كيف تتجلى صورة الدولة في عقل تنظيم داعش؟

داعش

كيف تتجلى صورة الدولة في عقل تنظيم داعش؟


12/11/2019

لم يعد لتنظيم داعش أرض يحكم السيطرة عليها، وبذلك، بدا أنّ التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، حقّق غرضه، بسحب الأرض من تحت أقدام التنظيم، ليفقد دولته التي أعلن عن وجودها منذ العام 2007.
إلا أنّ التنظيم، وإن عاد للعمل السري المرتكز على الخلايا العنقودية في أدائه، فإنّه يظلّ رافعاً راية تلك الدولة رمزياً، حتى إن محقت فعلياً تحت قصف القنابل.

اقرأ أيضاً: "قوارير داعش" ... المغرب يفتح ذراعيه لضحايا البغدادي
ومع أنّ فقدان الأرض يفقد الدولة أحد أركانها، حتى في السياسة الشرعية، إلا أنّ التنظيمات الإسلامية تمتلك قدرة فائقة على تطويع النصوص، بما يلائم واقعها، والتقلبات الطارئة على أحوالها.
فإذا قدرت بأنّه حان لحظة "التمكين" لقيام دولة إسلامية، تتوافر فيها عناصر الدولة المعروفة، المكوّنة من أرض وشعب وحكومة، فإنّها تفعل ذلك بعد توافر تلك العناصر، إلا أنّها إذا فقدت إحداها، فإنّها ستبحث في الروايات والآثار فيما يكفل لها البقاء من الناحية الشرعية، حتى لو كان العنصر المفقود هو الأرض ذاتها.
 التنظيمات الإسلامية تمتلك قدرة فائقة على تطويع النصوص

السرّي والمكشوف
بعدما أوقف تنظيم الجهاد في مصر عملياته ضدّ الدولة، عام 1996، بحجّة عدم القدرة، خرج تنظيم القاعدة بإستراتيجية جديدة، تقضي باستهداف الولايات المتحدة وإسرائيل، باعتبارهما رأسَي الأفعى، والبقاء كتنظيم لا مركزي، يرتكز على خلايا عنقودية سرّية ونشطة، تسرح في الجسد العالمي، ويصعب صيدها والقضاء عليها.

التنظيمات الإسلامية تمتلك قدرة فائقة على تطويع النصوص بما يلائم واقعها والتقلبات الطارئة على أحوالها

لكنّ الغزو الأمريكي للعراق، عام 2003، وقيام جماعة التوحيد والجهاد، بزعامة أبي مصعب الزرقاوي، قد اضطر القاعدة للتغيير من إستراتيجيتها القاضية بقتال العدو البعيد، تحت إغراء التنظيم الوليد، الذي فوجئ به أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، قياديَّا القاعدة، فاضطرا لقبول بيعة "الزرقاوي" على الاختلاف البيّن بينهما في الإستراتيجية، وأولوية قتال الأعداء.
وبعد مقتل الزرقاوي، اتجه خليفته، أبو حمزة المهاجر، إلى تأسيس دولة إسلامية، على المثلث السنّي في العراق، بعدما اقتربت القوات الأمريكية من الانسحاب، بدعوى عدم السماح للفصائل السنّية الأخرى بقطف ثمرة القتال ضدّ القوات الأمريكية الغازية، والسيطرة على الزمام السنّي، بعد الاستحواذ على حصتهم في المشاركة السياسية.
الإمساك بالأرض
لم يكن هناك بدّ للتنظيم من الإمساك بالأرض، والظهور العلني للكثير من العناصر، بعد انعقاد حلف "المطيبين"، الذي جمع القاعدة مع فصائل سلفية أخرى، وتنصيب أبي عمر البغدادي أميراً للمؤمنين.
وفضلاً عن خروج التنظيم عملياً، من الدائرة الإستراتيجية للقاعدة؛ فإنّ كثيراً من المشتغلين في الحقل الجهادي، انتقد التحول إلى سياسة الاستحواذ على أراض، وظهور التنظيم إلى العلن.
في مقاله المعنون "الحقائق المخفاة حول دولة البغدادي" كتب أبو أحمد، الذي يعرّف نفسه بأنّه من مجاهدي خراسان والعراق والشام: "بعد استلام أبي حمزة المهاجر عمل بغير منهج الشيخ الزرقاوي من الناحية السرية والتشكيلات والمجاميع، وبدأ بالتعامل على أساس القوة والتمكين..".

اقرأ أيضاً: منتديات داعش: أكاديمية ضخمة لتعليم الإرهاب
لكنّ المهاجر وقف مدافعاً عن تلك السياسة، باعتبارها ضرورة، معتقداً أنّه قد حان وقت إقامة الدولة، غير مبالٍ بالواقع والحسابات السياسية والمنطقة، وبالاستناد إلى آيات قرآنية وأحاديث نبوية تعد بالنصر وخلافة الأرض للمؤمنين!
فعندما سئل المهاجر، في حوار صوتي أجرته معه مؤسسة "الفرقان" الإعلامية، التابعة للتنظيم: "أسلوب مسك الأرض أسلوب عسكري فاشل، فما ردّكم؟"، أجاب: "هذا كلام العاجز قليل الحيلة ضعيف الهمة، عديم الخبرة بعيد عن الساحة، وإلا فليعلم الجميع الأثر العظيم الطيب لأحداث الفلوجة الأولى، وما أعقبها من مسك الأرض، وكيف أنّ معظم الجماعات الجهادية أعلنت عن نفسها بعد هذه الأحداث مستفيدة من الأمن الذي حققه بدمائهم حينهاً رجال التوحيد والجهاد مع بعض المخلصين...".
أبو مصعب الزرقاوي

مآلات متشابهة
لكنّ مآلات التنظيم، في ظلّ هيمنة "البغدادي" الأول و"المهاجر" كانت ردّاً واضحاً على نتاج سياستهما، فقُتل الآلاف من العناصر، وسُجن مثلهم، وقُتل الرجلان في عملية عراقية أمريكية مشتركة، عام 2010.
ومع أنّ الأرض كانت قد سحبت من تحت أقدامهما قبل مقتلهما، إلا أنّ ذلك لم يكن مبرراً لهما لإسقاط الدولة، باعتبار أنّها فقدت عنصراً رئيساً من تعريفها ووجودها حتى الشرعي.
بل ذهب "المهاجر" لشرعنة وجود الدولة الفاقدة للأرض والأمن والمال، فتحدّث عن مفهوم الدولة الإسلامية، في تسجيل صوتي له، فرغه كتابياً الجناح الإعلامي في التنظيم تحت عنوان "الدولة النبوية"، زاعماً أنّها لم تكن تحكم سيطرتها على الأرض، ومع ذلك ظلّت دولة.

اقرأ أيضاً: لماذا يكره داعش الصوفية ويفجر أضرحتهم؟
يقول المهاجر: "انطبع عند كثير منا أنّ مفهوم الدولة الإسلامية هو مفهوم الدولة "الطاغوتية" نفسه، التي رسمها (سايكس- بيكو): وبعضنا يفهم خطأ أنّ مفهوم الدولة التي ينبغي قيامها، وإعلانها هي دولة "الرشيد" يخاطب فيها السحابة في السماء، ويغرف الذهب كالماء، ويرسل الجيوش التي أولها عند عدوّه، وآخرها في بغداد، فهيّا بنا نتجه إلى المدينة النبوية لنرقب ولو شيئاً يسيراً من حركة بناء الدولة النبوية..".
لم تكن آمنة مطمئنة
لا يعجز الرجل في اجترار روايات تظهر أنّ دولة النبي ﷺ، لم تكن بالقوة ولا التمكين المتصوّرَين، ويحاول إسقاط الروايات التي تشي بضعفها في البداية على حال تنظيمه، الذي تعرّض للشتات وخسارة الأرض، بعد تحالف الصحوات الذي نجح إلى حدٍّ كبير في تحطيم إمارته.

بعدما أوقف تنظيم الجهاد في مصر عملياته ضدّ الدولة عام 1996 خرجت "القاعدة" بإستراتيجية تقضي باستهداف أمريكا وإسرائيل

يبدأ المهاجر سلسلة من التساؤلات الطويلة التي سيجيب عنها فيما بعد، فيقول: "هل كانت المدينة فحسب ملاذاً آمناً يأوي إليها المستضعفون من المؤمنين، أم إنّها عهد جديد من التضحية بالنفس والمال، وفصل آخر من فصول الفقر، والخوف، والجوع، ونقص الأموال، والأنفس والثمرات؟".
يكمل تساؤلاته: "نريد أن نعرف؛ هل قامت الدولة النبوية، أول ما قامت، قوية راسخة متينة لا تهزها الريح ولا تأخذ فيها الفتن، أم إنّ القلوب بلغت الحناجر وظنّ الناس بربّهم الظنون؟
ويستطرد: "هل صحّت مزارع القوم ونشطت تجارتهم وزاد عدد رجالهم، أم حصد القتل في سبيل الله شبابهم وشيوخهم وتعطلت تجارتهم وبارت مزارعهم؟".
هل كانت تلك الدار عذبة الماء طيبة الهواء، أم إنّها أرض كثيرة الوباء آجلة الماء؟
هل كانت الجيوش النبوية وافرة العدد والعدة، أم كما وصف الله ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ في قلة العدد ورثاثة العدة وضيق المعاش؟".

توظيف براغماتي
ينفي المهاجر هذه الصفات عن الدولة النبوية، ويسوق عشرات الروايات التي تؤكّد زعمه، ويؤكّد أنّ دولة النبي ﷺ كانت فاقدة للأمن والاستقرار، كلّ هذا من أجل تثبيت وصف الدولة على إمارته التي لم تعد تسيطر على أرض يعيش فوقها شعب.
يقول: "روى الإمام أحمد والشيخان وابن إسحاق، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: "لما قدم رسول الله ﷺ المدينة، قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، وكان واديها يجري نجلاً، يعني ماء آجناً، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقماً، وصرف الله ذلك عن نبيه".

اقرأ أيضاً: هل تستعين إيران بداعش لإفشال ثورة العراقيين؟!
وعن عائشة، رضي الله عنها، كما في الصحيح؛ أنّ بلال لما وعك كان يقول: "اللهم العن شيبة ابن ربيعة، وعتبة ابن ربيعة، وأمية بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء".
وعن فقدان الأمن في المدينة يقول المهاجر: "كانت حياة الصحابة الكرام في الدولة النبوية حياة خوف ووجل وترقّب، وحذر دائم، خاصة في مرحلة تأسيسها الأولى وأيام المحن؛ ففي الصحيح، عن أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله ﷺ أحسن الناس وأشجع الناس، قال: ولقد فزع أهل المدينة ليلة سمعوا صوتاً، قال فتلقاهم النبي ﷺ على فرس لأبي طلحة عري، وهو متقلد سيفه فقال: "لم تراعو لم تراعوا"، ثم قال رسول الله ﷺ: "وجدت بحراً يعني الفرس، فدلّ استنفار الناس لأجل الصوت أنّهم كانوا يفزعون ويستنفرون لأدنى خطر، ولو كان احتمالياً، كصوت صخرة وقعت من قمة جبل، وهو ما يشابه اليوم أصوات الانفجارات التي يحدثها العدو، أبعده الله".
فقدان الأمن
ولم يستطع المهاجر، في التنظير لمسألة الدولة بدون أرض، أن يثبت أنّ دولة النبي ﷺ فقدت يوماً سيطرتها على أرض يثرب، أو أنّ أعداءه استطاعوا أن يجتاحوها يوماً، بل نجح في صدّ التحالف العشائري ضدّه في غزوة الأحزاب، وظلّت المدينة ذات سيادة حتى لو تعرضت لمشكلات أمنية في حالة الحرب.
يسترسل المهاجر في سرد الروايات التي تؤكّد أنّ دولة النبي ﷺ لم تكن آمنة، رغم شذوذ رأيه إذا وضع في سياقات روايات السيرة المعتبرة، فيقول: "كان النبي ﷺ أول قدومه المدينة يرهق نفسه في حراسة نفسه حذراً من الأعداء، وآخذاً بالأسباب، إلى أن نزل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾.
يكمل: "ففي الصحيح: عن عائشة، رضي الله عنها، كان النبي ﷺ سَهِراً، فلمّا قدم المدينة قال: "ليت رجلاً من أصحابي صالحاً يحرسني الليلة"، إذ سمعنا صوت سلاح فقال: "من هذا؟" فقال: "أنا سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك"، ونام النبي ﷺ، وفي رواية حتى سمعنا غطيطه.
دولة فقيرة!
أما عن الحالة الاقتصادية التي تعيشها الدولة النبوية الناشئة، فيقول المهاجر: كانت حالة فقر قاتل، لم يستثنِ أحداً، صغيراً كان أو كبيراً، ففي الصحيح عن أيوب عن محمد، قال: كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان، فقال: "بخ بخ"، أبو هريرة يتمخط في الكتان؟ لقد رأيتني، وإنا لآخر فيما بين منبر رسول الله ﷺ إلى حجرة عائشة مغشياً عليّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي، ويرى أني مجنون، وما بي من جنون، ما بي إلا الجوع".
يتابع المهاجر: فهؤلاء أضياف كرام في مسجد رسول الله؛ حيث يرى جميع الصحابة يخرون صرعى من الجوع، وقسوته، لا يملك لهم أحد شيئاً.
روى ابن داوود عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه؛ أنّه دخل على فاطمة والحسن والحسين يبكيان، فقال: ما يبكيهما؟ قالت: الجوع.
ويضيف: سكن النبي في بقعة من أرض الجزيرة كان يحوطها الكفار واليهود والمنافقون، ووصل جيشه إلى 700 فرد وتعرّض للهزيمة في أحد، وللحصار في الخندق، ومع ذلك فهي كانت دولة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية