كيف السبيل إلى إصلاح فساد صناعة الدواء؟

الدواء

كيف السبيل إلى إصلاح فساد صناعة الدواء؟


07/10/2019

في أيلول (سبتمبر) 2019؛ أصدرت وزارة الصحة والسكان في القاهرة، قراراً بسحب مستحضر "Recall"، بكلّ أشكاله وتركيزاته من الصيدليات، لحين التأكد من عدم وجود شوائب مسرطنة به، وذلك بناء على ما ورد من الشركة المالكة لمستحضر "زنتاك" في مصر.

اقرأ أيضاً: احذر.. هذا الدواء يتسبب بالسرطان ‎
وذكر المنشور، الذي حمل رقم 38 لعام 2019؛ أنّ القرار جاء بناءً على ما رصدته الإدارة المركزية للشؤون الصيدلية من تقارير صادرة عن عدة جهات رقابية ودولية، ومنها: التقرير الصادر عن منظمة الغذاء والدواء الأمريكية "FAD"، وتقرير الوكالة الأوروبية لتقييم الأدوية "EAM"، وذلك بشأن المستحضرات الخاصة بتقليل إفراز الحمض في المعدة، والتي تحمل الاسم العلمي "رانيتيدين"؛ حيث تضمّنت هذه التقارير العثور على شائبة بها من مواد "النيتروسامين"، تسمى "NDEM"، بمستويات منخفضة.

مادة "رانيتيدين" علاج لحموضة المعدة تدخل في العديد من الأدوية المشهورة التي لا يستغني فرد عنها

وكانت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية أكّدت أنّ بعض الأدوية التي تحتوي مادة "رانيتيدين"، فيها شوائب "نيتروسامين"، تسمى NDMA بمستويات منخفضة؛ حيث يتمّ تصنيف "NDMA" كمادة مسرطنة محتملة للإنسان (مادة يمكن أن تسبّب السرطان) بناءً على نتائج الاختبارات المعملية.
سحب أدوية من السوق المصرية، أو العالمية عموماً، مسألة متكررة، رغم ما تجريه المعامل، سواء التابعة لشركات الأدوية، أو مراكز الأبحاث الحكومية على الأدوية، قبل طرحها في الأسواق، والتي تؤكّد صلاحية الدواء للاستخدام، لكنّ عمليات السحب المتكررة لبعض الأدوية، نظراً لخطورتها على الإنسان، تعيد طرح العديد من الأسئلة عن مصداقية شركات الدواء، وهل بالفعل الأبحاث التي تجريها محلّ ثقة أم العكس؟
يتمّ تصنيف "NDMA" كمادة مسرطنة محتملة للإنسان

ليس قراراً استثنائياً
الصيدلي الدكتور حامد محمد، قال إنّ "قرار الإدارة المركزية بسحب عقار "رانيتيدين" من السوق المصرية، لم يكن قراراً استثنائياً أو نادر الحدوث"، لافتاً إلى أنّ مادة "رانيتيدين" كعلاج لحموضة المعدة تدخل في العديد من الأدوية المشهورة التي لا يستغني فرد عنها، وهو ما أثار بلبلة كبيرة على المستوى الشعبي، بينما في واقع الأمر نشرات الإدارة المركزية تتوالى باستمرار وكثافة، لسحب وتحريز أيّة تشغيلات يتمّ التأكد من عدم مطابقتها للمواصفات القياسية، بعد تحليلها في معامل الرقابة الدوائية.

اقرأ أيضاً: طفرة جديدة في علاج السرطان
وأضاف محمد، في تصريح لـ"حفريات": "بغضّ النظر عن وجود مبرّر حقيقي لقرار سحب "رانيتيدين" من عدمه، فالواقع؛ أنّ عملية سحب الأدوية من السوق المصري في حدّ ذاتها، عليها علامات استفهام كثيرة؛ فالإدارة المركزية للصيادلة لا تلزم الشركات الأم بارتجاع أدويتها غير المطابقة للمواصفات، وتشترط شركات التوزيع وجود فاتورة شراء الدواء لتقبل ارتجاعه، ولأنّ الأغلبية العظمى من الصيدليات تدار يدوياً، ولا تعتمد على أنظمة حاسب آلي لإدارة الصيدلية، فيصبح إيجاد فاتورة شراء قديمة كالبحث عن إبرة في كوم من القشّ، وبالتالي؛ يكون أمام الصيدلي أحد خيارين: إما أن يرفع الأصناف غير المطابقة من على الرفّ، ويقبل بخسارة قد تصل لآلاف الجنيهات، بحسب مخزون الأدوية الذي يمتلكه، أو أن يضرب بنشرة وزارة الصحة عرض الحائط، ويبيع الأدوية، بغضّ النظر عن الضرر الناتج عنها، وهو اختيار نسبة كبيرة من الصيدليات، للأسف".
وأشار حامد إلى أنّه "رغم وجود تفتيش حكومي يتمّ على الصيدليات، بغرض التأكد من تنفيذ نشرات الإدارة المركزية، إلا أنّ عدد الصيدليات يفوق بكثير عدد وقدرة المفتشين، وفي النهاية؛ يدفع المريض ثمن تقاعس وزارة الصحة عن إلزام شركات الأدوية الكبرى باسترداد أدويتها غير المطابقة للمواصفات القياسية، أو المشتبه في أنّها ملوثة بمواد مسرطنة كما في حالة مادة "رانيتيدين"".
تعدّ وكالة الأدوية الأوروبية هي المسؤولة عن إجراءات المصادقة أو عدمها

المسألة ليست جديدة
في مقال منشور للدكتور سامح الجباس؛ ذكر أنّ هناك بعض الأدوية تسوَّق في بعض البلاد، وبسبب أنّ لها أعراضاً جانبية ومخاطر في الاستخدام لم تظهر في التجارب السريرية التي تتم قبل طرح الدواء في الأسواق؛ لذلك تقوم المؤسسات الحكومية المختصة بسحبها من الأسواق.

اقرأ أيضاً: علامات تدل على الإصابة بسرطان القولون.. كيف تحمي نفسك من هذا المرض؟
تعدّ وكالة الأدوية الأوروبية هي المسؤولة عن إجراءات المصادقة أو عدمها، وحتى سحب الدواء من الأسواق في الاتحاد الأوروبي، بينما في الولايات المتحدة؛ فإدارة الغذاء والدواء هي المسؤولة عن ذلك.
ربما بدأ الأمر في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، عندما سُحب دواء (ثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك) الذي كان يسوَّق على أنّه دواء نفسي، ثم سُحب بسبب استخدامه كمخدّر للإدمان، ويعدّ استخدامه غير شرعي حتى الآن في معظم دول العالم.
من أشهر الأدوية التى تمّ سحبها: "ثاليدومايد" (Thalidomide): مهدئ للحوامل ظهر في ستينيات القرن الماضي، مع دعاية بأنّه آمن للحوامل، لكنّ الشركة المنتجة كانت مخطئة؛ فقد ولد جيل من الأطفال بلا أقدام أو أيدٍ.
وقد بلغ عدد الأطفال المولودين بتشوهات بسبب استخدام "الثاليدومايد" نحو 12,000 طفل، في 46 دولة حول العالم. وتمّ سحب الدواء عام 1961.
شرور شركات الأدوية
حديث الجباس يقودنا إلى ضرورة الشكّ في نتائج الأبحاث التي تجريها شركات الأدوية، والتي تأتي غالباً في صالح تسويق الدواء والحفاظ على مكاسب تلك الشركات، المسألة التي تناولها بالتحليل كتاب "شرور شركات الأدوية – فساد صناعة الدواء والسبيل إلى إصلاحه"، والذي أشار إلى أنّ التجارب التي تموّلها شركات الأدوية تفضي على الأرجح إلى نتيجة إيجابية مبالغ فيها، أكثر من التجارِب المستقلة في تمويلها.

تُجري شركات أدوية الكثير من التجارِب وحينما ترى أنّ النتائج لا تصبُّ في مصلحتها تمتنع عن نشرها

نقلاً عن الكتاب جاء نصّاً: "يمكننا أن نبدأ ببحث حديث نسبياً، عام ٢٠١٠، حدَّد ثلاثة باحثين من جامعتَي هارفارد وتورونتو، كلَّ التجارِب التي تدرس خمس فئات رئيسة من العقاقير، من بينها مضادات الاكتئاب وعقاقير قرحة المعدة، ثم تحرَّوا عن أمرين رئيسَين، هما: هل كانت نتائجها إيجابية؟ وهل كانت مموَّلة من قِبل شركات الأدوية؟ ووجدوا إجمالاً أكثر من خمسمئة تجرِبة: ٨٥% من التجارِب التي موَّلتْها شركات الأدوية كانت نتائجها إيجابية، بينما ٥٠% فقط من التجارِب التي موَّلتها الحكومة كانت إيجابية، وهو فارق ملحوظ جداً.
عام ٢٠٠٧؛ فحص عددٌ من الباحثين جميع التجارِب المنشورة التي أجريت لبحث فوائد عقاقير "الإستاتين"، وهي عقاقير تخفض نسبة الكولسترول في الدم، وتقلل خطر الإصابة بالنوبات القلبية، ويصفها الأطباء بكمياتٍ كبيرة جداً، بلغ إجمالي عدد هذه التجارِب ١٩٢ تجرِبة، وهي إما تقارِن أحد عقاقير "الإستاتين" بعقار آخر من الفئة نفسها، وإما تقارن أحد عقاقير "الإستاتين" بعقار من فئة مختلفة يعالج الحالة نفسها.
وما إن ضَبَطَ الباحثون العوامل الأخرى؛ حتى وجدوا أنّ التجارِب التي موَّلتْها شركات الأدوية كانت أكثر ميلاً عشرين مرةً لإعطاء نتائج إيجابية مؤيِّدة للعقار محلّ الاختبار".

اقرأ أيضاً: هل حقاً هناك علاقة بين هذه المستحضرات وسرطان الجلد؟.. اكتشف ذلك
أشار أيضاً مؤلّف الكتاب إلى أنّه في عام ٢٠٠٦ فحص الباحثون جميع تجارِب العقاقير النفسية، التي نُشِرت في أربع دورياتٍ أكاديمية، على مدى عشرة أعوام، ووجدوا أنّ التجارِب التي أفضت إلى نتائج، وصل عددها إجمالاً إلى ٥٤٢ تجرِبة، وحَظِيَت شركات الأدوية بنتائج إيجابية لعقاقيرها في ٧٨% من الحالات، بينما لم تحقق التجارِب المستقلة في تمويلها نتائج إيجابية إلا في ٤٨% فقط من الحالات.
وعن تفسير ذلك، يقول مؤلّف الكتاب: "تُجري شركات الأدوية أحياناً الكثير من التجارِب، وحينما ترى أنّ النتائج لا تصبُّ في مصلحتها، فإنّها ببساطةٍ تمتنع عن نشرها، وهذه ليست مشكلةً جديدة، ولا تقتصر على مجال الدواء؛ ففي واقع الأمر إنّ مشكلة إخفاء النتائج السلبية موجودة تقريباً في كلّ مجالات العلم، وهي تُشوِّه النتائج في مجالاتٍ شديدة التنوع، مثل تصوير المخ وعلم الاقتصاد، وتهزأ بكلّ جهودنا الرامية إلى إزالة عوامل التحيُّز من دراساتنا العلمية، ورغم كلّ ما يزعمه مسؤولو الرقابة الدوائية وشركات الأدوية، وحتى بعض الأكاديميين في هذا الشأن، فإنّ هذه المشكلة تُركت دون حلٍّ منذ عقود عديدة.
في الواقع؛ إنّها مشكلة متأصلة عميقة الجذور، لدرجة أنّنا حتى لو قمنا بحلها اليوم — وللأبد، دون أن توجَد أيّة ثغرات في تشريعاتنا، فإنّ هذا لن يُفيد في وقتنا الحاضر؛ لأنّنا سنظل نمارس الطبّ، ونُصدر قرارات بشأن العلاج الأفضل، استناداً إلى عقود مضت من الأدلة الطبية التي تعرَّضت، كما أوضحنا، لتشويه جوهري؛ فثمّة طريق طويل أمامنا".
رواية "على سبيل المثال"

تجارب سريرية لاختبار فعالية الدواء
الأزمة في مصر ودول العالم الثالث، على وجه الخصوص، لم تتوقف عند حدّ إخفاء بيانات التجارب، أو التصريح بتداول دواء يحتوي مواد مسرطنة، لكنّه يمتدّ أيضاً إلى إجراء تجارب سريرية لاختبار فعالية الدواء دون علم المرضى، المسألة التي تناولها الروائي المصري، سامح الجباس، في رواية بعنوان "على سبيل المثال"، الصادرة عن المركز الثقافي العربي، عام 2017، وقال الجباس في تصريح لـ"حفريات": "بسبب (غاية نبيلة) هي القضاء على المرض، تعمد بعض شركات الأدوية العالمية، إلى إجراء اختبارات على مرضى في دول العالم الثالث (دون علمهم أو موافقتهم)، وهذه كانت نقطة الانطلاق في روايتي "على سبيل المثال"، التي أظنّ أنّها الرواية العربية، الأولى ربما، التي تعالج مثل هذا الموضوع الغامض والمسكوت عنه، على مستوى الأطباء وشركات الأدوية".

اقرأ أيضاً: مطالب بتدخل أممي بعد حجز الحوثيين لأدوية خاصة بمرضى السرطان
بطلة الرواية تخضع لإغراء الدخول إلى مستشفى خاص ما، وتخضع للعلاج فيه حتى تتخلص من المرض الذي يسبّب لها ألماً لا يُطاق، لكنّها لم تكن تعرف أنّها تخضع لتجربة دواء تسبّب في تغيير حالتها تماماً، والرواية تقدّم، بشكل توثيقي، ذلك العالم الغامض بتاريخه السري وبوقائعه التي جرت في دول كثيرة.
يوضح الجباس: "من المعروف؛ أنّه لا يوجد دواء لا يجب أن يخضع لتجارب دقيقة  قبل أن يسمح باستعماله بشكل قانوني على البشر، ولكن لإجراء تجارب على البشر هناك مجموعة شروط وقوانين يجب اتباعها، منها أنّه يجب تنبيه المتطوع الذي ستجرى عليه التجارب إلى كلّ المخاطر التي قد تنجم عن إجرائها، والحصول على موافقته قبل القيام بأيّة تجربة، كما يجب إعلامه إن كان هناك علاج أكثر أماناً ويمكن أن يشفيه، كي يختار بين أن يرضى بأن يكون مجالاً للتجارب، أو أن يسلك الطريق الأسلم ويعالج بالأدوية المتعارف عليها عالمياً؛ لذا تعمد شركات تصنيع الدواء إلى تحويل هذه التجارب إلى مراكز أبحاث تجري تجاربها في الدول الفقيرة والمعدمة".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية