وسبل تعبيرها

ويؤكد العياشي "مع كل الزخم الذي حمله مشروع المصالحة الوطنية الذي بشّر به بوتفليقة في عهدته الأولى، إلا أنّ البلاد لم تتحرر من آثار سنوات الإرهاب وقانون الطوارئ، وظل الفضاء العام تحت حصار المؤسسات الرسمية لا سيما الأمنية منها".
ويستطرد العياشي: "ومع ذلك كانت هناك جيوب مقاومة ثقافية سعت لأن تكون بديلاً عن السلطة الثقافية الرسمية، تمثلت في مبادرات في تجربة لقاءات ألف نيوز ونيوز التي قامت بدعم من جريدة الجزائر نيوز، ومبادرة الشاعر والناشط الثقافي عبد الرزاق بوكبة، ومبادرة المقاهي في مدن وقرى بربرية في تيزي وزو، وبجاية، وكذلك في سيدي بلعباس ومستغانم ومعسكر.. بغرب البلاد". ويضيف العياشي "في نهاية ولاية بوتفليقة تعرضت مثل هذه المبادرات إلى مضايقات، إلا أنّ اندلاع حراك 22 شباط أسس لانبثاق حركات ومبادرات في الجزائر العاصمة ومدن أخرى يقودها جيل جديد من النشطاء والفنانين والمثقفين يسعون إلى إعادة بناء فضاء ثقافي يعيد إلى النقاش والحوار والمبادرة الثقافية والمواطناتية روحها الحر".

 الشاعر والناشط الثقافي عبد الرزاق بوكبة

وحول محتوى هذه الفضاءات يقول العياشي إنّها "فضاءات تفرد المساحة لتلاقي الثقافة بالسياسة والنقاش حول الديموقراطية ومدنية الدولة والمرأة والدين والعلمانية وغيرها من المسائل التي كانت شبه محظورة في الفضاء العمومي، المسيطر من قبل أجهزة النظام"!

قلب العاصمة يخفق بالجدل

ويتحدث العياشي عن الفعاليات التي تنتظم أسبوعياً، في قلب العاصمة الجزائر، ويتمثل أهمها في فضاء المسرح الوطني، حيث تنتظم ندوات على سلالم المسرح الوطني "التي تحولت إلى مدرجات يجلس عليها الجمهور، بينما تتحول الساحة الواسعة إلى مساحة حرة تقدم من خلالها المداخلات من بعض الناشطين". ويوضح العياشي لـ "حفريات"، أنّ برامج هذه اللقاءات أمام المسرح تتنوع "بين تقديم المداخلات من المختصين وناشطي الحراك، وبين الكلمات العفوية للحضور، علاوة على العروض الفنية الارتجالية والقراءات الشعرية".

اقرأ أيضاً: ما تأثير الإسلام السياسي على المجتمع الجزائري؟
وعن دلالات اختيار المكان يقول العياشي إنّ "ساحة بورسعيد، لها رمزية واضحة، حيث كانت المنطقة في الفترة الاستعمارية مكاناً للبورجوازية الكولونيالية والطبقة العاصمية المثقفة، وفي نفس الوقت كانت في العهد العثماني ساحة عمومية يروج فيها خطاب العسكر وحكام الجزائر العثمانية، فضلاً عن أنها  قبالة المدخل الرئيسي للمسرح الوطني، الذي ظل محتكراً لعروض السلطة طوال سنوات الاستقلال".
وحسب العياشي فإنّ هذا الفضاء قد تم اختياره لدلالات عدة من قِبل منظمي هذه المبادرة وهم: الممثلة الجزائرية بن ديمراد، التي أدت عدة أدوار في مسرحيات وأفلام جزائرية شهيرة، بالإضافة إلى أنيس لحرير، وهو ناشط وفنان موسيقي ومدون.

جانب من ندوات الشارع بوسط العاصمة

المثقف إذ يستشرف اللحظة القادمة

من جهته، كشف الروائي الجزائري عبدالرزاق بوكبة لـ "حفريات" أنّ نشاطه في إطلاق المبادرات المستقلة سابق للحراك، حيث يقول "منذ عشرة أشهر، وتحديداً في مدينة برج بوعريريج، لاحظت أنّ ثمة استعداداً لدى الشارع لتلقي أفعال ثقافية مختلفة. فقمت بإطلاق المقهى الثقافي في ظل هذا التعطش والاستعداد الشعبي، بعد رصد جملة الأسباب الموضوعية التي جعلت النشاطات الثقافية في الجزائر يتيمة من حيث الجمهور وكانت المفاجأة: إقبالاً لافتاً للانتباه خارج النخبة التقليدية، ومن كل الأعمار والشرائح".

اقرأ أيضاً: هل ينجح "العسكر" في إدارة مرحلة انتقالية في السودان والجزائر؟

ويستعيد بوكبة مشاهد البداية:"حين أعود إلى الصور والفيديوهات الخاصة بجلسات المقهى الثقافي ما قبل الحراك، ينتابني إحساس بأنّني بصدد مشاهد تخص مسيرة شعبية. حدث ذلك في كلّ المقاهي الثقافية التي أطلقتها رفقة مثقفين كثر في 17 مدينة، وبخاصة في المدن الداخلية، مثل معسكر والأغواط وبرج بوعريريج".

الشارع صاحب السمو والفخامة

ويتوقف بوكبة مطولاً أمام حالة الحراك، وما رافقه من تحرير الفضاءات العامة، بعد أن ظلت محتكرة للسلطة طوال العقود الماضية: "لقد فرض الشارع نفسه بصفته صاحب الفخامة بديلاً عن فخامة الرئيس الذي تم دفعه للاستقالة"، مضيفاً: "الشارع يكاد يؤسس لسلطة جديدة وبديلة ولا شك في أنّه يبعث عفوياً منابر ثقافية وحوارية وفق شروطه وهواجسه منها هذه الجلسات المفتوحة التي تنتشر بشكل تلقائي في أكثر من ولاية ومدينة"!

اقرأ أيضاً: إخوان الجزائر يغازلون الجيش وعيونهم على الحراك الشعبي

ويقدّر بوكبة تأثير عودة الروح إلى الفضاءات العامة في بلاده بالقول "بغض النظر عن المآلات السياسية للحراك القائم، فإنّ ثماراً ثقافية وحضارية قد تحققت له على الأرض، منها انتعاش روح المبادرة خاصة لدى الجيل الجديد..  ولا شك في أنّ هذه الجلسات الثقافية التي تتميز بكسر هيمنة المنصة في النشاط الثقافي والتي تمثل مركزية وهيمنة السلطة السياسية ستستمر بعد الحراك، بغض النظر عن مآله السياسي، لأنها ستشكل رئة الشارع في التعبير عن هواجسه وهمومه واهتماماته".

 الفنان شرقي نصر الدين، أحد مؤسسي المسرح الحراكي في مدينة معسكر

نجاح السياسة مرهون بالفعل الثقافي 

من جهته، يرى الفنان شرقي نصر الدين، أحد مؤسسي المسرح الحراكي في مدينة معسكر (غرب البلاد)، أنّ نشاطهم كمسرحيين "لم يقتصر على العروض داخل القاعات والمسارح، كما هو معهود، بل "لجأنا أيضاً إلى الشارع، لموافقة الحراك الشعبي الذي تنتظم فعالياته كل جمعة في كل ساحات الوطن".

اقرأ أيضاً: السينما الجزائرية ومرثيات اليأس السياسي
ويؤكد شرقي أنّ "الحراك ألهم الجميع، سيما الفنانين ودفعهم للمزاوجة بين عروض المسارح والذهاب إلى حيث يجري الحراك نفسه".
وحول هذه التجربة المستحدثة، يقول شرقي "كانت أولى عروضنا، موسومة بليالي القوس، حيث قدمنا عرضاً مسرحياً في الشارع، فنحن مجموعة من الفنانين الأحرار نعمل دون إطار تنظيمي، تحركنا فقط رغبتنا وإيماننا بأنّ الحراك السياسي يجب أن يوازيه حراك ثقافي، وأنّ نجاح السياسة في هذه البلاد مرهون بالثقافة بمختلف أوجهها وأنماطها وسبل تعبيرها".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية